اقتصاد "إسرائيل" على مذبح الحرب
تعيش "إسرائيل" الآن حالة تباطؤ اقتصادي، فعام كامل من الحرب قد استنزف مواردها بما فيه الكفاية، وألقى بكاهل الأزمة على قطاع كبير من المستوطنين.
مرَّ عام بأكمله منذ رأينا مقاومين فلسطينيين يتخطون "سياج غزة الذكي" ويتوجهون إلى المستوطنات المحيطة بها ليعيدوا فلسطين إلى الواجهة، ويذكِّروا العالم بطبيعة الاستعمار الصهيوني. ومنذ اليوم الأول للمعركة، التي تحولت في ظرف أيام قليلة إلى حرب إبادة جماعية، ركَّزت "إسرائيل" جميع مقدّراتها الاقتصادية نحو الحرب، وارتفع الإنفاق العسكري وتعطَّلت العديد من خطوط الإنتاج والأعمال الخدمية.
تعيش "إسرائيل" الآن حالة تباطؤ اقتصادي، فعام كامل من الحرب قد استنزف مواردها بما فيه الكفاية، وألقى بكاهل الأزمة على قطاع كبير من "الإسرائيليين".
لم يكن من الممكن للكيان الصهيوني أن يقدر على الاستمرار في هذه الحرب لمدة عام بأكمله لولا الدعم الإمبريالي، الاقتصادي واللوجستي والعسكري، والمرجَّح أن يزداد بوتيرة سريعة في وقت قصير نتيجة توسُّع المعركة.
تُصعِّد جميع جبهات الإسناد مستوى نشاطها بوتيرة متسارعة، وأصبح لنشاطها آثار وعواقب وخيمة. وذلك يعني أن كلفة الحرب الحالية ستزداد بشكل كبير، ويُرجَّح أن يستمر تباطؤ "الاقتصاد الإسرائيلي"، هذا إن لم تُستهدف بُناه التحتية، العسكرية والإنتاجية والخاصة بالطاقة، وتتوقف "إسرائيل" عن العمل كُليّاً خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
حالة التباطؤ الاقتصادي هذه تعبَّر عنها جملة من المؤشرات نعرض بياناتها في ما يأتي في ظل توسُّع الحرب ومخاطر استمرار استنزاف "الاقتصاد" الإسرائيلي.
خفَّضَ عدد من وكالات التصنيف الائتماني تصنيف "إسرائيل" من "+A" إلى "A"، ما يشير إلى زيادة المخاطر الاقتصادية والأمنية والتوترات الجيوسياسية، التي تعيق الطريق أمام الاستثمارات الآمنة وتقود إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وعجز موازنة الحكومة، في ظل أزمة سياسية محلية وتضخم آخذ في الازدياد، وخسارة كبيرة تعاني منها عدد من قطاعات الاقتصاد نتيجة الحرب وتصاعد الضغوط المالية. وعلاوة على ذلك، بلغ الدين العام للحكومة الإسرائيلية في الربع الأول من العام الجاري ما يزيد على 1.2 تريليون شيكل (نحو 336 مليار دولار)، بزيادة تتخطّى 10% مقارنة بالربع الثالث من العام الماضي، ما يعكس مستويات مرتفعة بشكل غير طبيعي من الإنفاق العام خلال هذه الفترة بسبب الحرب.
شهد الناتج المحلي الإجمالي في "إسرائيل" تراجعاً خلال الربع الرابع من العام الماضي، وبدلاً من أن ينمو بنسبة 3.4% على مدار العام الجاري كما كان متوقعاً، يُرجَّح أن يستمر في التراجع لينمو بنسبة 1 إلى 1.9% فقط. وبالرغم من الارتفاع النسبي في احتياطيات النقد الأجنبي لدى "إسرائيل"، التي بلغت بحلول نهاية شهر يوليو/ تموز الماضي نحو 214 مليار دولار، يُرجَّح أن ترتفع نسبة الدين إلى نحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام الجاري، وتتجاوز نسبة 71% التي وصلتها في ذروة جائحة "كوفيد-"19 لتبلغ نحو 75% في العام المقبل. وبلغ معدل التضخم السنوي نحو 3.7% بحلول نهاية أغسطس/آب الماضي، مقارنة بنحو 3.2% في نهاية مايو/أيار الماضي، وارتفعت أسعار المساكن منذ بداية العام الجاري وحتى أغسطس/آب الماضي بنسبة تزيد على 3.5%، وارتفعت الإيجارات الجديدة بنحو 4.2% في يونيو/حزيران الماضي.
والجدير ذكره، هنا، أن وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، كان قد حدد في مستهل سبتمبر/ أيلول الماضي إطار ميزانية الحكومة لعام 2025، وقدَّر عجز الموازنة بنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن عجز الموازنة ارتفع خلال العام الجاري ليتجاوز 8.1% في يوليو/ تموز الماضي. وتشمل الميزانية تخفيضات في الإنفاق لإدارة تكاليف الحرب، وتجميد رواتب عدد من المسؤولين ودمج شريحتين من ضريبة الدخل (10% و14%)، وتحتاج التعديلات في الميزانية إلى نحو 35 مليار شيكل (نحو 9.5 مليار دولار) لتحقيق هدف العجز، الذي يُرجَّح أن يصل إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي إذا استمرت الحرب في التوسُّع.
هناك ما يزيد على 250 ألف مستوطن نزحوا من شمال فلسطين ومستوطنات "غلاف غزة"، وغادر ما يزيد على 100,000 عامل فلسطيني الأراضي المحتلة، إضافة إلى استدعاء ما يزيد على 300,000 جندي احتياطي، ما يعني أن عدداً كبيراً من المنتجين، سواء في الصناعة أو الزراعة أو القطاعات الأخرى، توقّفوا عن العمل وتعطَّلت العديد من خطوط الإنتاج والمشاريع الجديدة. وعلى سبيل المثال، لا يُرجَّح أن يتعافى الاستثمار في قطاع البناء، الذي انخفض بنسبة 53% في الربع الأخير من العام الماضي. وتراجعت عوائد قطاع السياحة مع انخفاض عدد الزوار وإغلاق العديد من المنشآت السياحية، وقُدِّرَت خسائر القطاع بنحو 5 مليارات دولار منذ بداية الحرب.
وعلاوة على ذلك، يُتوقع أن تُغلق حوالي 60,000 شركة أبوابها بحلول نهاية العام الجاري وتعلن إفلاسها، في حين أُغلِقَ حتى شهر مضى أكثر من 47,000 شركة، نحو 80% منها شركات صغيرة تضم خمسة موظفين أو أقل، بسبب الانخفاض الحاد في حجم الأعمال والعمليات وارتفاع أسعار الفائدة وتكاليف التمويل، فضلاً عن اضطرابات الخدمات اللوجستية وسلاسل التوريد.
شهدت صادرات وواردات "إسرائيل" اتجاهاً تنازلياً بدأ في الربع الثالث من عام 2022 وبلغ ذروته في الربع الرابع من العام الماضي مع بداية الحرب، ثم بدأت في التحسن قليلاً في مستهل العام الجاري. بلغ إجمالي قيمة الصادرات نحو 37 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري، منخفضة بنسبة تزيد على 6% عن الفترة نفسها من العام الماضي. وبالمثل، بلغ إجمالي قيمة الواردات في الربع الأول من العام الجاري نحو 33.6 مليار دولار، منخفضة بنسبة تزيد على 7% عن الفترة نفسها من العام الماضي. ومن المرجَّح أن تشهد الصادرات والواردات انخفاضاً آخر نتيجة توسُّع نطاق الحرب وتعطٌّل بعض خطوط الإنتاج والإمداد، إلى جانب منع بعض الدول مثل تركيا وكولومبيا تصدير السلع إلى "إسرائيل" بسبب الجرائم التي ترتكبها في غزة.
ويقدِّر الخبراء أن تكاليف الحرب في "إسرائيل"، منذ بدايتها وحتى نهاية العام الجاري، ستتراوح بين 250 إلى 300 مليار شيكل إسرائيلي (نحو 78 مليار دولار)، وسيؤدي الارتفاع في الإنفاق العسكري بمعدل يزيد على 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً بمستويات ما قبل الحرب، إلى زيادة تكاليف التعبئة العسكرية في غزة والضفة وفي شمال فلسطين، إضافة إلى تكاليف توسيع نطاق التجنيد الإجباري وتعزيز الإنتاج العسكري المحلي. ومن المرجَّح أن تبلغ تكاليف الحرب نحو 13% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العام الجاري، بالإضافة إلى النفقات العسكرية الأساسية التي تتراوح عادةً بين 4.5 و6.5%.
توضح البيانات المذكورة أعلاه أن "الاقتصاد الإسرائيلي" يعاني أزمات هيكلية حادة نتيجة الحرب المستمرة، إذ أدى ارتفاع الدين العام بشكل كبير إلى تعقيد إدارة الإنفاق الحكومي، مع تخصيص حوالي 13% من الناتج المحلي الإجمالي لتغطية تكاليف الحرب، ما يعكس تحولاً كبيراً نحو الإنفاق العسكري على حساب القطاعات الأخرى. هذا الاختلال في التوازن بين الإنفاق العسكري واحتياجات الاقتصاد سيؤثر على اقتصاد "إسرائيل" على المدى الطويل، إذ تستنزف الحرب الموارد التي كان من الممكن استثمارها في نشاطات أخرى، ويؤثر النزوح الكبير للمستوطنين وخروج العمال الفلسطينيين بالسلب مباشرة على الإنتاج، خاصة في قطاعات حيوية مثل البناء والزراعة. إجمالاً، توضِّح البيانات فشلاً في إدارة الميزانية والإنفاق الحكومي، إلى جانب غياب رؤية استراتيجية للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم بسبب الحرب الطويلة الآخذة في التوسُّع.
جميع هذه البيانات ترصد المشهد الاقتصادي حتى شهر مضى، أي قبل اتساع ساحة المعركة وتصاعد وتيرة الاشتباك العسكري في جنوب لبنان. إن حرب الإبادة الجماعية الجارية الآن في فلسطين ولبنان تُلقي "الاقتصاد الإسرائيلي" على طاولة مذبحها، وإلى جانب تكبُّد العديد من الخسائر الكبرى خلال العام الماضي، فإنه اليوم عرضة لمزيد من المخاطر الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية التي قد تنتج عن توسع الحرب في المنطقة، ولا سيما بعد استشهاد السيد حسن نصر الله وتصعيد عناصر محور المقاومة لمستوى إسنادها في المعركة.
إن تصاعد وتيرة الاشتباكات العسكرية من جانب لبنان والعراق واليمن، واحتمال التصعيد مع إيران وسوريا يعني أن هناك زيادات إضافية في الإنفاق العسكري الإسرائيلي ستكون مصحوبة بارتفاع الدين العام وتفاقم التضخم والبطالة نتيجة تعطُّل القطاعات الاقتصادية الحيوية. وفي حال توسَّعت المعركة ودخلت على خطها قوى إقليمية ودولية، فإنه ليس من الصعب توقُّع قصف البنى التحتية في "إسرائيل" وضرب عصب اقتصادها، الأمر الذي سيقود إلى مزيد من التباطؤ الاقتصادي وانعدام الأمان، إلى جانب زيادة الهجرة العكسية ونزوح المستوطنين. وللحرب أيضاً آثار اقتصادية إقليمية وعالمية ستتضح خلال الأشهر المقبلة، ومن المرجَّح أن ترتفع أسعار النفط والغاز إذا ما توسَّعت.
تحاول "إسرائيل" استعادة معادلة الردع بالاغتيالات ومحاولة قطع خطوط الإمداد وتعطيل فاعلية وحدة الساحات عبر تكثيف الضربات داخل سوريا وعلى الحدود مع لبنان وفي اليمن، وقد تشمل هذه الضربات إيران أيضاً خلال الأيام المقبلة، أما ضرب العراق فهو مسألة مرهونة بمدى تحييده عن ضرب القواعد الأميركية بداخله. وفي ظل غياب فاعلية الجهود الدبلوماسية لوقف الحرب، مع مماطلة إسرائيلية وتحدّي للقانون الدولي، فإن توسُّع الحرب احتمالية لا مفر منها، وهذا يضع الاقتصاد الإسرائيلي في مربع الخطر، ويحمِّله ما لا يستطيع تحمُّله، في سياق حرب استنزاف تعرف المقاومة كيف تديرها.