أزمة اقتصادية تعصف بالإكوادوريين.. واحتجاجات مستمرة ضد نوبوا
أوجدت حالة العجز المستمر في الإكوادور مناخاً سياسياً سلبياً، في وقت تعاني خلاله المعارضة انقسامات وتسعى فيه للترابط والحوار، مع ما يعيشه الإكوادوريون من حالة عدم يقين متزايد بشأن المستقبل.
تشهد الإكوادور اليوم أزمات اقتصادية واجتماعية والسياسية خطيرة ممتدة منذ نهاية العام الماضي، أي قبل عام ونيف عندما انتخب دانيال نوبوا رئيساً للبلاد، ويصاحب ذلك موجة احتجاجات عارمة، كان آخرها خلال الفترة من 15 إلى 21 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، عندما خرجت تظاهرات لعدة نقابات ومنظمات اجتماعية في مختلف أنحاء البلاد، وفي العاصمة كيتو ومدينة غواياكيل بشكل أساسي، بقيادة "الجبهة العمالية الموحدة" للتنديد بسياسات الحكومة وانقطاع التيار الكهربائي. على أن سلسلة الاحتجاجات هذه بدأت في مستهل تموز/يوليو الماضي، عندما نظمت نقابات عمالية ومنظمات اجتماعية تظاهرات كبيرة ضد قرار الرئيس نوبوا الذي يقضي بإلغاء دعم الوقود، وشارك آنذاك المعلمين والطلاب والمتقاعدين، وحاصر المحتجّون القصر الحكومي في كيتو.
واجهت معظم هذه الاحتجاجات المستمرة منذ 6 أشهر قمع الشرطة، وأثبتت فيديوهات منشورة على الإنترنت أن الشرطة ضربت المتظاهرين بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع واعتقلت العشرات منهم. وخلال التظاهرات الأخيرة في العاصمة كيتو، طرح "اتحاد القوميات الأصلية في الإكوادور"، أكبر منظمة للسكان الأصليين في البلاد، عدة مطالب ملموسة لإدارة نوبوا، تشمل جمع الضرائب غير المدفوعة من أغنى الناس في البلاد (ومن بينهم عائلة الرئيس نفسه)، ووقف نفقات الدعاية لصالح الحكومة مع استثمارها في معالجة المشاكل العاجلة، والإعلان بشفافية عن الاتفاقيات التي وقعتها الحكومة لمواجهة أزمة الطاقة، وإعلان الجيش ولائه للدستور، والقضاء على التعدين غير القانوني، واحترام سعر الحليب.
تأتي هذه الاحتجاجات الأخيرة وسط أزمة طاقة طاحنة، استمرت منذ مستهل سبتمبر الماضي، يعاني المواطنون في ظلها حالياً من انقطاع الكهرباء لمدة تصل إلى 12 ساعة يومياً، ويرجِّح بعض الخبراء أن هذه الفترة قد تمتد إلى 18 ساعة في اليوم. وألقى انقطاع التيار الكهربائي بظلاله في التباطؤ الذي أصاب الاقتصاد الوطني، والهبوط الحاد الذي يعاني منه الإنتاج المحلي، الذي انخفض بنسبة تصل إلى 40%، فضلاً عن تسريح العمال وارتفاع معدلات البطالة المصاحب لإغلاق الشركات. ويحذِّر خبراء اقتصاديون من خسائر مالية ضخمة ستظهر أرقامها خلال العام المقبل، في ظل النفقات الإضافية التي تتكبدها الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي فقدت نحو 30% من قدرتها التشغيلية بسبب انقطاع الكهرباء، بسبب اضطرارها إلى شراء مولدات كهربائية لتأمين سير العمل.
ومع ذلك تراجع النشاط التجاري بشكل كبير وانخفضت الإيرادات، وانخفض الإنتاج الزراعي، وارتفعت أسعار الغذاء، وشهد القطاع الصحّي مشكلات عديدة، وتراجعت نشاطات وعوائد قطاع السياحة بشكل حاد. ويشير فرانسيسكو جارّين، رئيس غرفة صناعات غواياكيل، إلى أن كل ساعة انقطاع كهرباء تكلّف الإكوادور نحو 12 مليون دولار، ما يعني أن البلاد تكبدت خسائر تجاوزت 3.6 مليار دولار خلال شهر واحد من أزمة الطاقة، وهو ما شكَّل ضربة قاسية للاقتصاد الإكوادوري الذي كانت مؤشراته تتراجع بالفعل على مدار الربع الأخير من العقد الماضي. ومع الخسائر المالية الضخمة في العديد من القطاعات الاقتصادية، شهد النمو الاقتصادي في الإكوادور تباطؤاً انعكس في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بواقع 2.2% في الربع الثاني من العام الجاري، أي ما يعادل نحو 2.6 مليار دولار خسائر نتيجة للأزمة.
قدَّمت إدارة الرئيس نوبوا على مدار العام الجاري وعوداً بحل أزمة الكهرباء، ولكن لم تكشف الحكومة بعد عن الخطوات التي ستتخذها ولا الاتفاقيات التي ستبرمها في ذلك الصدد. في الواقع، لا ترغب حكومة نوبوا في التغلب على الأزمة، وإنما تريد تعميقها لتبرير دفع اقتصاد البلاد إلى تحوّل واضح في سياسته الوطنية نحو الليبرالية الجديدة. تريد الحكومة من وراء الانقطاعات الطويلة المستمرة للتيار الكهربائي أن تنهار شبكة الكهرباء، وذلك من أجل تبرير خصخصتها خلال الفترة المقبلة، استكمالاً لآخر الاتفاقيات التي وقعتها حكومتا مورينو ولاسو السابقتان مع صندوق النقد الدولي. إن تجاهل نوبوا لتحذيرات ونصائح وزير الكهرباء السابق، أنطونيو جونكالفيس، ثم عزله عن منصبه في مستهل أكتوبر الماضي وتعيين وزيرة البيئة، إينيس مانزانو، وزيرة مؤقتة بدلاً عنه، لهو دليل واضح على أن الحكومة لا تريد حل الأزمة، وتُرجع أسباب عدم القدرة على حلّها إلى عدم استعداد الحكومات التي سبقتها.
ولا تقتصر الأزمة في الإكوادور على مشكلة انقطاع الكهرباء والآثار المترتبة عليها وحسب، وإنما يحيط بالإكوادوريين أيضاً أزمة أمنية عاصفة، ارتفعت معها معدلات جرائم القتل منذ بداية العام الجاري ووصلت إلى 5700 حالة. وانتهز الرئيس نوبوا هذه الأزمة، بدعوى التعاون الدولي لمكافحة انعدام الأمن وتهريب المخدرات، وأعلن في تشرن الأول/أكتوبر الماضي نيته إقرار تعديل دستوري يسمح بإنشاء قواعد عسكرية أجنبية على أرض البلاد، وهو الأمر الذي يحظره الدستور منذ عام 2008. أثارت هذه الخطوة جدلاً واسعاً، ورأى عديدون أن هذه الخطوة مدفوعة بالمصالح الجيوسياسية الأميركية وطموحات الرئيس نوبوا السياسية قبل الانتخابات الرئاسية في العام المقبل. والجدير ذكره هنا، أن الإكوادور استضافت سابقاً قاعدة عسكرية أمريكية في مدينة مانتا، ولكنها تفككت ورحلت عن البلاد خلال حكم الرئيس رافائيل كوريا، الذي دافع عن سياسات تركز على السيادة الوطنية.
ويخشى العديدون أن يمهد هذا التعديل الدستوري الطريق لإقامة قاعدة في جزر غالاباغوس تخدم المصالح الأميركية ضد الصين، بدلاً من معالجة تحديات الأمن في الإكوادور. وبينما أظهرت الأحزاب اليمينية دعمها للتعديل الدستوري، رفضت المعارضة، بما في ذلك حزب "ثورة المواطنين" الذي يقوده كوريا، مقترح التعديل الدستوري واعتبرته استراتيجية شعبوية تهدف إلى صرف الانتباه عن مشكلات البلاد، وأكَّدت أن الحكومة الحالية تسعى إلى استغلال هذا التعديل المثير للجدل لتعزز موقفها. ولقد وافقت المحكمة الدستورية على تقدم الاقتراح إلى الجمعية الوطنية، حيث يتطلب الأمر موافقة تشريعية قبل أن يُعرض للاستفتاء العام، والمرجَّح أن يصاحب انتخابات الرئاسة المقبلة، ما يعني أن البلاد ستعاني مزيداً من الاستقطاب السياسي حول هذه القضية.
لقد تغيرت الحياة في الإكوادور بشكل جذري خلال الأعوام الماضية، ويزداد استياء الشعب يوماً بعد يوم. كان البعض قبل عدة أشهر يرون أنه من المحتمل أن يفوز الرئيس نوبوا في الانتخابات القادمة، لكن هذا لم يعد أمراً مؤكداً. لم تستطع حكومة الرئيس نوبوا، مثل حكومتي الرئيسين السابقين مورينو ولاسو، استكمال خطة بناء السدود الكهرومائية التي بدأها الرئيس كوريا، ما يترك البلاد دون حل قصير أو متوسط المدى لأزمة الطاقة المستمرة، وسط تحذيرات الخبراء باحتمال أن تستمر الأزمة حتى شهر مارس المقبل، وهو الأمر الذي يمثَّل ضربة موجعة للاقتصاد الوطني.
ويتضح مما سبق أن نوبوا يسير على نفس الطريق الليبرالي الجديد الذي ثَبُت انسداده مع مورينو ولاسو من قبله، ولكن الحكومة الحالية لا تواجه أزمة انقطاع الكهرباء وحدها، وإنما أيضاً الأزمة الاقتصادية المتفاقمة بسببها، إلى جانب ارتفاع مستويات الجريمة في المجتمع. وفي مواجهة هذه الأزمات، فشلت سياسات حكومة الرئيس نوبوا في تقديم حلول حقيقية، بل اعتمدت على إجراءات غير فعّالة، تخدم في الأغلب تعزيز موقف نوبوا أمام الشعب، استعداداً للانتخابات الرئاسية المقبلة. ولقد أوجدت حالة العجز المستمر هذه مناخاً سياسياً سلبياً، في وقت تعاني خلاله المعارضة انقسامات وتسعى فيه إلى الترابط والحوار، وهو ما لا ينفي، مع ذلك، حالة عدم اليقين المتزايد لدى الإكوادوريين بشأن المستقبل.