أميلكار كابرال.. من مهندس زراعي إلى مناضل أممي

كيف نجح المناضل الغيني والزعيم الثوري أميلكار كابرال في قيادة كفاحٍ مسلح أنهى الاستعمار البرتغالي في غينيا بيساو والرأس الأخضر؟

  • أميلكار كابرال.. من مهندس زراعي إلى مناضل أممي
    الزعيم الثوري أميلكار كابرال

"نحن نقاتل، والبنادق في أيدينا. اضطررنا للقيام بذلك.. لتصفية الحكم الاستعماري". المناضل الغيني أميلكار كابرال، 1961.

عند الإتيان على ذكر أبرز شخصيات نضال التحرّر العالمي البارزة، أمثال تشي غيفارا، فيديل كاسترو، توماس سنكارا، أحمد سيكو توري، وغيرهم، لا بدّ من الوقوف مطوّلاً عند المناضل الغيني والزعيم الثوري أميلكار كابرال، الذي لا يقلّ شأناً عنهم، ولا سيما أنه يُعدّ أحد أهم قادة التحرّر في أفريقيا في القرن العشرين.

عُرف كابرال بكونه "أب التحرّر" في غينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر، واشتهر بحنكته واستراتيجيته الكبيرة، إذ كان عسكرياً لامعاً وزعيماً ثورياً ومفكّراً سياسياً، فقد جمع بين الفكر والعمل العسكري وبُعد النظر حول مستقبل أفريقيا.

ويُعتبر كابرال أحد أهم المناضلين الأفارقة الذين قادوا كفاحاً مسلحاً وضع حدّاً للاستعمار البرتغالي في كلّ من غينيا بيساو والرأس الأخضر، وأدّت الثورة التي ترّأسها إلى تفكيك الإمبراطورية البرتغالية في أفريقيا وانهيار النظام الفاشي في لشبونة.

فكيف نجح المهندس الزراعي الغيني في إنهاء الاستعمار البرتغالي في بلاده؟

بدايات صعبة

ولد أميلكار لوبيز دا كوستا كابرال في 12 أيلول/سبتمبر 1924 في بافاتا، وهي بلدة صغيرة في وسط غينيا بيساو. انحدر والده من عائلة ثرية وذات نفوذ من الرأس الأخضر، على عكس والدته الغينية التي كانت تنتمي لعائلة فقيرة.

لم يطُل الأمر حتى انفصل والداه حينما كان كابرال في الخامسة من عمره، وهو ما كان له تأثير واضح على طفولته، حيث كافحت والدته من أجل الاعتناء به وبأشقائه بعد تدهور وضعهم المالي. بدايات المناضل الثوري الصعبة انطبعت في نفسه، وهو الأمر الذي دفعه لاحقاً ليتحدث عن الفقر كأحد الأسباب التي دفعته إلى الثورة ضد الاستعمار البرتغالي.

كان أميلكار بالكاد يبلغ من العمر 11 عاماً عندما تسبّبت المجاعة الناجمة عن حصار الجيش الاستعماري في وفاة الآلاف من سكان الرأس الأخضر. لقد تنقّل كثيراً بين غينيا والرأس الأخضر. ولكن على الرغم من ذلك، كان طالباً مميّزاً. في غينيا بيساو في ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى عدد قليل من خريجي الجامعات في جميع أنحاء البلاد، بسبب السياسة العنصرية في البرتغال، وهو ما كان يعني أنّ قلة قليلة من الناس في مستعمراتها يمكنهم الوصول إلى التعليم العالي.

ومع ذلك، أظهر كابرال قدرة أكاديمية استثنائية، ليسافر إلى البرتغال عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره، بعد حصوله على منحة لدراسة الهندسة الزراعية في المعهد العالي للزراعة في لشبونة.

وأثناء دراسته في لشبونة، وجد كابرال وقتاً للانخراط في العمل الاجتماعي والسياسي، فشارك في تأسيس حركات طلابية معارضة للدكتاتورية الاستعمارية البرتغالية، وانخرط في العمل مع "حركة مناهضة الاستعمار"، و"لجنة تحرير الأراضي الواقعة تحت السيطرة البرتغالية".

في البرتغال، عرّفه زملاؤه الطلاب الأفارقة بالأيديولوجية الاشتراكية، وأمضوا الكثير من وقتهم في الدراسة والمناقشة ووضع الاستراتيجيات بشأن كيفية إنهاء الهيمنة الاستعمارية على بلادهم، وعن مدى قدرتهم في إلهام شعوبهم للمشاركة في النضال ضد الاستعمار.

نضالٌ طويل

  • أميلكار كابرال.. من مهندس زراعي إلى مناضل أممي
    الثائر الكوبي فيدل كاسترو مع أميلكار كابرال (أرشيف)

سنة 1950، عاد المكافح الشاب إلى أفريقيا. عمل لعدة سنوات كمهندس زراعي، وهو ما وفّر له فرصة كبيرة للتعلّم مباشرة من الفقر المدقع والمعاناة الشديدة لشعبه، وخاصة في الريف، الأمر الذي جعله أكثر تصميماً على إيجاد طرق ووسائل للعمل من أجل حرية بلده.

بدأ كابرال نشاطه المناهض للاستعمار بعد عودته إلى بلاده، حيث حاول تأسيس جمعية سياسية قومية تحت غطاء الأنشطة الثقافية والرياضية في غينيا، إلا أنّ السلطات الاستعمارية اكتشفت الجمعية فحظرتها وطردته من البلاد عام 1954-1955، فانتقل إلى أنغولا وانضم إلى "الحركة الشعبية لتحرير أنغولا"، إلى جانب صديقه السياسي والشاعر أغوستينو نيتو، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لأنغولا.

وخلال زيارة سرية له إلى غانا، أسّس كابرال الحزب الأفريقي للاستقلال في 19 أيلول/سبتمبر 1956، بالتعاون مع مجموعة من الثوّار، ليقود بذلك عملية بناء أنجح حركة حرب عصابات في أفريقيا وبناء حزب سياسي قوي ومنضبط.

وعلى الرغم من أنّ نوايا الحزب في البداية كانت القيام بحملة سلمية من أجل الاستقلال، إلا أنّ هذا الأمر تغيّر بعد مذبحة "بيدجيغيتي" سنة 1959، حيث فتح الجنود البرتغاليون النار على عمال الموانئ المتظاهرين في ميناء بيساو، ما أسفر عن مقتل 50 منهم. اقتنع الحزب بعد هذه الحادثة بأهمية الكفاح المسلح، ليتمّ إعلان الكفاح المسلح في آذار/مارس 1962.

اعتمد كابرال تكتيكات حرب العصابات في المناطق الريفية، وتحت قيادته، نجح الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر في تحرير ثلاثة أرباع ريف غينيا في أقل من 10 سنوات من النضال الثوري.

وخلال هذه الأعوام، بنى كابرال صلات وثيقة مع الدول الأفريقية المحررة، ولا سيما في غينيا وغانا وتنزانيا والجزائر وليبيا، وكذلك حركات التحرّر التي تقاتل الاستعمار في جنوب أفريقيا وأنغولا وموزمبيق.

إلا أنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أقام علاقات وثيقة مع المعسكر الاشتراكي برمّته، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي، والصين، وجمهورية ألمانيا الديمقراطية، وكوبا، وفيتنام، ليضع الحزب الأفريقي بذلك نضاله ضد الاستعمار في إطار الكفاح العالمي ضد الإمبريالية.

ومع تعاظم شهرته وبروز دوره النضالي على الصعيد العالمي، فُسح المجال لكابرال للتحدّث أمام لجنة حقوق الإنسان لمنظمة الأمم المتحدة سنة 1968. وبعدها بعامين، استقبله بابا الفاتيكان باولو السادس.

موتٌ غادر

بطبيعة الحال، فقد شكّل ما قام به حزب كابرال تهديداً عميقاً لما كان يسعى إليه الاستعمار من بقاء نفوذه وسطوته. لذلك، وبالتواطؤ مع فرنسا، غزَت البرتغال غينيا كوناكري والسنغال في فترة 1969-1970، لتحقيق هدف تدمير الحركة الأفريقية المتصاعدة.

لكن بعد فشل محاولة الغزو البرتغالي، اعتمدت لشبونة نهجاً مختلفاً، حيث قامت باغتيال الزعيم الأفريقي بدعم من الشرطة السرية البرتغالية في كوناكري مطلع عام 1973، قبل أشهر من استقلال غينيا بيساو.

وكان توقيت اغتياله مدروساً، إذ علمت الحكومة البرتغالية بنوايا حزبه بإعلان الاستقلال في البلاد ذلك العام. لذلك، استغلّت الانقسامات داخل الحزب للتخلص منه، وقامت باغتياله على يد أحد أعضاء الحزب، ويدعى إنوسينسيو كاني.

إلا أنّ شجاعة كابرال وجّهت الشعبين في غينيا والرأس الأخضر نحو الاستقلال بعد ذلك. بعد المأساة، أعادت الحركة ترتيب صفوفها. قاد شقيق أميلكار، لويز دي ألميدا كابرال، برفقة الرئيس المستقبلي للرأس الأخضر أرتيسديس بيريرا، الأشهر الستة التالية حتى تتويج ثورة القرنفل في عام 1974.

لم يعش كابرال ليرى النصر النهائي للنضال الوطني التحرري الذي قاده، وحُرمت غينيا بيساو والرأس الأخضر من القيادة الحكيمة التي من دون شكّ كان سيقدّمها في فترة استقلال بلاده. لكن بعد أكثر من 4 عقود من غدر رفيق دربه به، تخلّد اسمه داخل أفريقيا وخارجها، حيث تمّت تسمية مؤسسات أكاديمية ومبانٍ حكومية وساحات عامة باسمه.

ومع أنه لم يبقَ حياً لإنجاز كل ما شرع في القيام به، إلا أنّ إرثه سيبقى ملهماً لأجيال من الأفارقة وغير الأفارقة، الذين يواجهون تحديات الظلم والقمع والاستغلال. ففي أقل من 20 عاماً من الحياة السياسية الفعّالة، قاد كابرال الوطنيين في غينيا بيساو إلى أكثر النجاحات السياسية والعسكرية اكتمالاً على الإطلاق التي حقّقتها حركة سياسية أفريقية ضد سلطة استعمارية.

لقد تفرّد بالتزامه وتضامنه مع كل قضية عادلة في العالم، كما أنه ربط النضال ضد الاستعمار في بلاده ليس فقط بحركات الاستقلال الأخرى في المستعمرات البرتغالية، ولكن أيضاً بفيتنام وفلسطين. امتدّ نفوذه إلى ما هو أبعد من العالم الناطق بالبرتغالية وأفريقيا، وحاز على إعجاب الأصدقاء والأعداء على السواء بفكره ومهاراته السياسية، ورأوا فيه زعيماً جديراً بالاحترام والتقدير.

إلا أنّ الأهمية التاريخية لكابرال لا تنحصر في كونه أحد قادة التحرّر الأفارقة فقط، بل تكمن أهمية دوره في مجهوده النظري والتحليلي للمشاكل التي تواجهها الدول الأفريقية ما بعد الاستقلال. وأدّى اهتمام كابرال بالقضايا النظرية، إلى حدّ وصفه بأعظم منظّر لحركة النضال ضد الاستعمار والإمبريالية في أفريقيا، حيث أثّرت أعماله على شخصيات بارزة في النضال من أجل تحرير السود على مستوى العالم.

كمنظِّر ثوري، كمحرّض ملهم، كمقاتل حرب عصابات، وكأممي لا يساوم، يستمر إرث كابرال في تخليد النضال العالمي ضد الإمبريالية، ويستمر في فكر جميع من يواصلون الكفاح من أجل عالم خالٍ من كل أشكال الظلم والاضطهاد.