إيران وروسيا: محاور شراكة في زمن التصدّع الإمبريالي

التفاهمات الإيرانية-الروسية تشهد تصاعداً نوعياً في وقت تتراجع فيه الهيمنة الإمبريالية (الولايات المتحدة والغرب الأوروبي) بينما يتقدّم محور أوراسي يُراكم أدوات الردع ويعيد تعريف موازين القوّة.

  • إيران وروسيا: محاور شراكة في زمن التصدّع الإمبريالي
    إيران وروسيا: محاور شراكة في زمن التصدّع الإمبريالي

لم تكن زيارة مستشار قائد الثورة والجمهورية الإسلامية في إيران علي لاريجاني إلى موسكو مجرّد مناسبة بروتوكولية، وإنما بدت علامة متقدّمة على تصعيد نوعي في التفاهمات الإيرانية-الروسية، وسط مناخ إقليمي يقترب من إعادة التشكل تحت ضغط النار والرصاص. اللقاء بين لاريجاني والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يأتِ من فراغ، وإنما ترافق مع تحركات موازية على المستويين العسكري والدبلوماسي، تزامناً مع استئناف طهران لمحادثاتها النووية مع الأوروبيين في إسطنبول. كل هذه التحركات، التي تبدو منفصلة في ظاهرها، تُشكّل في عمقها محاولة منسّقة لإعادة التموضع الإيراني-الروسي في بيئة دولية مشبعة بالتقلبات، حيث تتراجع الهيمنة الإمبريالية (الولايات المتحدة والغرب الأوروبي) بينما يتقدّم محور أوراسي يُراكم أدوات الردع ويعيد تعريف موازين القوّة.

للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية-الأميركية على إيران قبل أسابيع، يظهر لاريجاني كمبعوث خاص للقيادة الإيرانية في قلب الكرملين، حاملاً رسالة واضحة من السيد خامنئي، ومعه سلسلة من الملفات الثقيلة، من بينها البرنامج النووي و"آلية الزناد" والتنسيق العسكري والاستخباري في قلب الأزمات الممتدة من بحر قزوين إلى غزة. بوتين، من جانبه، لم يخفِ انزعاجه من العدوان على إيران، لكن موقف روسيا ليس على غرار الصين. فروسيا، المثقلة باستنزاف مستمر في أوكرانيا، تبحث عن طريقة لتثبيت نفوذها من دون الانزلاق إلى حرب مباشرة، لكنها في الوقت ذاته تدرك أن خسارة طهران ستشكّل ضربة استراتيجية لمشروعها الأوراسي برمّته، وخاصة في خطوط النقل والطاقة.

زيارة وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زادة إلى موسكو بالتزامن مع زيارة لاريجاني تعطي مؤشراً إضافياً على أن المسألة تجاوزت حدود المجاملات الدبلوماسية. ففي الوقت الذي تتعرض فيه المنشآت الإيرانية لهجمات متكررة، وتُهدد العقوبات مجدداً كل شرايين الاقتصاد، تأتي هذه اللقاءات لتدفع نحو تطوير ملموس في مستوى التعاون الدفاعي. إيران لا تبحث اليوم عن بيانات تضامن لفظي، وإنما عن تحالفات صلبة تمكّنها من امتصاص الضغط العسكري والاقتصادي الغربي. أما روسيا، التي جنت من التعاون الإيراني فوائد كبيرة، فتدرك أن لحظة رد الجميل قد تكون أقرب من أي وقت مضى، وأن دعم طهران ليس مجرد خيار، وإنما ضرورة لتفكيك شبكات الهيمنة الإمبريالية في محيطها المباشر.

لكن موسكو لا تزال تتعامل ببعض من الحذر مع طهران، وهي إذ تعلن مراراً دعمها "الحقوق المشروعة" لإيران في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، إلا أنها حذرة من أي "اندفاعة" إيرانية نحو "عتبة السلاح النووي" على الرغم من تأكيد القيادة الإيرانية عدم سعيها لامتلاك سلاح نووي. وهذا الحذر ينبع من حرص روسي على الإبقاء على التوازن الإقليمي القائم. ومن هنا فإن دعم روسيا لإيران يُبقي لنفسه هامش مناورة محسوب، يمنح موسكو أوراقاً مع طهران من دون أن يدفعها إلى "تخطي الخطوط الحمراء؛ وقد يكون هذا استنتاجاً خاطئاً، إذ إن بوتين لوّح أكثر من مرة أن بلاده على استعداد كامل للتعاون مع طهران وصولاً حتّى إلى اتفاقية دفاع مشترك، وهذا يدعم فكرة أنه ليس بمقدورنا تشكيل رؤية شاملة للتعامل الروسي مع إيران استناداً إلى التصريحات والمواقف الدبلوماسية: إن ما يحدث خلف الستار ليس بقليل.

في هذا السياق، تشكّل مناورات بحر قزوين الأخيرة إحدى حلقات إعادة التموضع الاستراتيجي الإيراني، ليس فقط دفاعاً عن مياهها الإقليمية، وإنما في مواجهة التهديدات المتنامية على حدودها الشمالية، خصوصاً مع تصاعد التنسيق العسكري بين أذربيجان وتركيا، ومحاولة واشنطن النفاذ إلى تلك المنطقة الحساسة. فبحر قزوين، الذي لطالما اعتُبر بحيرة روسية محمية، تحوّل الآن إلى نقطة ارتكاز أمنية لإيران أيضاً، ضمن شراكة دفاعية غير معلنة، لكنها باتت تأخذ طابعاً أوضح مع المناورات، وزيارات الوفود العسكرية، والتصريحات المتكررة عن الأمن الجماعي للدول الساحلية. والأهم من ذلك أن هذه التحركات تأتي بينما تسعى أنقرة لإقامة قواعد على الضفة الأخرى، وهو ما تعتبره موسكو وطهران خطراً استراتيجياً مشتركاً.

التحول في الدور الإيراني لا يقتصر على الساحة العسكرية، وإنما يمتد إلى ميدان المفاوضات النووية أيضاً. فعلى الرغم من العدوان الغربي الأخير، وافقت طهران على استئناف المحادثات مع "الترويكا" الأوروبية، ليس من موقع ضعف، وإنما كرسالة مزدوجة: أولاً، أن إيران لا تزال تُجيد استخدام أدوات الدبلوماسية حين ترى فيها مصلحة، وثانياً، أنها تضع الكرة في ملعب الأوروبيين لتحديد ما إذا كانوا سيتصرفون كوسطاء جادين أم مجرد ملحقين بواشنطن. والجولة المرتقبة في إسطنبول تُعدّ اختباراً دقيقاً لهذا التوازن، إذ تُصرّ طهران على أن أي تفاوض لا بدّ أن يمر بإدانة العدوان وتقديم تعويضات وضمانات بعدم تكراره، وهي شروط تنسف المقاربة الغربية التي تحاول اختزال الأزمة في نسبة التخصيب أو المراقبة.

وبالتوازي مع المفاوضات، تدير إيران معركة أخرى في مجلس الأمن، حيث تسعى واشنطن وحلفاؤها إلى إعادة فرض العقوبات من خلال ما يسمى "آلية الزناد" – تتيح فرض العقوبات على إيران تلقائياً ودون تصويت أممي إذا خالفت الاتفاق النووي – مستندين إلى بند في الاتفاق النووي بات غير ذي معنى سياسياً منذ انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018. الموقف الإيراني واضح: لا شرعية لأي عقوبات أممية تصدر عن منتهكي الاتفاق أنفسهم، والرد سيكون سياسياً وقانونياً أولاً، وقد يتطور إلى إجراءات ميدانية لاحقاً. وبالمقابل، يحاول الأوروبيون التوفيق بين ضغط واشنطن من جهة، وحسابات المصالح مع طهران من جهة أخرى، مدفوعين بهاجس الخوف من استبعادهم نهائياً من أية تسوية محتملة، سواء كانت مع إيران أو بين طهران وواشنطن مباشرة.

إن الرهان الغربي على تفكيك الصمود الإيراني من خلال العقوبات والعدوان لم يثمر إلا مزيداً من التعقيد. إذ لم تذهب إيران نحو الانهيار كما تخيَّل البعض، وإنما عززت تحالفاتها أكثر ووسعت حضورها الإقليمي وجعلت من البرنامج النووي رمزاً للكرامة الوطنية لا يمكن التخلي عنه تحت أي ضغوط. والتصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي تعبّر عن هذا الثبات، وهو يُعلن أن التخصيب سيستمر، وأن أي تفاوض لن يكون إلا من موقع الندّية، وليس من موقع التوسل لرفع العقوبات. وبالمقابل، تتعالى الأصوات داخل أوروبا حول مخاطر التصعيد، وتبدأ التحذيرات من تداعيات اقتصادية وانفجارات محتملة في أسواق النفط وسلاسل الإمداد، إذا ما جرى تفعيل "آلية الزناد" بالفعل.

وروسيا من جانبها تتحسس لحظة فارقة في علاقتها بطهران، فالمجال لا يزال مفتوحاً لتعزيز التعاون الاستراتيجي، وربما الذهاب نحو شراكة أعمق تشمل التسلّح والتصنيع العسكري وخلق آليات للتبادل خارج المنظومة الغربية. غير أن موسكو مطالبة الآن بالخروج من المنطقة الرمادية، فإما أن تثبّت موقعها في محور مقاومة الهيمنة، أو تظل أسيرة التردد والحسابات المتضاربة، التي لم تمنع واشنطن من فرض عقوبات جديدة على الغاز والنفط الروسيين حتى اللحظة الأخيرة. وعلى العكس من ذلك، تبدو الصين أكثر وضوحاً في خياراتها، وإن كان ذلك من وراء الستار، عبر شحنات السلاح والتكنولوجيا الدفاعية، والدعم السياسي في المنظمات الدولية، والدفع الحثيث لتوسيع مشروع الحزام والطريق على الأراضي الإيرانية رغم الحصار.

اليوم يُعاد رسم المشهد الإقليمي برمّته في ظل تراجع المشروع الأميركي-الغربي وتورّط "إسرائيل" في مأزق مفتوح، إلى جانب تقدّم محور أوراسي يضم إيران وروسيا والصين – ويمتد أوسع ليشمل مجموعة "البريكس" وتحالفات إقليمية أخرى في القارة اللاتينية – لا يقتصر طموحه على صدّ العدوان، وإنما على إعادة تنظيم الخريطة الدولية. ولكن هذا المحور لا يزال يواجه اختبارات قاسية، في تناغمه ووحدته الداخلية أولاً، وفي قدرته على التنسيق العملياتي والميداني، وفي سعة الصدر أمام الضغوط الاقتصادية والسياسية التي لن تتوقف. واللافت أن إيران، التي كانت تُوصَف سابقاً بالدولة المحاصَرة، تحوّلت اليوم إلى عقدة مركزية في قلب هذه التحولات، تلجأ إليها روسيا والصين، وتتقاطع حولها خطوط الأزمات من زنجزور إلى قزوين، ومن بيروت إلى غزة.

ويبرز في خلفية هذا المشهد سؤال بالغ الحساسية: هل تذهب واشنطن إلى مواجهة مباشرة إذا فشلت أدوات الضغط غير العسكري؟ إن المؤشرات الأخيرة توحي بأن إدارة ترامب تحاول تجنّب هذا السيناريو، لكنها قد تنجر إليه تحت ضغط حسابات انتخابية أو خشية من سقوط المشروع الصهيوني في لحظة فراغ. وإذا حدث ذلك، فإن الانزلاق نحو حرب واسعة لن يكون مجرّد تصعيد في إحدى جبهات "الشرق الأوسط"، وإنما تحوّل استراتيجي يقلب توازنات النظام العالمي، ويُسرّع الانهيار التدريجي لهيبة الإمبراطورية الأميركية، ويمنح محور المقاومة العالمي دفعة هائلة في مسار تثبيت خياراته.

وبينما تحبس العواصم أنفاسها بانتظار ما ستُفضي إليه مفاوضات إسطنبول، يواصل الإيرانيون، بهدوء ودأب، رصّ صفوفهم الداخلية، وترميم ما أُصيب من منشآتهم، وتعزيز خطوطهم الدفاعية، وتوسيع قنوات تحالفهم مع الشرق. أما الغرب، فيغرق في لعبة شدّ الحبال، بين إدارات مأزومة، وتحالفات مترنّحة، ومشاريع تطبيع تُخفي فشلها خلف جعجعة إعلامية لا تصمد أمام الحقائق. وفي هذا المشهد المتشابك، لا تبدو طهران في موقف المستجدي ولا العاجز، وإنما في موقع من يُراكم أوراقه، ويعيد خلط أوراق العالم من بوابة المقاومة والسيادة والممانعة، في زمن يُعيد فيه التاريخ اصطفافه من جديد.

اخترنا لك