"إسرائيل" وقطر: نهاية ثلاثة عقود من العلاقات؟
العدوان الإسرائيلي على قطر مثّل قطيعة نهائية مع دولة لطالما لعبت دور الوسيط في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. "تل أبيب" تعتبر الدوحة شريكًا لحماس، لا طرفاً محايداً، وتعلن انتهاء زمن "الدبلوماسية الناعمة" بين الجانبين.
-
"إسرائيل" وقطر: نهاية ثلاثة عقود من العلاقات؟
لم يكن العدوان الإسرائيلي على العاصمة القطرية ظهر التاسع من أيلول/سبتمبر الماضي حدثاً عابراً، بل نقطة تحوّل أعلنت إثرها تل أبيب نهاية مرحلة كاملة من تاريخٍ متقلب من العلاقات بين البلدين. نحن أمام انتهاكٍ لسيادة دولةٍ خليجيةٍ حليفةٍ للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يُعدّ سابقة غير معهودة أن تقصف "إسرائيل" حليفاً لواشنطن. عُرفت علاقة الدوحة بتل أبيب عقوداً بالمدّ والجزر، وجمعت بين الانفتاح والوساطات القطرية السرية، لكنّها في ظل حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية وصلت إلى القطيعة، بفعل تبنّي تل أبيب خطابًا متشدداً تجاه الدوحة باعتبارها "الحاضنة السياسية والمالية لحماس".
بداية العلاقة
بعد توقيع اتفاق "أوسلو" عام 1993 بين "منظمة التحرير الفلسطينية"، وإسرائيل، كسرت قطر "المحظور" وافتتحت مكتباً تجارياً إسرائيلياً في الدوحة عام 1996. ومثّلت زيارة رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز للدوحة مشهداً استثنائياً أوحى بأن "سلاماً اقتصادياً" يلوح في الأفق. مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 انتهى الدفء، فأغلقت قطر المكتب التجاري. ورغم ذلك، استمرت اللقاءات الجانبية، إذ أبقت الدوحة خطوط اتصال مفتوحة تحفظ لها دوراً إقليمياً خاصاً، خدمها لاحقاً في الوساطات التي أدارتها.
من «الرصاص المصبوب» إلى الانفجار الكبير
حرب غزة الأولى (2008–2009) مثّلت لحظةً مفصلية: فقد استضافت قطر قمة طارئة جمعت الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الإيراني أحمدي نجاد ورئيس المكتب السياسي خالد مشعل، في رسالة تحدٍّ واضحة لكيان الاحتلال. كان الرد الإسرائيلي اتهاماً صريحاً للدوحة بدعم "الإرهاب"، فيما دعا وزير الخارجية آنذاك أفيغدور ليبرمان إلى إقفال قناة "الجزيرة". منذ تلك اللحظة تبلور الانقسام: نصّبت قطر نفسها عرّابة "حماس" سياسياً وإعلامياً، فيما نظرت "تل أبيب" إليها كذراعٍ ماليةٍ وعقائديةٍ للإخوان.
والمفارقة أنّ "إسرائيل" نفسها سمحت منذ 2014 بإدخال ملايين الدولارات القطرية إلى غزة بذريعة "شراء الهدوء". صار السفير محمد العمادي زائراً دائماً لتل أبيب وغزة، حاملًا حقائب المال ومجالساً المسؤولين الإسرائيليين، على الرغم من اتهام قطر بتمويل "حماس". واستمر هذا الدور حتى عام 2018 أثناء "مسيرات العودة"، واشتهر فيديو للعمادي وهو يقول لقيادات "حماس": "نبغى هدوء".
عارضت مراكز أبحاث إسرائيلية ومحللون مؤيدون لليمين الديني سياسة إدخال المال إلى "حماس"، معتبرين أنّ هذه الأموال لم تشترِ هدوءاً بل وفّرت للحركة قدرةً على بناء بنية تحتية عسكرية أكثر صلابة. أمّا معارضو نتنياهو فانتقدوا هذه السياسة معتبرين أنّها تخدم الحركة، لكنهم واصلوا العمل بها عندما وصلوا إلى الحكم، كما جرى إبّان تولّي يائير لابيد ونفتالي بينت السلطة عام 2020. بعد «سيف القدس» 2021، تمحور الجدل السياسي الداخلي في "تل أبيب" حول أثر تلك الأموال في زيادة قوة "حماس". ومع عودة نتنياهو وحكومته الحالية إلى الحكم، عمل على تقليص هذه الأموال ومنع إدخالها نزولًا عند رغبة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. في المقابل، عوّضت "إسرائيل" ذلك بالسماح لآلاف العمال من غزة بالعمل في الداخل الفلسطيني المحتل.
ازدواجية الدوحة
بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر تحولت قطر في نظر الإسرائيليين إلى عدو. وعلى الرغم من عدم اقتناع القطريين بذلك واستمرارهم في لعب دور الوسيط، عملت "إسرائيل" ميدانياً على قطع أذرع الدوحة في فلسطين، بدءًا باستهداف صحفيي قناة "الجزيرة" وقتلهم، ثم إقرار قانون لإغلاق مكاتبها ومكاتب "الميادين" في فلسطين المحتلة. إذ أصبحت القناة القطرية في نظرهم رأس الحربة في الحرب الإعلامية ضدهم: خطابٌ "تحريضي" بالعربية، و"معتدل" بالإنجليزية. ووصف معهد "مسغاف" ذلك بأنه حملة مبرمجة لتشويه صورة "إسرائيل" عالمياً.
نتنياهو مجددًا: لا قفازات حريرية
مع عودة نتنياهو إلى الحكم نهاية 2022، على رأس حكومة يمينية تُعدّ الأكثر تشدداً في تاريخ "إسرائيل"، لم يعد هناك مجال للتسويات أو "شراء الهدوء". ومع هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، الذي أسقط أكثر من 1200 قتيل إسرائيلي، انهارت نظرية الاحتواء. منذ تلك اللحظة تبنّت المؤسسة الأمنية نهج "الحسم"، ورأى طيفٌ واسعٌ في السياسة الإسرائيلية أنّ قطر جزءٌ من المشكلة لا الحل، على خلاف نظرة جهاز "الموساد". عكست تصريحات نتنياهو العلنية ضد الدوحة هذا التحول: "إمّا أن تطردوا قادة حماس، أو سنقوم نحن بذلك". في المقابل، ردّت قطر بلهجةٍ غير مسبوقة، إذ وصف رئيس حكومتها ووزير خارجيتها محمد بن عبدالرحمن آل ثاني "إسرائيل" بأنّها "تمارس إرهاب دولة"، وهو تعبير لم يصدر عن مسؤول قطري بهذا المستوى من قبل. لكن ذلك أتى متأخراً، إذ كانت الدوحة قد قُصفت.
في حي كتارا وسط العاصمة، استهدفت المقاتلات الإسرائيلية اجتماعاً لقيادات "حماس" (في التاسع من أيلول/سبتمبر). أسفرت العملية عن استشهاد 6، بينهم عنصر أمنٍ قطري، لكنها فشلت في اغتيال وفد "حماس" التفاوضي. ومع ذلك، حققت هدفاً أوسع: أعلنت "إسرائيل" بشكلٍ مدوٍّ أنّ قطر لم تعد وسيطاً، بل ساحة حربٍ "مشروعة". لخّص يوئيل جوزنسكي من معهد "الأمن القومي" المشهد في مقال على موقع "زمن إسرائيل" (11 أيلول/سبتمبر) بقوله: "قطر كانت أقرب اللاعبين إلى حماس، والآن انقطع هذا الخيط". وذهب دافيد واينبرغ في "جيروزالِم بوست" (12 أيلول/سبتمبر) أبعد قائلاً: "من ينتقد إسرائيل بانتهاك سيادة قطر، يتناسى أنّ الدوحة انتهكت سيادتنا بتمويل هجمات حماس".
بقصف الدوحة، أكدت "إسرائيل" أنّ ما جرى ليس مجرّد ضربةٍ عسكرية، بل إعلانٌ استراتيجي: انتهى زمن العلاقات القطرية–الإسرائيلية، وبدأ زمن العداء الصريح، ولو من طرفٍ واحد. وأياً يكن، فإنّ المنطقة تعيش حقيقةً أنّ "إسرائيل" كسرت القواعد ومارست ما تجيده من غدر، كما فعلت سابقاً مع حلفائها: سواء في اغتيال القيادي في "حماس" محمود المبحوح في الإمارات عام 2010 (التي كانت تربطها علاقات سرية بإسرائيل)، أو محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة في الأردن عام 1997 (وكان بينهما اتفاق سلام).
نهاية العلاقة؟
"إسرائيل" ببساطة لا تحترم حلفاءها ولا أصدقاءها، وهو ما عبّر عنه نتنياهو علناً يوم 16 أيلول/سبتمبر 2025 في مؤتمر صحفي في مكتبه بالقدس الغربية، إذ قال: "كان لديّ انتقاد شديد لقطر، وأعربتُ عنه أثناء الحرب. لو أرادت قطر، لكان بإمكانها بسهولة ممارسة ضغطٍ أقوى بكثير كان ليساعدنا في تحرير جميع مختطفينا". وأضاف أنّ قطر "مرتبطة بحماس، وتدعم حماس، وتستضيف حماس، وتموّل حماس. افتحوا قناة الجزيرة وستَرون الأمر جحيماً: "جحيماً من معاداة السامية، ومن معاداة الصهيونية". بهذه الكلمات أنهى نتنياهو 3 عقود من العلاقات الوديّة بين تل أبيب والدوحة.