"فورين بوليسي": هل نظرية الرجل المجنون فعالة فعلاً؟
يعتقد ترامب بأنّ عدم القدرة على التنبّؤ بتصرّفاته تُعدّ ميزة خاصة، لكن من غير المرجّح أن تنجح محاولة ترامب لتكرار نهج الرجل المجنون في العلاقات الدولية خلال فترة ولايته الثانية، إلّا أنّه قد يحاول القيام بذلك في كلّ الأحوال.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً كتبه دانيال دبليو دريزنر، أستاذ السياسة الدولية في كلية "فليتشر" للقانون والدبلوماسية بجامعة "تافتس"، يتحدّث فيه عن نظرية "الرجل المجنون" الذي ينتهجها ترامب.
أدناه نصّ المقال منقولاً إلى العربية:
عندما ترشّح دونالد ترامب للمرة الأولى لمنصب رئيس الولايات المتحدة في عام 2016، بدا في كثير من الأحيان رجلاً مجنوناً بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، ولم تكن لديه مشكلة في إظهار سخطه خلال الحملة الانتخابية. وخلال مناظرة تمهيدية للحزب الجمهوري عام 2016، اختار أن يبقى غاضباً، قائلاً إنه "يقبل بكلّ سرور ارتداء عباءة الغضب" اعتقاداً منه بأنّ البلاد تعيش في حالة من "الفوضى" ويديرها أشخاص غير أكفّاء. كما تبنّى ترامب فكرة أنّ جنوناً من نوع مختلف يتملّكه. وفي بياناته المتتالية، شدّد على أنه سيكون رئيساً من نوع مختلف لأنه كان على استعداد لأن يكون مجنوناً بعض الشيء، ولا يمكن التنبّؤ بتصرّفاته. وفي عام 2015، قال لأحد المحاورين، مستشهداً بقول رجل أعمال آخر: "هناك قدر معيّن من عدم إمكانية التنبّؤ بشأن ترامب، وهذا أمر رائع". وفي أوّل خطاب رئيسي له حول السياسة الخارجية خلال تلك الحملة، انتقد السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال سنوات باراك أوباما، قائلاً: "يجب علينا أن نكون أمّة يصعب التنبّؤ بما تفعله".
لقد كان ترامب مختلفاً عن رؤساء ما بعد الحرب الباردة، لكنّ مشاعره تشبه مشاعر ريتشارد نيكسون، الذي كان أيضاً يحب إظهار غضبه بشكل واضح وعلني. ووفقاً لمرؤوسه إتش آر هالدمان، فقد ابتكر نيكسون مصطلح "نظرية الرجل المجنون" لتعتقد فيتنام الشمالية أنّه قادر على فعل أيّ شيء لإنهاء حرب فيتنام، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية. وتفترض نظرية الرجل المجنون أنّ الرئيس الذي يتصرّف كما لو أنه قادر على فعل أيّ شيء يمتلك فرصة أفضل لإقناع الجهات الفاعلة العالمية الأخرى بتقديم تنازلات ما كانت لتقدّمها لولا ذلك.
وفي وقت لاحق، أنكر نيكسون أنّ المفاوضات قد تمّت، إلّا أنّ فكرة نظرية الرجل المجنون تقوم على أساس فكري يعود تاريخه إلى نيكولو مكيافيلي. كما أنّ الأدبيات العلمية حول النظرية قد تغيّرت في السنوات الأخيرة، ما يشير إلى أنّه في ظلّ ظروف معيّنة، قد تنجح مثل هذه الحيلة مع شخص في موقف ترامب.
فهل يمكن لنظرية الرجل المجنون التي يتبنّاها ترامب أن تكون مجنونة لدرجة أنها قد تتحقّق؟
في بعض الأحيان، تعمّد ترامب خلال فترة ولايته الأولى تعزيز سمعته كرجل مجنون. وكان هذا واضحاً للغاية في تعامله مع الكوريتين الشمالية والجنوبية. وعلى مدار عام 2017، صعّد ترامب لهجته تجاه كوريا الشمالية، وصرّح للصحافيين في آب/أغسطس قائلاً: "من الأفضل لكوريا الشمالية ألّا تطلق المزيد من التهديدات ضدّ الولايات المتحدة.. سيواجهون بالنار والقوة والغضب بطريقة لم يعهدها العالم من قبل". وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد شهر واحد، أطلق ترامب على الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون لقب "الرجل الصاروخي" وأكد أنّ الولايات المتحدة قادرة على "تدمير كوريا الشمالية بالكامل".
بالإضافة إلى ذلك، امتدّ نهج الرجل المجنون الذي يتبعه ترامب إلى كوريا الجنوبية. ففي عام 2017، سعت إدارته إلى إعادة التفاوض على شروط اتفاقية التجارة الحرّة بين الولايات المتحدة وكوريا. وقد أفاد جوناثان سوان من موقع "أكسيوس" بأنّ ترامب أمر صراحة كبير المفاوضين التجاريين روبرت لايتهايزر بإخبار نظرائه الكوريين الجنوبيين أنّ ترامب رجل مجنون: "قل لهم: هذا الرجل مجنون جداً وقد ينسحب في أيّ لحظة.. أخبرهم أنّهم إذا لم يقدّموا التنازلات الآن، فإنّ هذا الرجل المجنون سينسحب من الصفقة". كما أشار سوان إلى أنّ "الكثير من زعماء العالم يعتقدون بأنّ الرئيس مجنون، وأنه ينظر إلى صفة الجنون باعتبارها ميزة".
ونتيجة لذلك، توقّف ترامب عن السخرية من الرئيس كيم مقابل عقد ثلاثة اجتماعات لم تسفر إلّا عن بعض الصور الفوتوغرافية البرّاقة. وأُعيد التفاوض على اتفاقية التجارة الحرّة بنجاح، على الرغم من أنّ التغييرات التي طرأت على الصفقة كانت طفيفة. ومع ذلك، يمكن لمعاوني الرئيس السابق والمستقبلي القول إنّ ترامب تصرّف لما فيه خير الولايات المتحدة. وعلى الرغم من كلّ صخبه وهذيانه، نجح ترامب في تأمين تنازلات تجارية متواضعة من كوريا الجنوبية ووقف قصير للتجارب الصاروخية التي تجريها كوريا الشمالية، وكلّ ذلك من دون الاضطرار إلى تنفيذ تهديداته المجنونة. بعبارة أخرى، كان يبدو شخصاً غير عقلاني لأسباب عقلانية.
لقد كان هذا الأمر مختلفاً عن إخبار موظفي ترامب ومرؤوسيه الصحافيين بأنه كان يتصرّف كرجل مجنون. وكانت هذه الخدعة كافية لجيم سكيوتو من شبكة "سي إن إن" لتأليف كتاب عن سياسة ترامب الخارجية بعنوان "نظرية الرجل المجنون" (The Madman Theory). ووفقاً لكتاب "الخوف" (Fear) لبوب وودوارد، أمضى روب بورتر، سكرتير موظفي البيت الأبيض، ثلث وقته في إقناع ترامب بالتخلّي عن أفكاره المتهورة. وخلص وودوارد إلى أنّ الولايات المتحدة "كانت مقيّدة بكلمات وأفعال رئيس معقّد عاطفياً ومتقلّب المزاج ولا يمكن التنبّؤ بتصرّفاته".
ومع ذلك، فإنّ فكرة أنّ الرئيس، من خلال التصرّف كرجل مجنون، يمكنه تحقيق الربح في السياسة العالمية، تعود لفترة أبعد من نيكسون. ففي كتاب "Discourses on Livy"، أشار مكيافيلي إلى أنه "في بعض الأحيان يكون من الحكمة التظاهر بالجنون". وفي السنوات الأولى من الحرب الباردة، فكّر الخبيران الاستراتيجيان دانييل إلسبيرغ وتوماس شيلينغ في الفضائل المحتملة لتعزيز الجنون في مواقف المساومة القسرية. وقال شيلينغ في كتاب "The Strategy of Conflict"، "أن تكون عقلانياً بشكل واضح وراسخ لا يُعدّ ميزة عالمية في الصراعات". وفي حال اعتقد الآخرون بأنّ الرجل المجنون قد يفعل أيّ شيء إذا لم يحقّق مراده، فإنّ التهديد بالتصعيد يصبح أكثر مصداقيّة، ما يجعل تقديم المزيد من التنازلات لتهدئة التصعيد أمراً منطقياً.
لم يدعُ إلسبيرغ أو شيلينغ على الإطلاق إلى أن يتصرّف رئيس الولايات المتحدة بهذه الطريقة. ولم يكن ليعتقد أيّ منهما أنّ حيلة الرجل المجنون ستنجح بشكل جيّد على المدى الطويل. وحتى وقت قريب، كانت الأدبيات العلمية حول نظرية الرجل المجنون مشككة بالقدر نفسه في احتمالية نجاحها. إذ لم تسفر حيلة نيكسون بالتظاهر بالجنون عن أيّ تنازلات بحسب الكثير من الروايات الأكاديمية والشخصية.
ومع ذلك، فإنّ الأعمال الحديثة حول هذا الموضوع كانت أقلّ حسماً. وقد كتبت الأستاذة روزان مكمانوس من ولاية بنسلفانيا حول هذا الموضوع على نطاق واسع، وأشار بحثها الأوّلي إلى أنه في ظلّ مجموعة محدودة من الظروف، يمكن لاستراتيجية الرجل المجنون أن تتحقّق. إذ تفيد هذه الحيلة الرؤساء الذين يُعتبرون مجانين بسبب تفضيلاتهم المبالغة بدلاً من تكتيكاتهم المبالغة، وكذلك الرؤساء الذين يُعتبرون مجانين بسبب موقف معيّن بدلاً من كون الجنون متأصلاً في شخصيتهم. بمعنى آخر، يمكن للممثّلين الذين يملكون مشاعر قوية تجاه قضية معيّنة فحسب استخدام حيلة الرجل المجنون لتحقيق بعض التأثير. وفي ورقة متابعة، خلصت مكمانوس إلى أنّ نهج الرجل المجنون "قد يكون مفيداً في التفاوض على الأزمات.. عندما تكون صفة الجنون ضئيلة". وهذا وصف عادل لترامب. وتشير أبحاث حديثة أخرى إلى أنه يمكن أن تكون هناك مزايا في عدم القدرة على التنبّؤ كعقيدة استراتيجية.
إلا أنّ هناك أسباباً كثيرة تدعو إلى الشكّ في قدرة ترامب على تأدية دور الرجل المجنون بفعّالية خلال ولايته الثانية. والأكثر وضوحاً هو أنّ جهود ترامب خلال فترة ولايته الأولى في المساومة القسرية ذهبت سدى إلى حد كبير. وكان سجل إدارته الحافل في اتخاذ تدابير اقتصادية قسرية أقلّ من ممتاز. والمهمة الأعظم الذي حقّقها ترامب في السياسة الخارجية؛ اتفاقيات أبراهام، تعود إلى الإغراءات المقدّمة وليس إلى أصابع التهديد الموجّهة بشكل جنوني.
لقد نجح أسلوب ترامب المجنون مع حلفاء الولايات المتحدة بشكل أفضل من خصومه. فالمجموعة السابقة من الدول، التي هزّتها تهديداته بالانسحاب من تحالفات ومعاهدات تجارية طويلة الأمد، أبدت على الأقل بعض مظاهر الولاء في العلن. إلّا أنّ ترامب كان مشغولاً بمحاولة التقرّب من حكّام الصين وروسيا، ولم يتمكّن من التصرّف بجنون أمامهم. في حين كانت جهوده لاستخدام استراتيجية الرجل المجنون مع إيران متفاوتة. فقد وافق على الضربة الجوية التي قتلت قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، ولكن بعد تراجعه في اللحظة الأخيرة عن الردّ على الهجمات الإيرانية على المملكة العربية السعودية. وفي مقابلة أجريت معه مؤخّراً، أشار ترامب إلى أنّه كان الشخص الهادئ والعقلاني مقارنة بمستشار الأمن القومي جون بولتون.
وهذا الأمر يسلّط الضوء على مشكلة أخرى، بحيث أصبح أغلب القادة الأجانب اليوم على دراية وثيقة بقواعد اللعب التي يمارسها ترامب. ومن أهم أسباب فشل خطط نيكسون بادّعاء الجنون معرفة المسؤولين السوفيات، الذين كانوا يعرفون نيكسون منذ عقود، متى كان يتظاهر بتأدية دور الرجل المجنون.
وكما أوضح أحد المسؤولين السوفيات، فقد "اعتاد السيد نيكسون على المبالغة في نواياه بانتظام". في حين جعل سجل ترامب السابق إمكانية التنبّؤ بتصرّفاته من قبل مجموعة من الرؤساء الأجانب الذين اضطروا للتعامل معه في المرة الأولى أكبر. وكما تبيّن، فإنّ القاعدة الأولى لنظرية الرجل المجنون تقوم على عدم التحدّث عن استخدامها. ومع ذلك، فإنّ توقّع التزام ترامب الصمت بشأن هذه الأمور يُعدّ فكرة حمقاء.
وكما أكّدت الأدبيات العلمية، فإنّ المساومة القسرية الناجحة تتطلّب نوعين من الالتزام الجدير بالثقة. أولاً، يجب على الهدف أن يصدّق أن الطرف الآخر سينفّذ تهديداته، بغضّ النظر عن مدى تكلفتها. ثانياً، يجب أن يصدّق الهدف أيضاً أنّ الجهة المهدِّدة ستتوقّف وتكفّ عن فرض ضغوطات بمجرّد التوصّل إلى اتفاق. وبالتالي، إنّ التصرّف كرجل مجنون قد يجعل النوع الأوّل من الالتزام أكثر قبولاً، ولكنه يجعل النوع الثاني من الالتزام أقلّ قبولاً. بعبارة أبسط: ما هو احتمال أن يصدّق صنّاع السياسة الخارجية ترامب عندما يقول رأيه في أيّ موضوع؟ وكما قالت لي مكمانوس في رسالتها الإلكترونية: "معظم المجانين لا يستفيدون من صفة الجنون التي يدعون امتلاكها".
من غير المرجّح أن تنجح محاولة ترامب لتكرار نهج الرجل المجنون في العلاقات الدولية خلال فترة ولايته الثانية، إلا أنّه قد يحاول القيام بذلك في كلّ الأحوال. فهو رجل قليل التحرّك، وهذه إحدى سمات هذا النهج. وقد لاحظ حلفاؤه السياسيون خلال فترة ولايته الأولى أنّ ترامب نادراً ما يلعب لعبة الشطرنج ثلاثيّة الأبعاد، لأنّه "في أغلب الأحيان، يأكل قطع خصمه فحسب".
والمثير للقلق هو أنّه قد يعتقد هذه المرة أنه قادر على تحقيق ذلك حتى عندما لا يفعل ذلك بقيّة العالم. إنّ مسيرة ترامب المعقّدة من مجرم مدان إلى رئيس لولاية ثانية قد تقنعه بتحمّل المزيد من المخاطر. وقد صرّح أحد مستشاري ترامب لمجلة "بوليتيكو" في تشرين الثاني/نوفمبر قائلاً: "لقد نجا من محاولتَي اغتيال، ووجّهت إليه الاتهامات عدة مرات؛ وهو يشعر في هذه المرحلة بأنه الرجل الذي لا يُقهر وبجرأة غير مسبوقة".
وتكمن المشكلة في أنه إذا كان ترامب غير قادر على إقناع أيّ شخص آخر بأنه رجل مجنون حقاً، فإنّ الطريقة الوحيدة التي يمكنه من خلالها إثبات ذلك هي متابعة تهديداته الأكثر غرابة. وقد تنجح هذه الخطة، لكنها قد تؤدي أيضاً إلى تفاقم الصراع وخروجه عن نطاق السيطرة. ولأكون صادقاً تماماً، إنها فكرة مجنونة للغاية.
نقلته إلى العربية: زينب منعم