"فورين بوليسي": استناداً إلى أمثلة تاريخية... كيف تؤثر حرب ترامب التجارية على العالم؟

ما حدث في القرن التاسع عشر يخبرنا عما سيحدث لاحقاً بعد فرض التعريفات الجمركية على الصين والعالم.

  • الرئيس الأميركي دونالد ترامب
    الرئيس الأميركي دونالد ترامب

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تداعيات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ويحذّر من أنّ هذه السياسات قد تؤدي إلى تجميد التجارة الثنائية الأكبر في العالم، مع تصاعد المخاوف من كساد اقتصادي عالمي جديد.

واستند كاتب المقال إلى سلسلة من الأمثلة التاريخية من القرن 19 وحتى الكساد الكبير في الثلاثينات، ليبيّن كيف كانت التعرفات الجمركية المتسرعة سببًا رئيسيًا في أزمات اقتصادية متتالية في الولايات المتحدة.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية بتصرف:

من النادر مشاهدة تطوّرات التباطؤ الاقتصادي العالمي بدقّة كما يحدث الآن، مع فرض الولايات المتحدة تعرفة جمركية بنسبة 145% على الصين، التي ردّت بضريبة انتقامية بنسبة 125%، ما أدّى إلى تجميد أكبر علاقة تجارية ثنائية في العالم، لم نبدأ بعد بحصد عواقبها والتأثيرات المترتبة عنها، بدءاً من صدمة التضخّم المقبلة في الولايات المتحدة وصولاً إلى التراجع المحتمل عن مشتريات الصين من سندات الخزانة الأميركية.

مع أنّهُ قد حصلت بلدان أخرى على مهلة لمدّة 90 يوماً بعد أن دخلت أسعار الفائدة الأميركية الجديدة التي تصل إلى 50% حيّز التنفيذ لفترة قصيرة، ولكنّ خطر حدوث تشنّج في جميع أنحاء العالم لا يزال قائماً. ومع كلّ يوم لا تستطيع فيه الشركات والمستثمرون في الولايات المتحدة وأماكن أخرى التخطيط لمشترياتهم واستثماراتهم بثقة خوفاً من أن تنقلب واشنطن مرّة أخرى، يؤدّي ذلك إلى تباطؤ عجلة الاقتصاد العالمي أكثر. 

ولقد أصبح من الواضح مدى سرعة التدهور مباشرة بعد أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية جديدة مرتفعة على جميع الواردات الأميركية تقريباً بداية الشهر الجاري، حيث تبخّرت تريليونات الدولارات من الأسواق المالية في غضون أيام. ومع بدء المستثمرين بسحب أموالهم من الدولار الأميركي والسندات الأميركية، وإشارات انتشار العدوى تومض باللون الأحمر، خاصّة مع عدم إظهار ترامب أو الرئيس الصيني شي جين بينغ أي نية للتراجع، فإنّ خطر تحوّل المواجهة بينهما إلى حريق اقتصادي عالمي مرتفع للغاية.

إنّ التاريخ الاقتصادي الأميركي يصرّح بالكثير عن كيف يمكن للحروب التجارية أن تؤدّي إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير. فمنذ بداية القرن 19، عانت الولايات المتحدة من 6 مراحل كساد اقتصادي، كانت جميعها باستثناء إحداها، ناجمة مباشرة عن التعرفات الجمركية والحظر التجاري، الذي فاقمها بشكل كبير.

 وبصفتي مؤرّخاً يدرس التجارة الدولية والسلع العالمية والذعر المالي، يمكنني أن أؤكّد أنّ سياسات ترامب في رفع التعرفة الجمركية ستكون مدمّرة ما لم يتمكّن أحد من الوقوف في وجهه وإيقافه.

إنّ أحد مرتكزات القوّة الاقتصادية هو التميّز النسبي في الإنتاج، الذي توفّره التجارة الدولية بإتاحة المجال لبلد ما بالتخصّص بناء على ما يمتلكه من موارد طبيعية في قطاع الزراعة والصناعة. ومن خلال تداول هذه السلع على الصعيد الدولي، يمكن لكلّ بلد تخصيص الموارد النادرة للأشياء التي يمكن لمزارعيها وعمال المناجم والمصنّعين إنتاجها بأقلّ تكلفة.

وقد أثبتت هذه النظرية صحتها حين أجبرت "مجاعة البطاطس" في القرن 19 في بريطانيا والدول الأوروبّية الأخرى على إدراج الغذاء في التجارة الحرّة، ما أدّى إلى زيادة صادمة في الرخاء لم يكن يتوقّعها إلّا القلّة، بينما تضرّرت بعض المجموعات المستفيدة التي كانت محمية سابقاً من مالكي الأراضي بذريعة أنّ روسيا والولايات المتحدة أكثر المستفيدين من هذا التطوّر.

ويرجع ذلك إلى أنّ السهول الخصبة في أوكرانيا التي تسيطر عليها روسيا والغرب الأوسط الأميركي أنتجا القمح بأسعار رخيصة جدّاً؛ ما أدّى إلى انخفاض أسعار الأراضي الزراعية في عموم أوروبا، وإلى نزوح فقراء الريف في بريطانيا وأوروبا إلى المدينة، حيث ضاعفوا من موجة من التحضّر والتصنيع.

غالباً ما يفضّل المحتكرون في البلدان الكبيرة لوائح التعرفات الجمركية، التي تحميهم من المنافسة، وتضاعف قيمة أصولهم. ومن البديهي لبلدان وقوى كبرى مثل الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وضع السلع الغذائية والمنسوجات ورقائق الكمبيوتر ضمن التجارة الحرّة أو على الأقلّ تبني بعضها.

وباعتبار الولايات المتحدة مستعمرة بريطانية سابقة، فلقد كانت دائماً معرّضة على نحو خاص لحروب التعرفة الجمركية. فعلى مدى قرون، صاغت بريطانيا تجارة مستعمراتها وفقاً لأغراض ومصالح الوطن الأمّ، حيث كانت مستعمرات نيويورك وماريلاند وساوث كارولينا توفّر الدقيق والأرز لمزارع التبغ والسكر التي كانت تعمل بالعبودية في فيرجينيا ومنطقة البحر الكاريبي.

كما منعت بريطانيا المستعمرات من تصنيع الحديد والورق والمنسوجات الخاصة بها، إلى أن أدّت القيود المتزايدة التي فرضتها على التجارة الدولية للمستعمرات في النهاية إلى الثورة الأميركية.

منذ بدايتها، سعت موادّ الاتحاد الكونفدرالي ثمّ الدستور إلى الحدّ من الإجراءات التنفيذية التي من شأنها أن تغير التجارة الدولية بشكل حادّ أو سريع. فقد كانت مشاريع قوانين الإيرادات تُودع في مجلس النوّاب، وكان مجلس الشيوخ مطالَباً بالموافقة عليها، حيث ظلّت السلطة التنفيذية مقيّدة بحقّ "الفيتو" للأعضاء.

يعود أصل الكساد الأوّل في أميركا إلى عام 1816 عندما قامت بريطانيا بعد أن انتصرت في الحرب على نابليون، بالتخلّص من كمّيات هائلة من الأقمشة الصوفية التي تمّ التعاقد عليها في الأصل لكسوة الجنود والبحّارة الأوروبيين، وبيعها في أوّل عملية من هذا النوع يقوم بها الجيش والبحرية البريطانيان. حينذاك امتنع التجّار ومصنّعو الصوف الأميركيون عن التعامل مع السلعة البريطانية الرخيصة، وحثّوا الكونغرس على تمرير قوانين الملاحة في عام 1817، التي منعت السفن البريطانية وبضائعها من الوصول. وقد ردّت بريطانيا آنذاك، بإصدار أوامر منعت السفن الأميركية من تسليم الحبوب للمستعمرات البريطانية في الكاريبي، حيث خسر المزارعون الأميركيون هذه الأسواق التي سيطروا عليها لأكثر من قرن.

في العام 1818 انخفضت أسعار القمح الأميركي بنسبة 50%، ولم يعد المزارعون قادرين على تأدية دفع الرهون العقارية المستحقة على أراضيهم لمكتب الأراضي الأميركي. ولم يدفع المزارعون ديونهم كذلك في المدن الأميركية. ثمّ بدأ الذعر عام 1819، واستمرّت القيود التجارية في تشويه الأسواق. وبمرور الوقت، أنقذت نيويورك نفسها عن طريق تهريب القمح عبر البحيرات العظمى إلى كندا، حيث حوّلته مطاحن تورنتو ومونتريال إلى دقيق بريطاني مقيّد للبيع في منطقة البحر الكاريبي فقط.

كذلك، جعلت الحرب التجارية الأنجلو أميركية تكلفة الغذاء لمزارع الكاريبي مرتفعة للغاية إلى درجة أنّ "مالكي العبيد" ضغطوا على الدولة الأمّ ّلإلغاء الرقّ، ولكن ليس قبل أن تعوّضهم عن ثمن "رقيقهم". 

كما أدّت القيود التجارية الدولية التي أقرّت لأوّل مرّة في عام 1817 إلى خنق صادرات الحبوب الأميركية، ما زاد ترسيخ إنتاج القطن ومعه العبودية في الجنوب الأميركي.

لقد أدّى الإجراء التنفيذي المتسرّع في التجارة الدولية من قبل الرئيس أندرو جاكسون إلى بدء الكساد الأميركي التالي في العام 1819، حيث كانت سلاسل الائتمان الطويلة والمتشابكة تموّل التوسّع في مزارع القطن في الجنوب الأميركي. كما، قام البنك الثاني في الولايات المتحدة مع 7 بنوك بريطانية وأصدروا كمبيالات قدّمت ائتماناً لمصارف أميركية إقليمية أصغر، والتي قدّمت بدورها قروضاً قصيرة الأجل لتجّار "العبيد" في الجنوب الأعلى، الذين اشتروهم في فرجينيا وكارولينا الجنوبية وباعوهم لمزارع القطن في جورجيا ومسيسيبي ولويزيانا. ولأنّ أسعار الفائدة كانت تُحدّد من قبل بنك إنجلترا، فإنّ زيادة بسيطة في سعر الفائدة في لندن يمكن أن تجعل من المستحيل على هؤلاء شراء الأراضي أو "العبيد" في نيو أورليانز.

اقتنع الرئيس جاكسون أخيراً بأنّ البنك الثاني والمصارف البريطانية كانوا يتآمرون ضدّه، فأصدر سلسلة من الأوامر التنفيذية في عامي 1834 و1836 تهدف إلى كسر اعتماد "مالكي العبيد" على الائتمان البريطاني. كما أزالت أحد أوامر جاكسون الودائع من البنك الثاني في الولايات المتحدة، ونقلت إلى سلسلة من المصارف المفضّلة والمرتبطة بحلفاء جاكسون السياسيين.

كما حظرت أوامر جاكسون على المزارعين الاقتراض من المصارف لسداد قروضهم العقارية لمكتب الأراضي الأميركي، ما أجبرهم على استخدام الذهب، العملة التي كانت متداولة آنذاك، وقد استفاد من ذلك "ملّاك العبيد" الجنوبيون الذين يملكون مناجم ذهب في شمال جورجيا وغرب كارولينا الشمالية قبل اكتشاف الذهب فيها، حيث قام بنك إنجلترا، بعد أن رأى ذهبه يختفي في الولايات المتحدة، برفع سعر الفائدة المصرفية وقطع لفترة قصيرة تبادل الذهب الدولي عن 7 مصارف كبيرة.

هكذا بدأ كساد عام 1837. وهرب المزارعون الجنوبيون من ديونهم وهجروا المزارع وحملوا "رقيقهم" واتّجهوا نحو جمهورية تكساس المستقلّة حيث كانوا في مأمن من الدائنين. وأغلقت المتاجر، وفشل المصنّعون، وفي غضون 5 سنوات، تعثّرت 7 ولايات عن تغطية قيمة السندات التي أصدرتها على المستوى الدولي.

ولقد جاء الكساد التالي في عام 1873، عقب تحوّلات جذرية في أسعار السلع عالمياً، ولكن لم يتسبّب أيّ إجراء متسرع بشأن التعرفات الجمركية في حدوثه. ولكن لا يمكن قول ذلك عن كساد عام 1893، حين قام مجلس النواب قبل 3 سنوات بمراجعة قواعده الخاصّة بالتشريع، ما جعل الكونغرس فعّالاً وقوياً بشكل مثير، وبعد أن شعر الجمهوريون بالارتياح، أقرّوا قانون ماكينلي للتعرفة الجمركية لعام 1890، الذي رفعها على الواردات المصنّعة من 38 إلى 50%. ومع إلغاء التعرفة الجمركية على السكّر شبه المكرّر، وهو عنصر فارق كبير بالنسبة إلى بلد كان يصدّر الأطعمة المعلّبة مثل الخوخ والسلمون ولحم البقر، والتي كانت جميعها تستخدم السكّر كمادّة حافظة آنذاك.

لقد كان للتعرفات الجمركية المرتفعة تأثير في خفض إيرادات الولايات المتحدة بشكل كبير، كما يحدث عادة. وفي غضون عامين استنزف الذهب في الخزانة الأميركية تقريباً، ما دفع المقرضين الأجانب إلى بيع السندات الأميركية، وخاصّة تلك التي أصدرتها شركات السكك الحديد، لخشية المدينين من أنّ الولايات المتّحدة من دون الذهب في الخزانة، ستتخلّى عن ضمان السندات التي ستسدَّد بالعملة الأميركية التي انخفضت قيمتها وغير مغطّاة فعلاً بالذهب.

كذلك أسهم قانون سموت هاولي للتعرفات الجمركية الصارم إلى حدّ كبير في الكساد الكبير في ثلاثينات القرن المنصرم، على الرغم من أنّ بعض المؤرّخين الاقتصاديين أكّدوا أنّ عرض النقود في الولايات المتحدة وتعثّر دورة الازدهار، والكساد في الأوراق المالية الأميركية وديون الحرب التي لم تحلّ مع أوروبا هي الأسباب الأكثر مباشرة. لكن، لا يمكن إخفاء أنّ التغيّرات السريعة في التعرفات الجمركية، تفرض تبديلاً في الطرق التي يعمل بها العالم، وتؤثّر في التجارة الدولية بشكل جذري، وتستغرق سنوات عديدة للاستجابة لها، وعادة ما تؤدّي إلى سلسلة واسعة من العواقب غير المتوقّعة.

دروس القرنين الماضيين يمكن أن تساعدنا على فهم ما سيحدث بعد ذلك في واقعنا الحالي، وهل ستجبر تعريفات ترامب العديد من الشركات على خسارة الأعمال المستقرّة، تماماً مثل المزارعين والمتاجر الريفية والتجّار و"مالكي العبيد" في القرن 19.

على سبيل المثال، أعلنت شركة "هاومت" المورّدة للطائرات بالفعل حالة الطوارئ القاهرة، مهدّدة بوقف الشحنات بسبب تأثيرات التعرفة الجمركية. ومن المرجّح أن يتخلّى العديد من الشركات الأخرى في مختلف القطاعات ولا سيّما تلك التي تتاجر مع الصين عن العقود الآن بعد أن دخلت التعرفات حيّز التنفيذ.

يموّل العديد من الأعمال المتراجعة عن طريق صناديق الائتمان، والتي يحتفظ بها في الغالب المصارف وصناديق التحوّط وشركات التأمين والوسطاء الماليين الآخرين. ويتمّ تغليف بعض هذه الائتمانيات وبيعها لعدد لا يحصى من المستثمرين الآخرين

 وبينما تتمتّع أسواق الأسهم بمرونة كبيرة في امتصاص الخسائر، فإنّ أسواق الائتمان الأكبر والأكثر تعقيداً إلى حدّ كبير ليست كذلك، كما يدرك أيّ شخص تابع أزمة عام 2008، حين قام الاحتياطي الفيدرالي بشراء سندات ضعيفة لإعادة ضخّ السيولة في السوق الراكدة.

أعتقد أنّ الاحتياطي الفيدرالي يستطيع التعامل مع الفوضى التي شهدناها حتّى الآن. ولكنّنا لم نتعامل بعد مع الآثار الكاملة لتجميد التجارة بين الصين والولايات المتحدة، ولا يزال من غير الواضح أيضاً ما الذي سيحدث بعد تعليق التعرفات لمدّة 90 يوماً على بقية العالم.

إذا لم يتمكّن الكونغرس من إعادة تأكيد سلطته الدستورية على التعرفات الجمركية، وإذا كانت السلطة على التجارة الأميركية تتركّز الآن في يد شخص واحد، كما كانت الحال مع جاكسون قبل قرنين، فلن يكون أيّ مصرف مركزي لديه القدرة على تحمّل انهيار السيولة الذي سيأتي مع الكساد الدولي الذي يلوح في الأفق.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.