الأبعاد الاستراتيجية لانتشار "داعش" في غرب أفريقيا ودول الساحل

مع انهيار "داعش" في العراق وسوريا انتقلت عناصره وأفكاره إلى غرب أفريقيا لتنشر في دول الساحل، وتحالفت دول بينها أميركا وفرنسا لمحاربته، لكن بعد سنوات تبيّن أنّ هذه الدول لم تكن جادّة في محاربة الإرهاب، كما يقول الأفارقة في دول الساحل.

  • الأبعاد الاستراتيجية لانتشار
    الأبعاد الاستراتيجية لانتشار "داعش" في غرب أفريقيا ودول الساحل

وجود المنظّمات المتطرّفة والإرهابية، بالعناوين الدينية أو القبلية أو الطائفية ومرتزقة يشتغلون لصالح قوى أجنبية، ليس أمراً طارئاً على أفريقيا. ففي التسعينيات من القرن الماضي ضربت "القاعدة "في كينيا وتنزانيا وفي القرن الأفريقي والجزائر خلال العشرية السوداء، لتستقرّ في النهاية في الصحراء الكبرى. لكن في السنوات الأخيرة سرق تنظيم "داعش" الأضواء بسرعة انتشاره في أفريقيا. 

عندما تولّى الرئيس الأميركي باراك أوباما مقاليد السلطة في البيت الأبيض، وضع جدولة زمنية لإنهاء الاحتلال الأميركي للعراق بنهاية سنة 2011. خلال ذلك تشكّلت نواة تنظيم "داعش"، ولاحقاً إقامة ما سمّي "دولة الخلافة"، لتبدأ الولايات المتحدة إرسال قوات عسكرية ضمن تحالف للقضاء على التنظيم.

هكذا يُستعمل إرهاب "داعش" كذريعة لعودة أميركا إلى العراق لمحاربته في العراق وسوريا ضمن تحالف دولي تقوده أميركا. وشيئاً فشيئاً تحوّلت الحرب على الإرهاب في سوريا إلى احتلال لشرق وشمال شرقي سوريا استهدف الاستيلاء على منابع النفط وحماية الانفصاليين الكرد.

مع بوادر انهيار التنظيم في العراق وسوريا، بدأ "تهريب" "داعش" نحو أفريقيا قارة المستقبل الغنية بثرواتها الطبيعية والتي تشهد تنافساً وصراعاً عليها من قبل قوى عالمية (أميركا - أوروبا – الصين- روسيا). فظهر "داعش" في ليبيا والقرن الأفريقي ومنطقة الساحل وغرب أفريقيا ووسطها وجنوبها الشرقي وجنوبها.

كما سيتمّ "تهريبه" نحو أفغانستان. إذ بين نهاية عام 2014 وأيار/مايو 2021، عندما كانت أميركا تسحب قواتها تدريجياً من أفغانستان، ظهر في شرقها تنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان"، التي تشمل آسيا الوسطى وجنوب آسيا. تلك المنطقة الغنية بثرواتها الطبيعية خصوصاً الغاز واليورانيوم وتمرّ فيها أنابيب الغاز من آسيا الوسطى نحو أوروبا وطرق الحرير التي تعمل الصين على بنائها في إطار مبادرتها "الحزام والطريق". بمعنى آخر ظهر هذا التنظيم في منطقة طالما سعت أميركا لبسط نفوذها فيها، منطقة قال عنها مستشار الأمن القومي الأميركي بريجينسكي: "من هيمن على الأوراسيا هيمن على العالم". 

ظهر "داعش" في الهند وبنغلاديش والفلبين وأندونيسيا، أي قرب مناطق حسّاسة بالغة الأهمية للتجارة العالمية والنقل البحري "مضيق مالاقا"، أو مرشّحة لصراعات إقليمية "جنوب شرق آسيا" بين قوى عظمى "الصين- الهند- اليابان- أميركا – أندونيسيا- أستراليا...".

ظهور "داعش" في ليبيا وبلاد الساحل

في عهد أوباما تبنّت الإدارة الأميركية سياسة تهدف إلى "وضع اليد"على أفريقيا، فاستقرّت بوصلتها سنة 2011 على ليبيا حيث ساهمت قواتها الجوية والبحرية وأقمارها الصناعية في الحرب التي شنّها الناتو، بتحريض من فرنسا على هذا البلد، وأدت إلى تصفية معمر القذافي والإطاحة بنظامه. وفي خضمّ الفوضى الهدّامة التي ضربت ليبيا، ظهر تنظيم "داعش" الذي أسس "ولاية ليبيا" في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، بمدينة درنة على يد محاربي لواء البتار، الذين شاركوا في حربي العراق وسوريا، وعادوا إلى ليبيا ليشكّلوا "مجلس شورى شباب الإسلام"، الذي كان له ثلاثة فروع في ليبيا: برقة في الشرق وطرابلس في الغرب وفزان في الجنوب.

أثار وجود "داعش" في ليبيا قلق الدول الأوروبية التي كانت تخشى من أنّ عنف "داعش" وتجارته في الهجرة غير الشرعية سيدفع بموجات كبيرة من اللاجئين إلى الشواطئ الأوروبية، وسيرفع من خطر تسلّل "إرهابيين" بين اللاجئين ليهدّدوا أمن أوروبا. أما فرنسا التي كانت لها أطماع تاريخية في منطقة فزان، فقد حرصت على أن تكون موجودة في منطقة فزان لاعتبارين: الأول، لأنها منطقة غنية بالنفط الذي تستثمر فيه شركاتها النفطية، والثاني، لأنّ هذه المنطقة تحاذي النيجر حيث تتمركز قوات "برخان" الفرنسية لحماية مصالحها في منطقة الساحل،وخاصة في النيجر، التي تستغلّ فيها العديد من المناجم أهمها مناجم اليورانيوم.

انطلاقاً من ليبيا والنيجر، دعم "داعش" وجوده المسلّح في منطقة بحيرة تشاد،التي تتقاسمها كلّ من نيجيريا والنيجر والكاميرون وتشاد. وهي المنطقة التي تنشط فيها 4 تنظيمات إرهابية: "بوكو حرام"،"القاعدة"،"داعش-ولاية غرب أفريقيا" (ISWAP )، و"تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" (EIGS). كما تنشط فيها جماعات أخرى ذات صبغة إثنية مثل الطوارق والفولانيين الذين ينتشرون مع ماشيتهم في الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

تأسس ما يعرف بتنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" في 13 أيار/مايو 2015، وينشط بشكل رئيسي في المناطق الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، المعروفة باسم المثلّث الحدودي أو ليبتاكو-غورما. وقد نفّذ الكثير من العمليات في هذه المنطقة، كما شارك في معارك في جنوب الجزائر وبنين ونيجيريا. وقد طالت عملياته القوات الأميركية والفرنسية، كما طالت قوات فاغنر الروسية وعمال مناجم صينيين في النيجر. وقد تمّ تصنيف هذا التنظيم بالعدو رقم واحد لفرنسا ودول مجموعة الساحل الخمس،كما أدرج زعيم التنظيم عدنان أبو وليد الصحراوي على قائمة الإرهابيين المطلوبين لوزارة الخارجية الأميركية. 

أما تنظيم "داعش" في غرب أفريقيا، فقد نشأ عام 2016، في إثر انشقاق داخل جماعة "بوكو حرام" التي نشأت سنة 2009 في نيجيريا. وعرف عنه وعن بوكو حرام تطرّفهما وعنفهما المفرط.

في بداية انتشار "داعش" في الساحل وغرب أفريقيا، كانت هناك حالة من التعايش بينه وبين التنظيمات المتطرّفة (خصوصاً القاعدة وبوكو حرام). لكن ابتداءً من 2017، اشتعلت الحرب بين "داعش" وبوكو حرام والقاعدة من أجل الهيمنة على الساحل وحوض بحيرة تشاد ومحيطه الممتدّ بين نيجيريا والنيجر والكاميرون وتشاد والذي يشكّل عمقاً جغرافياً لهذه الجماعات.

أسفر الصراع عن مقتل 1100 من المسلحين، خلال الفترة بين 2019 وبداية 2023. وقد وصف أبو عبيدة العنّابي قائد القاعدة، "داعش"، بالخوارج، مؤكداً: "ليس بيننا وبينهم سوى الحرب". من جهته اتهم "داعش" قادة الفصائل التابعة للقاعدة كـ "أمادو كوفا" زعيم جبهة تحرير مآسينا، وإياد أغالي زعيم "جبهة نصرة الإسلام والمسلمين" بالتعاون مع الأجانب وعدم تنفيذ الشريعة والاستعداد للانفتاح على حلول سياسية مع أنظمة بلدانهم.

خلال نيسان/أبريل 2023، تمكّن "داعش" من توسيع سيطرته في شرق وشمال شرق مالي، كما تمكّن من توسيع نشاطه في بنين ونيجيريا. وقد أدّى العنف بين الجماعات المسلحة وبين هذه الجماعات وجيوش بلاد الساحل إلى أزمة إنسانية بالغة الخطورة حيث سقط عشرات الآلاف من القتلى جلّهم من المدنيين ونزح 2.9 مليون شخص في أيار/مايو 2024 في منطقة بحيرة تشاد ومالي والنيجر ونجيريا.. 

الحرب على الإرهاب: معركة واحدة بأهداف متعارضة

فرنسا - أوروبا

أمام عجز جيوش دول الساحل في مواجهة الإرهاب، عُقدت في الثالث عشر من كانون الثاني/يناير 2020 قمة بمدينة "باو" بجنوب غرب فرنسا، لتعزيز مُكافحة الإرهاب في الساحل، حضرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورؤساء دول مالي والنيجر وتشاد وموريتانيا وبوركينا فاسو. وقد استهدفت فرنسا من هذه القمة:

- تعزيز شرعية وجود قواتها في الساحل.

- حثّ دول أوروبية على زيادة مشاركتها في الحرب على الإرهاب في الساحل الأفريقي وخاصة ضد تنظيم "داعش"، باعتبار أفريقيا قاعدة خلفيّة لأوروبا. 

- قطع الطريق على الولايات المتحدة وروسيا في منطقة الساحل.

 وقد أسفرت القمّة عن تأسيس "التحالف من أجل الساحل"، جمع بين قوات دول الساحل وقوة عملية "برخان" الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل (تأسست في 1 آب/أغسطس 2014) ومقرها في انجامينا عاصمة تشاد، وقوات الدول الأوروبية المشاركة في مكافحة الإرهاب في الساحل تحمل اسم "تاكوبا" (تأسست في تشرين الثاني/نوفمبر 2019).

الولايات المتحدة الأميركية

منذ انطلاق نشاطها الفعلي في تشرين الأول/أكتوبر 2008، تكفّلت قوات "الأفريكوم" الأميركية العاملة في أفريقيا، بالتصدّي لمخاطر "الإرهاب" في هذه القارة. لكن، يبدو أنّ العديد من الدول الأفريقية التي تعاني من الإرهاب ترى اليوم أنّ "الأفريكوم" و"برخان" و"تاكوبا"، لم تكن يوماً جادّة في إيقاف توسّع الجماعات الإرهابية في الأراضي الممتدة من مالي إلى شمال نيجيريا.

ويبدو أنّ النيجر ومالي وبوركينا فاسو على الأقل قد اقتنعت أنّ مهام الأفريكوم إنما يدخل في إطار الاستراتجية الأميركية العالمية للسيطرة على منابع البترول والثروات المعدنية، خصوصاً اليورانيوم والعناصر الأرضية النادرة، ومراقبة الممرات البحرية، ومواجهة التوسّع الصيني والروسي في أفريقيا، ومحاصرة الاتحاد الأوروبي والحدّ من مطامعه في القارة الأفريقية.

فاغنر/ روسيا

نجحت روسيا في تعويض الوجود الغربي في الساحل، خصوصاً بعد انسحاب القوات الأميركية والفرنسية والأوروبية، وإلغاء الاتفاقيات المتعلّقة بالتعاون الأمني العسكري. لكنّ إنجازات قوات فاغنر الروسية بالرغم من الأضرار التي ألحقتها بـ "داعش" والتنظيمات المتطرّفة تبقى محدودة، إذ تركّز على فرض هيمنتها على المناطق الغنية بالموارد الطبيعية، كما تقوم بفرض مجموعة اشتراطات على الأنظمة الحاكمة لتقديم المساعدة.

ولعلّ الضربة التي تعرّضت لها فاغنر على يد "داعش" (مقاتلون من الأزواد) بنهاية شهر تموز/يوليو 2024 وكبّدتها وكبّدت الجيش المالي خسائر في الأرواح في شمال مالي على الحدود مع الجزائر لدليل على صعوبة الحرب ضدّ "داعش".. دفعت هذه العملية روسيا لاتهام أوكرانيا بدعم الجماعات الإرهابية وخاصة "داعش" في دول الساحل.

"انقلابات" مالي - بوركينا فاسو – النيجر

في آب/أغسطس 2020 شهدت مالي انقلاباً عسكرياً. اتهم الحكّام الجدد، الغرب وفرنسا بعدم جدّيتهم في قتال المجموعات الإرهابية، واتهموا الغرب بأنه يستعمل هذه المجموعات لضمان استدامة وجودهم في مالي، وابتزاز حكوماتها كي تسمح لهم بالهيمنة على ثروات البلاد (تعتبر مالي ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا ومنتجاً كبيراً للقطن في العالم). لهذا قام الحكّام الجدد باستبدال القوات الفرنسية والغربية بقوات فاغنر الروسية لاقتناعهم أنّ الروس سيقاتلون "داعش" بطريقة أفضل. وقد شهدت العلاقات بين مالي وفرنسا توتراً كبيراً أدى إلى طرد السفير الفرنسي من مالي في الشهر الأول من عام 2022. وقد أكملت فرنسا سحب قواتها من مالي العام 2022 بعد تحرّكات شعبية معادية لها.

في 23 كانون الثاني/يناير 2022،قام جيش بوركينا فاسو بانقلاب عسكري بذريعة تدهور الوضع الأمني وتصاعد التمرّد الإسلامي، وعجز الرئيس عن إدارة الأزمة. والمعروف أنّ بوركينا فاسو ظلت منذ عام 2015، تقاتل تنظيم "داعش" والقاعدة. ولم يُخفِ العسكريون البوركنابيون استياءهم من نقص المعدّات العسكرية واللوجستية وتهاون التحالف الدولي ضد الإرهاب.

في 23 كانون الثاني/يناير 2023 أكدت بوركينا فاسو أنها طلبت من فرنسا سحب قواتها المتمركزة في عاصمة البلاد واغادوغو وإنهاء الاتفاق العسكري بين البلدين الموقّع في نهاية العام 2018. وكما حدث في مالي قبل بضعة أشهر، بدأ التحرّك المعادي لفرنسا في شوارع واغادوغو في نهاية 2022 عندما خرجت تظاهرات تطالب برحيل الجنود الفرنسيين من البلاد أمام فشلهم في وضع حدّ لنشاط تنظيمي "القاعدة" و"داعش".. وقد حمل المتظاهرون أعلام روسيا. وفي يوم الأحد 19 شباط/فبراير 2023 احتفلت بوركينا فاسو بخروج القوات الفرنسية.

بعد خروج فرنسا من أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، وقّعت النيجر اتفاقية شراكة عسكرية مع الاتحاد الأوروبي في 2022،فتحوّلت إلى قاعدة انطلاق لمحاربة "داعش" حيث وُجِد فيها: 3 قواعد فرنسية تضمّ 1500 جندي عدا المواقع اللوجستية التي تُستخدم في التدريب، القواعد الأميركية أنشئت في 2016 بمنطقتي أغاديس ونيامي وفيها 1100 جندي وخبير، مركز لوجستي ألماني يضمّ قوات عسكرية، قوات إيطالية وكندية تشترك في تدريب القوات الخاصة النيجرية.

كما استضافت النيجر مناورة "فلينتوك"، التي يجريها سنوياً حلف (الناتو) وقوات العمليات الخاصة الأميركية في أفريقيا.

لكنّ هذا الوجود سينتهي مع الانقلاب الذي عرفته النيجر في 26 تموز/يوليو 2023، بدعوى ارتفاع تكلفة المعيشة وعدم كفاءة الحكومة والفساد وإطلاق يد فرنسا في ثروات البلاد. وقد نظّمت تظاهرة مؤيّدة للانقلاب في 27 تموز/يوليو 2023، استنكر المتظاهرون فيها الوجود الفرنسي ووجود قواعد أجنبية أخرى ورفعوا الأعلام الروسية، وعبّروا عن دعمهم لوجود قوات فاغنر في النيجر .

الخاتمة

بالرغم من الضغوط التي مورست على الدول الثلاث التي عرفت الانقلابات من طرف المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والبنك الدولي والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة والتهديد بسحب المساعدات الاقتصادية والمالية والعسكرية وتعليق اتفاقيات التعاون الأمني معها، تحاول هذه الدول الثلاث الصمود أمام التهديدات، وتعمل على مجابهة التحديات والتغلّب عليها وفي مقدّمتها مواجهة الإرهاب.

أصرّت هذه الدول على التخلّص من القوات الفرنسية والغربية لاقتناعها أنها غير جادّة في محاربة الإرهاب خصوصاً "الداعشي". ولربما هي مقتنعة أنّ انتشار "داعش"، خصوصاً، هدفه منع استقرار المنطقة وتوظيف وجود هذا التنظيم لابتزاز الأنظمة ووضع اليد على ثروات الشعوب أو للتضييق على وجود قوى منافسة كالصين وروسيا وحتى تركيا وإيران.

الملفت للنظر، أنه حيثما انتشر "داعش" حلّت أميركا مدعومة أحياناً بحلفائها والعكس صحيح أحياناً. إنه مزيج من العلاقة التكافليّة symbiotic relationship، والعلاقة التضادية/التصادمية Confictual relationship/ Collisional بين أميركا و"داعش".