"ستارلينك" في لبنان: ثورة تقنية أم بوابة أميركية قد تخدم الاحتلال الإسرائيلي؟

مجلس الوزراء اللبناني يوافق على ترخيص "ستارلينك"، خطوة تثير مخاوف أمنية ومخالفات قانونية وسط تحذيرات من مخاطر سيادية وتحوّل الخدمة لأداة تجسّس.

  • "ستارلينك" في لبنان: ثورة تقنية أم بوابة أميركية قد تخدم الاحتلال الإسرائيلي؟

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، وافق مجلس الوزراء اللبناني على منح ترخيص لشركة "Starlink Lebanon" لتشغيل خدمة الإنترنت الفضائي في البلاد. ورغم أنّ الخطوة تبدو في ظاهرها تقدّماً تقنياً طال انتظاره، إلا أنها تثير موجة من المخاوف الأمنية والاستخباراتية، ولا سيما في ظلّ العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان.

فكيف يمكن الفصل بين مشروع أميركي ضخم كهذا، وبين واقع التحالف العضوي بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"؟ وهل يتحوّل الإنترنت الفضائي إلى ممر تجسّس جديد يخترق لبنان من البوابة التقنية؟

ما هو "ستارلينك"؟

من الناحية التقنية، تبدو "ستارلينك" فكرة ثورية. آلاف الأقمار الصناعية الصغيرة في مدار أرضي منخفض تتواصل فيما بينها وتزوّد المستخدمين بإنترنت سريع وزمن استجابة منخفض، حيث يمكن أن توفّر إنترنت بسرعة تتجاوز 150 ميغابت/ثانية.

ميّزة المشروع أنه يتجاوز البنى التحتية التقليدية ويصل إلى المناطق النائية التي تفتقر إلى شبكات الهاتف الأرضية أو الخلوية.

إلّا أنّ هذا الوجه البرّاق يخفي أبعاداً أخرى. "ستارلينك" لا تبدو خدمة مدنية بحتة، بل تُطرح أيضاً كواجهة اقتصادية يمكن أن تخفي وراءها أدواراً عسكرية واستخبارية: فحين يخرج الإنترنت من يد الدولة ويمر عبر أقمار أميركية، من يضمن أن البيانات اللبنانية لن تصبح جزءاً من بنك المعلومات الأميركي - الإسرائيلي؟

وما يزيد المشهد تعقيداً أنّ إيلون ماسك، مالك الشركة،  ليس مجرّد رجل أعمال تقني، بل شخصية سياسية مثيرة للجدل عُرفت بقربها من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وسبق أن تدخّل عبر مشاريعه وشبكاته في صراعات دولية.

تجربة أوكرانيا: الإنترنت في خدمة الحرب

أثبتت التجارب في عدة دول أنّ هذه التقنية قادرة على التحوّل سريعاً إلى أداة فاعلة في ساحات الصراع.

الحالة الأوضح كانت أوكرانيا. منذ اندلاع الحرب، تحوّلت "ستارلينك" إلى شريان اتصالات حيوي للقوات الأوكرانية.

 -استُخدمت لتأمين التواصل بين الوحدات العسكرية.

-ساعدت في تشغيل الطائرات المسيّرة وتوجيهها في الميدان.

-حافظت على شبكة اتصالات ميدانية رغم الضربات الروسية.

هذه التجربة جعلت الخبراء ينظرون إلى "ستارلينك" كأداة عسكرية بامتياز، حتى وإن غُلّفت بخطاب "خدمة الإنترنت للمواطنين". والسؤال: إذا حصل هذا في أوكرانيا، فلماذا لا يتكرّر في أيّ بلد آخر؟

مجلس الوزراء اللبناني يقرّ الترخيص 

في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء اللبناني، أُقرّ الترخيص لشركة  "Starlink Lebanon"، على أن تبدأ الخدمة للشركات والمؤسسات، بكلفة تبدأ من نحو 100 دولار شهرياً، إلّا أنّ لجنة الإعلام والاتصالات النيابية أوصت بوضوح بعدم المضي بالترخيص، محذّرةً من مخالفات قانونية ومخاطر سيادية.

ففي جلسةٍ عقدتها اللجنة في شهر آب/أغسطس الماضي، خلصت إلى أنّ الترخيص لشركة "ستارلينك" يتعارض مع ركائز قانونية أساسية في لبنان. فقد رأت أنّ الخطوة تخالف قانون المعاملات الإلكترونية رقم 81/2018 عبر إهمال مبدأ السيادة الرقمية وعدم إلزام الشركة بتخزين بيانات اللبنانيين داخل الأراضي الوطنية، بما يعرّض الخصوصية والحق في إدارة البيانات للخطر.

كما اعتبرت أنّ الترخيص يتعارض مع قانون الاتصالات رقم 431/2002 الذي يضع الهيئة الناظمة للاتصالات كمرجع حصري للتنظيم وإصدار التراخيص، وهو ما جرى تهميشه تماماً. أما المرسوم الاشتراعي 126/1959، الذي يحصر خدمات الاتصالات الدولية بالدولة اللبنانية، فقد جرى تجاوزه أيضاً، ما يجعل الترخيص لشركة أجنبية خارج الإطار الرسمي بمثابة انتهاك صريح للنصوص النافذة.

ورغم هذه التحذيرات، مرّ القرار في مجلس الوزراء، ما أثار تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء التسرّع في تمرير المشروع بهذا التوقيت.

ماذا قالت لجنة الإعلام والاتصالات النيابية للميادين؟

في هذا السياق، أكد عضو لجنة الإعلام والاتصالات النيابية رامي أبو حمدان للميادين نت، أنّ قرار التعاقد مع "ستارلينك" ينطوي على مخالفات قانونية "بالجملة"، مشدّداً على أنّ المخاطر الأمنية والاستخباراتية ليست مجرّد فرضيّات، حيث اعتبر أنّ التجارب السابقة في فلسطين المحتلة وإيران تُظهر بوضوح كيف استُخدمت أجهزة "ستارلينك" في لحظات حسّاسة من العدوان، مؤكداً أنّ هذا الخطر "أمر علني وواقع".

وأضاف أبو حمدان أنّ تمرير القرار بهذه السرعة ومن دون أي مراعاة للوجه الأمني لبيانات اللبنانيين يعني عملياً أن لبنان كُشف أمام شركة خاصة أجنبية، من دون أي رقابة فعلية من مؤسساته، متسائلاً: "لماذا نسلّم البلد بالكامل ونكشفه بحجة الحاجة إلى إنترنت سريع، في الوقت الذي هناك شركات أخرى قادرة على تقديم خدمات مشابهة، بشروط مالية أفضل للدولة، ومعايير أمنية أوثق، وضمن الأطر القانونية؟".

سياسياً، أوضح عضو اللجنة أنّ السفيرة الأميركية في لبنان تواصلت مراراً مع وزير الاتصالات الحالي ومن قبله باتجاه تمرير العقد مع "ستارلينك"، متسائلاً: "ألّا يعطي هذا التصرّف طابعاً واضحاً لهذه الخطوة بأنها جزء من المشروع الأميركي للهيمنة الكاملة على السيادة، التي يدّعي كثيرون في لبنان الدفاع عنها؟".

وشدّد على أنّ "السيادة الرقمية جزء لا يتجزّأ من السيادة التي تتحدّث عنها الدولة اللبنانية".

خصوصية المواطن في مهب الريح

الخطر لا يقتصر على الاستخدام العسكري، بل يتعداه إلى الخصوصية اليومية للبنانيين:

-الخدمة لا تمرّ عبر الشبكات اللبنانية، بل مباشرة عبر الأقمار الأميركية.

-القوانين الأميركية تجيز مطالبة الشركات بتسليم البيانات لأجهزة الاستخبارات.

-لا توجد ضمانات حول كيفية تخزين البيانات أو حمايتها من الوصول الخارجي.

هذا يعني أن بيانات المستخدمين اللبنانيين قد تصبح مكشوفة بالكامل، من دون أي قدرة للدولة على التدخل أو فرض معايير حماية.

خبير سيبراني للميادين: لـ"ستارلينك" القدرة على تحديد المواقع الجغرافية الحساسة

في هذا السياق، حذّر مدير المركز السيبراني في جامعة شرق لندن أمير النمرات، في حديثه للميادين، من أنّ أخطر ما في "ستارلينك" هو إمكانية تحديد المواقع الجغرافية الحسّاسة، بما في ذلك التحرّكات العسكرية، خصوصاً في مناطق النزاع والحروب، مشدّداً على أنّ هذا "ما أثبتته الأبحاث خلال الحرب الروسية الأوكرانية".

"البيانات التي تُجمع تخضع لقانون الخصوصية الأميركي"

كما أكد النمرات أن "كل البيانات التي تُجمع وتُخزّن وتُعالج عبر هذه التقنية تخضع لقانون الخصوصية الأميركي، ما يجعل الدول التي تعتمد عليها غير قادرة في الكثير من الأحيان على امتلاك الأدوات أو الإمكانيات اللازمة لحماية بنيتها التحتية الرقمية، وتحصين سيادتها الوطنية".

هذا وأوضح أن هناك مخاطر أيضاً رغم تحديث الأجهزة (hardware)، إذ ما زال من الممكن وجود ثغرات يمكن استغلالها للدخول إلى الشبكة، مما يفتح مجالاً لهجمات قد تضر بمستخدمي الخدمة وببُنى الاتصالات المحلية.

حتى داخل الولايات المتحدة، لم يَخلُ مشروع "ستارلينك" من الجدل، إذ كشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن موظفين في البيت الأبيض أثاروا مخاوف أمنية بعدما جرى تركيب طرف استقبال خاص بالشبكة على أحد المباني الرسمية من دون إخطار مسبق. ووفق التقرير، فإن شبكة الضيوف التي فُعّلت لا تعتمد أنظمة حماية متقدمة مثل المصادقة المزدوجة، ما أثار خشية من إمكانية تسرّب بيانات حسّاسة خارج قنوات الرقابة التقليدية.

الحرب الإسرائيلية على لبنان: استفادة مباشرة من "ستارلينك"

اليوم، يعيش لبنان تحت نيران عدوان إسرائيلي متواصل، والاحتلال الذي يسعى إلى اختراق البيئة اللبنانية قد يجد في هذه الشبكة قناة مثالية لرصد الاتصالات والتحركات، إذ إن أي بيانات تُجمع عبر "ستارلينك" قد تُشارك مع واشنطن، ومنها إلى "إسرائيل".

فهل إدخال "ستارلينك" في ظل العدوان الحالي مجرد صدفة زمنية؟ أم أن من الممكن الاعتماد على "أخلاقيات" الولايات المتحدة الأميركية في عدم مشاركة القواعد الاستخباراتية الخاصة بالبلاد مع كيان الاحتلال؟

بين الحاجة التقنية والارتهان السيادي

لا شكّ أنّ أزمة الإنترنت في لبنان حقيقية، إذ يعاني من ضعف في البنى التحتية وأزماتٍ كهربائية واقتصادية، لكن الثمن قد يكون باهظاً: إنترنت سريع مقابل فقدان السيادة الرقمية.

إذ ليس من المنطقي معالجة أزمة تقنية بفتح الباب أمام أداة قد تُستخدم للتجسس على الدولة والمواطنين في آن واحد.

إذاً، التعاقد مع شركة "ستارلينك" في لبنان قد يمنح البلد إنترنت أسرع، لكنه يفتح في الوقت نفسه باباً واسعاً على أسئلة السيادة والخصوصية ومخالفاتٍ قانونية. وفي ظل العدوان الإسرائيلي الراهن والتحالف الأميركي معه، يصبح الحذر من هذا المشروع واجباً وطنياً قبل أن يتحوّل إلى بوابة خلفيّة للاختراق.

اخترنا لك