إيران تعلّق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. قراءة في الأسباب والمآلات

إيران تُعلّق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية رداً على تواطئ الأخيرة مع العدوان الإسرائيلي الأميركي، وتؤكّد تمسّكها ببرنامجها النووي السلمي دون إغلاق باب الدبلوماسية. ماذا تعني هذه الخطوة وكيف تترجم عملياً؟

  • بعد
    إيران تعلّق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. قراءة في الأسباب والمآلات

أعلنت الجمهورية الإسلامية في إيران تعليق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، بعد أيام فقط من انتهاء العدوان الإسرائيلي الأميركي عليها، الذي استهدف قادتها العسكريين وعلماءها النوويين ومنشآتها النووية.

القرار الذي اتخذته طهران من موقع المنتصر بعد فشل أهداف العدوان، لا يُقرأ فقط كخطوة ردع أو احتجاج سياسي، بل كإعادة تموضع استراتيجية تفرض شروطاً جديدة على معادلة الرقابة الدولية، وتعيد التذكير بسيادة إيران وحقها المشروع في تطوير برنامجها النووي السلمي تحت مظلة معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT).

الخطوة الإيرانية: أسباب وعوامل

لا يمكن فصل العوامل التي أدّت بالجمهورية الإسلامية إلى تعليق علاقتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، دون تسليط الضوء على تصرفات الأخيرة وموقفها خلال الـ12 يوماً من العدوان على إيران.

فقد مثّل سلوك الوكالة، في نظر طهران، تخلياً فاضحاً عن الحياد المهني، بل وتورطاً غير مباشر في تسهيل الضربة التي استهدفت منشآت سلمية تخضع لرقابتها.

لقد حمّلت طهران الوكالة الدولية مسؤولية مزدوجة: أولًا تقديمها معلومات فنية حساسة لطرف معتدٍ، وثانياً لصمتها عن جريمة عسكرية طالت منشآت خاضعة للتفتيش الأممي، والذي عدّته إيران "تواطؤاً في العدوان".

صمت الوكالة وتواطؤها

شكّل غياب أي موقف واضح من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إزاء العدوان الإسرائيلي - الأميركي على المنشآت النووية الإيرانية، أحد أبرز العوامل التي دفعت طهران إلى إعادة النظر في طبيعة علاقتها مع الوكالة.

فرغم أن المواقع المستهدفة كانت خاضعة لإشراف الوكالة ورقابتها، إلا أن الأخيرة آثرت الصمت وعدم إصدار أي موقف يستنكر ويوضح خرق العدوان للقوانين الدولية الملزمة ذات الصلة.

في السياق، عبّر رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي، عن هذا الأمر بوضوح في رسالة رسمية إلى المدير العام للوكالة رافائيل غروسي، حذّر فيها من أن تخاذل الوكالة وتقاعسها هو انتهاك لضماناتها ونظامها الأساسي، ويضعها في موقع "المتواطئ بالصمت".

تصريحات إسلامي لم تكن الوحيدة، إذ وصف المستشار الأعلى لقائد الثورة علي لاريجاني، غروسي بأنه "من ممهّدي الطريق للحرب"، مؤكّداً أن الوكالة "لم تقم بما يجب عليها فعله"، ومشكّكاً في جدوى استمرار إيران بالالتزام بمعاهدة عدم الانتشار في ظل هذا الانحياز السافر.

إذاً، من وجهة النظر الإيرانية، لم يكن صمت غروسي مجرّد تقصير مهني، بل سبيلاً لتحويل الوكالة إلى أداة بيد الدول غير الملتزمة بمعاهدة عدم الانتشار النووي، وأقرب إلى الشراكة في الحرب العدوانية على إيران.

"تسريب معلومات حساسة"

إلى جانب صمت الوكالة وتخاذلها، وجدت إيران نفسها أمام مؤشرات قد تدل على استغلال المعلومات الفنية الحساسة التي وفّرتها طهران في إطار التعاون السابق مع الوكالة. فقد بات واضحاً أن تفاصيل دقيقة حول مواقع ومنشآت نووية خاضعة للتفتيش قد تسربت إلى أطراف معادية لإيران، وساهمت في تشكيل بنك الأهداف الذي استخدمته "إسرائيل" في عدوانها الأخير.

في هذا الشأن، اتّهم عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني علاء الدين بروجردي، المدير العام للوكالة بـ"ـخيانة الأمانة"، معتبراً أنه "أحد الأسباب المباشرة التي أدت إلى الحرب ضد إيران". ولعل هذه التهمة هي أبرز ما يدلّ على انهيار الثقة الإيرانية بمبدأ السرّية المهنية الذي يُفترض أن يحكم العلاقة بين الدول والوكالة.

من جهته، اعتبر وزير الخارجية عباس عراقتشي في وقتٍ سابق أن إصرار غروسي على تفتيش مواقع نووية بعينها بعد وقف إطلاق النار "لا معنى له، وربما ينطوي على نوايا خبيثة"، في إشارة إلى أن طهران ترى في تحرّكات الوكالة جزءاً من عمل استخباري لا مهني.

وكانت دائرة الشبهات قد توسّعت بعد نشر وزارة الأمن الإيرانية في وقتٍ سابق أول دفعة من الوثائق السرّية التي حصلت عليها في عملية استخبارية دقيقة، تكشف عن "تعاون مباشر وكامل" بين غروسي وكيان الاحتلال الإسرائيلي، بهدف استهداف البرنامج النووي السلمي.

ما يدعو إلى التأمل أيضاً، ما كشفته وكالة "فارس" في تقريرٍ صحفي أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أعطت ـ"إسرائيل" أسماء علماء نوويين إيرانيين، حيث تبيّن لاحقاً أن بعض هؤلاء العلماء تعرضوا لاغتيالات أو استهدافات خلال العدوان الإسرائيلي.

وبذلك، لم تعد القضية في نظر القيادة الإيرانية محصورة في التقصير أو عدم الإدانة، بل في تحوّل الوكالة إلى طرف فاعل في المعركة ضد إيران.

تجميد العمل بـ"البروتوكول الإضافي"

لم تكن العلاقة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية محكومة باتفاق الضمانات الأساسي فقط، بل كانت الوكالة تتمتع بصلاحيات تفتيش أوسع بموجب البروتوكول الإضافي، وهو إجراء طوعي كانت الجمهورية الإسلامية قد قبلت به بموجب الاتفاق النووي (JCPOA).

وعليه، تعليق التعاون مع الوكالة يعني فعلياً  تجميد العمل بالبروتوكول المذكور، ما يقلّص قدرة الوكالة بشكل كبير على مراقبة البرنامج النووي الإيراني.

عملياً يُترجم ذلك كالآتي:

- وقف التفتيشات المفاجئة: لم تعُد الوكالة قادرة على تنفيذ زيارات مفاجئة إلى منشآت غير مُعلنة، كما لم تعد تملك حق الدخول خلال مهلة 24 ساعة. الآن، قد تمتد المهلة لأيام، أو يُرفض الطلب بالكامل.

- عدم الوصول إلى المواقع غير المعلنة: لم تعد إيران ملزمة بالسماح بتفتيش مواقع غير مدرجة رسمياً ضمن منشآتها النووية، وهو ما يقيّد قدرة الوكالة على كشف أي نشاط خارج المنشآت المعروفة.

- تقييد أجهزة المراقبة والتسجيل الحديثة: أوقفت إيران تركيب كاميرات ومجسّات جديدة، بل أزالت بعضها من منشآت استراتيجية مثل "نطنز" و"فوردو"، ما يعني فقدان المراقبة اللحظية.

- عدم تسليم تسجيلات الكاميرات: رغم أن إيران قد تحتفظ بالتسجيلات داخلياً، إلا أنها توقفت عن مشاركتها مع الوكالة، ما يحجب المعلومات الفورية حول ما يجري داخل المنشآت.

- تقييد مراقبة أنشطة التخصيب وسلاسل التوريد: لم تعد الوكالة قادرة على تتبع حركة اليورانيوم وسلسلة الإمداد من المنبع إلى المفاعل، ما يُفقدها الرؤية المتكاملة لمسار المواد النووية.

- غياب الحق في طلب إيضاحات فنية: لم تعد الوكالة تملك الصلاحية القانونية لطلب تفاصيل فنية عن منشآت جديدة أو تغييرات جوهرية في بنية البرنامج.

ما بعد الخطوة الإيرانية.. استكمال البرنامج السلمي بإرادة مستقلة

إذاً، مثّل قرار إيران تعليق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحولاً سيادياً محسوباً، من موقع القوة والمبادرة.

وأبدت طهران عبر هذه الخطوة، أنها باتت أكثر حرصاً على استكمال برنامجها النووي السلمي، وفق حاجاتها وقرارها الوطني، وبعيداً من الإملاءات الغربية.

هذا ما صرّح به بروجردي، حين أوضح أن إيران "من الآن فصاعداً ستقوم بالتخصيب حسب حاجتها وبأي نسبة كانت"، مؤكّداً أن الحديث عن تخصيب عند مستوى الصفر "وهم من أوهام الرئيس الأميركي".

وفي المقابل، أقرّ مدير الوكالة رافاييل غروسي، بأن التقدّم الإيراني لا يزال قائماً، وأن أجهزة الطرد المركزي يمكن أن تُفعّل مجدداً خلال وقتٍ قصير، مشدّداً على أن "المعرفة النووية في إيران لا تُمحى والقدرات لا تُلغى".

وعن سياسة "الغموض النووي" التي تنتهجها إيران، رأى غروسي أنه ليس من الواضح حتى الآن مكان المواد واليورانيوم المخصب، مشيراً إلى "احتمال تدمير بعضها أو نقلها قبل الهجوم".

تأكيد  الطابع السلمي

ورغم الإصرار على استئناف نشاطها العلمي، تواصل الجمهورية الإسلامية تأكيدها الواضح للطابع السلمي للبرنامج النووي، ورفضها القاطع لامتلاك أي نوع من أسلحة الدمار الشامل.

وقد عبّر قائد الثورة والجمهورية في إيران السيد علي خامنئي بوضوح عن هذا المبدأ في أكثر من خطاب، معتبراً أن "استخدام السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل ذنبٌ عظيم لا يُغتفر"، مؤكّداً أن إيران تطالب بـ"شرق أوسط خالٍ من السلاح النووي".

في الشأن ذاته، يضيف السيد خامنئي أن هذا "لا يعني غضّ الطرف عن حق الاستفادة السلمية من الطاقة النووية وإنتاج الوقود النووي، فالاستخدام السلمي لهذه الطاقة حقّ لکل البلدان حسب القوانين الدولية"، بحسب ما ورد في الموقع الرسمي لقائد الثورة.

وبذلك، تؤكّد طهران على رسالة مفادها: نعم لحقّنا في السيادة والعلم والتطور.

إيران لم تغلق أبواب الدبلوماسية

رغم ذلك، حرصت الجمهورية الإسلامية على التأكيد أن قرارها لا يعني القطيعة الكاملة مع المجتمع الدولي، بل يُعبّر عن موقف سيادي مؤقت فرضته الظروف الأمنية والسياسية بعد العدوان.

في أكثر من تصريح، شدّد المسؤولون الإيرانيون على أن أبواب الدبلوماسية لا تزال مفتوحة، وأن العودة إلى التعاون ممكنة متى ما توفرت الضمانات الجادة لحياد الوكالة، واحترام سيادة إيران.

رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، أكد  هذا الموقف قائلاً إن منظمة الطاقة الذرية الإيرانية ستعلّق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية "حتى يتم ضمان أمن المنشآت النووية".

كما عبّر وزير الخارجية عباس عراقتشي عن هذا المبدأ في مقابلة مع شبكة "سي بي إس" الأميركية، قائلاً: "لكي نقرر إعادة التفاوض، علينا أولاً ضمان عدم عودة واشنطن إلى استهدافنا بهجوم عسكري خلال المفاوضات"، مشدّداً على أنّ "هذه الاعتبارات تجعلنا نحتاج إلى مزيد من الوقت"، لكن مع ذلك، فإنّ "أبواب الدبلوماسية لن تُغلق أبداً".

لذا، بينما تتجه إيران إلى تعزيز سيادتها ومواصلة برنامجها النووي السلمي، تترك في الوقت نفسه نافذة للتفاهم القائم على الدبلوماسية والاحترام المتبادل، بعيداً من الانحياز واللامهنية.

اقرأ أيضاً: النووي الإيراني: المفاوضات في ميزان الصبر والخيانة

اخترنا لك