"واشنطن بوست" تروي قصة فلسطيني قاوم لسنوات عمليات الهدم.. واليوم منزله مدمّر
تولّى فخري أبو دياب مسؤولية حماية المنازل في حيّ البستان بالقدس الشرقية من الهدم. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، دمّرت "إسرائيل" منزله.
صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية تنشر تقريراً للصحافية ريبيكا تان، تروي فيه قصة الفلسطيني فخري أبو دياب، الذي هدمت "إسرائيل" منزله على الرغم من مقاومته لمحاولات مماثلة لسنوات.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية بتصرّف:
عندما وصلت "الشرطة" الإسرائيلية وجرّافاتها إلى حيّ البستان في وقت مبكر من يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر، لم يتوقّع سوى عدد قليل من سكان هذا الحي الفلسطيني في القدس الشرقية أن يتوجّهوا إلى منزل فخري أبو دياب.
كان المحاسب المتقاعد، ذو الشعر الأبيض، أحد أبرز سكان هذا الحي والناطق بلسان أهله. وعلى مدى عقدين من الزمن، قاد أبو دياب (62 عاماً) المعركة من أجل حماية المنازل المحلية من الهدم، وحظي بدعم الولايات المتحدة، التي أدانت تدمير "إسرائيل" لجزء من منزله في وقت سابق من هذا العام.
لذلك، عندما حضر ثلاثون مسؤولاً إسرائيلياً ومعهم الشرطة بآلات ثقيلة واقتحموا بوابة منزل أبو دياب، لم ينصدم الجيران من هذا المشهد فحسب، بل اعتراهم الخوف. واعتبروا هذا التصرّف بمثابة رسالة تهديد للمجتمعات الفلسطينية في القدس الشرقية بأن لا أحد من السكان في مأمن.
وقد هدمت السلطات المحلية 7 مبانٍ في حي البستان ذلك اليوم، بما في ذلك منزل فخري أبو دياب. ووفقاً للسكان والجمعيات الحقوقية، فقد دمّروا منذ ذلك الحين ما لا يقلّ عن 8 منازل أخرى، بالإضافة إلى مركز المجتمع المحلي الخاص بجمعية البستان.
وقال قتيبة عودة، مدير الجمعية: "إنها رسالة إلى الحيّ تقول بأننا قادمون، وسيقضى عليكم".
المنظّمات الحقوقية الإسرائيلية والفلسطينية ترى أنّ الهدف الأساس من الهدم يكمن في الجهود التي تبذلها "إسرائيل" منذ عقود لتأمين أغلبية يهودية في المدينة ودفع السكان الفلسطينيين إلى المغادرة؛ وهي الجهود التي تسارعت وتيرتها خلال العام المنصرم، مع تكثيف الحكومة اليمينية الإسرائيلية عمليات هدم المنازل في القدس الشرقية، وفقاً للأمم المتحدة.
وقالت شاينا لو، المتحدّثة باسم المجلس النرويجي للاجئين الذي يقدّم خدماته القانونية للفلسطينيين الذين يواجهون التهجير، في هذا السياق: "هناك حكومة إسرائيلية تعمل من دون أيّ رادع"، وكل منزل تقريباً في حيّ البستان معرّض لخطر الهدم "في أيّ وقت".
ومنذ الاستيلاء على القدس الشرقية، استخدمت السلطات الإسرائيلية مزيجاً من القوانين وأنظمة تقسيم المناطق وأوامر المحاكم وغيرها من القواعد لإعطاء الأولوية لبناء المستوطنات وتقييد التنمية في الأحياء الفلسطينية، وفقاً للمحامين والمدافعين عن حقوق الإسكان. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تشمل الإجراءات المتخذة آلاف أوامر الهدم للمنازل الفلسطينية وغيرها من المباني على مرّ السنين، يستند معظمها إلى مزاعم أنها بنيت من دون الحصول على التصاريح اللازمة.
وفي بلدة سلوان، تضاعفت وتيرة عمليات الهدم في العام الفائت، وفقاً لمنظّمة "عير عميم"، وهي مجموعة مراقبة ومناصرة إسرائيلية، في حين أفادت الأمم المتحدة بأنّه تمّ تدمير المزيد من المباني في البلدة هذا العام أكثر من أيّ عام آخر منذ أن بدأت في جمع البيانات في عام 2009.
وقال ميمون، المتحدّث باسم الحكومة، إنّ "عمليات الهدم تتمّ عندما تكون المباني مبنية بشكل غير قانوني ولا توجد طريقة قانونية لإضفاء الشرعية عليها. ولا يمكن اعتبارها إجراءً عقابياً في أيّ حال من الأحوال".
"كنتُ أعلم أنهم سيعودون"
وُلد أبو دياب في حيّ البستان عام 1962، أي قبل خمس سنوات من بدء الاحتلال الإسرائيلي. وقال إنّ أولى ذكرياته تتحمور حول أعمال البستنة مع والدته في المنزل، حيث كان ينفض الغبار عن أوراق النعناع ويركض خلف الدجاج. ولم يغادر حيّ البستان إلا لفترة وجيزة للالتحاق بالجامعة الأردنية في عمّان، حيث التقى بزوجته أمينة. وعادا معاً إلى منزل عائلته في عام 1983.
وقال أبو دياب إنّ المنزل كان عبارة عن غرفتين فقط في ذلك الوقت. ولدفع تكاليف التجديد، باعت أمينة مهرها المكوّن من خواتم وأساور ذهبية، وادّخر قدر استطاعته من دخله كمحاسب. وسرعان ما أصبح المنزل يضجّ بأطفال الزوجين الخمسة. وأشار أبو دياب وهو يتذكّر هذه الفترة من حياته، بالقول: "لقد كانت فترة رائعة".
ومع بدء ظهور التشقّقات في الأبنية، تقدّم أبو دياب وجيرانه بطلبات للحصول على تصاريح لمنازلهم وعمليات ترميمها، لكن البلدية رفضتها. وبحلول أوائل الثمانينيات، كانت المدينة قد خصصت حيّ البستان بالفعل كمساحة عامّة مفتوحة يُحظر فيها التطوير السكني.
بين عامي 2004 و2005، بدأ أبو دياب وغيره من السكان يجدون أوامر هدم ملصقة على أبواب منازلهم. وعلى مدى السنوات العشرين التالية، خاض أبو دياب، بصفته رئيس لجنة السكان المحليين، معركة قانونية وعلاقات عامّة واسعة النطاق لإنقاذ حيّ البستان ومنازله التي يبلغ عددها 100 منزل تقريباً من الهدم. وقد بدا أنّ هذه الاستراتيجية قد نجحت لفترة من الوقت.
ووفقاً لتقديراته، استضاف أبو دياب مئات الدبلوماسيّين والناشطين والمحامين والصحافيّين في منزله لمناقشة عمليات الهدم المخطّط لها، والمساعدة في تنسيق ما يسمّى "مسيرات التضامن" عبر الحيّ. وقال إنه صافح الرئيس السابق جيمي كارتر عندما زار البلاد عام 2010 والتقى بعشرات المسؤولين الأميركيين الآخرين. ورفع مع جيرانه دعاوى قضائية ضدّ عمليات الهدم وتفاوض مع البلدية، بما في ذلك تقديم خطة بديلة للمنطقة، الأمر الذي رفضه المسؤولون.
وخلال هذه الفترة، أصدرت المدينة أوامر هدم في حيّ البستان، لكنها لم تنفّذها. وقال أبو دياب إنّ كلّ ذلك قد تغيّر مع اندلاع حرب غزة. وبعد بدء الصراع مباشرة، من تشرين الأول/أكتوبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2023، قفزت عمليات الهدم في جميع أنحاء القدس الشرقية بنسبة 70% مقارنة بالأشهر السابقة، وفقاً لمنظّمة "عير عميم". وفي شباط/فبراير، انتقلت السلطات إلى حيّ البستان، وهدمت ملحقاً لمنزل فخري أبو دياب الذي بقي لسنوات مهدّداً بالهدم.
وانتقدت إدارة بايدن هذا القرار. وقال المتحدّث باسم وزارة الخارجية مات ميلر خلال مؤتمر صحافي: "ندين هدم منزل فخري أبو دياب. فهذه الأعمال تعرقل الجهود الرامية إلى تحقيق سلام وأمن دائمين لا يستفيد منهما الفلسطينيون فحسب، بل الإسرائيليون أيضاً. وهي تضرّ بمكانة إسرائيل في العالم".
وفي ذلك الوقت، رحّب أبو دياب بالبيان الأميركي، لكنه قال إنّه رأى "الجيش" الإسرائيلي يحوّل مدناً بأكملها في غزة إلى أنقاض، مضيفاً: "كنت أعلم أنّ الأمر لن يهمهم الآن، وأنهم سيعودون"، في إشارة إلى السلطات الإسرائيلية.
"سقوط الجدران"
وبينما كان ينتظر، أمضى أبو دياب الربيع والصيف في محاولة لإعادة بناء منزله. ووضع منزل حاوية جاهزاً في زاوية من منزله كإجراء احترازي. ثم بدأ بتجديد الجزء الرئيس من المنزل لتوفير مساحة أكبر. وعندما عادت السلطات في تشرين الثاني/نوفمبر، قال أبو دياب إنه تشاجر مع فريق الهدم، وطلب المزيد من الأوراق واستدعى محامين ودبلوماسيين. لكن الأوان كان قد فات. و تحوّلت جدران المنزل أنقاضاً.
بدأ فريق الهدم بمنطقة الجلوس في الخارج، حيث كان فخري وأمينة يبدآن يومهما بشرب الشاي والاستماع إلى زقزقة العصافير؛ ثم توجّه إلى غرفتي الجلوس حيث يجلس أحفاده لأداء واجباتهم المدرسية بعد المدرسة. وفي النهاية، أزالت الحفّارات المطبخ، وهو المكان الذي أحبّه كثيراً عند الغسق، عندما كان مليئاً بالدخان ورائحة الطهي.
ولم يمنح طاقم الهدم الزوجين الوقت الكافي لإنقاذ ممتلكاتهما، فاختلطت القطع الخرسانية المكسورة والحديد المسلّح بالجزء الأكبر من كلّ ما يملكانه: الملابس، وألبومات الصور، وشهادات الميلاد. وقد تمكّن أبو دياب من إنقاذ صورتين لأمينة في العشرينات من عمرها ومصباح زيت أزرق كان يخص والدته الراحلة.
وقال أبو دياب وهو يغمض عينيه: "انسوا الأثاث. فقد دمّروا تاريخنا". فتدخّلت أمينة، 58 عاماً، قائلة: "لقد فرّقوا الأسرة".
وقد أدّت عملية الهدم إلى نزوح معظم أفراد الأسرة، حيث انتقل اثنان من أبناء أبو دياب وعائلتيهما للعيش مع أنسبائهما أو في شقق مستأجرة، في حين بقيت أمينة وأبو دياب في منزل الحاوية.
وقالت أمينة إنّ المنزل صغير جداً لتجتمع العائلة بأكملها فيه، ولم يعد بعض أحفادها يزورونها لأنهم يكرهون الاضطرار إلى المرور على أنقاض المنزل القديم. و"لا أحد يستطيع أن يلومهم".
وفي إحدى ليالي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، عاد أبو دياب إلى منزل الحاوية بعد حلول الظلام وجلس مثقلاً على كرسي بلاستيكي. وكان أولاده قد طلبوا منه وزوجته الخروج من حيّ البستان. وقال زياد قعور، المحامي الذي يمثّل بعض السكان، إنّ جميع الخيارات القانونية قد استنفدت.
وأشار أبو دياب إلى إنّه كان يعلم أنّها مسألة وقت قبل أن تعود البلدية لهدم منزل الحاوية، لكنه شعر وكأنه قد خسر الكثير بالفعل. وقال وهو يهزّ رأسه متعباً: "لا، الأمر الوحيد المتبقّي هو المكوث هنا".
نقلته إلى العربية: زينب منعم