"فورين بوليسي": أزمة العالم الكبرى هي نهاية عصر الندرة

كيف تسبّب عصر الوفرة الذي نعيشه بالمشاكل العالمية التي ابتُلينا بها اليوم؟

  • "فورين بوليسي": أزمة العالم الكبرى هي نهاية عصر الندرة (الصورة: فورين بوليسي)

يتحدث مقال مطول في مجلة "فورين بوليسي" عن عالم اليوم، الذي يتميز بانتهاء عصر الندرة والانتقال إلى الوفرة، من حيث الإنتاج الزراعي والصناعي، وتوفر المعلومات والتطور التكنولوجي، ويخلص إلى أن العالم يجب أن يجد حلولاً للمشاكل التي وفرها هذا العصر قبل أن تتحول الوفرة إلى نقمة مدمرة.

فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:

تخيّل مراقِبة فضائية، يتم إرسالها متخفّية إلى الأرض كل نصف قرن، لتفسير وضع البشرية على هذا الكوكب. ماذا ستنقل لزملائها خارج كوكب الأرض حول عام 2024؟

قبل القيام برحلتها، تتصفّح تقاريرها السابقة، وتلحظ بعض الأمور. في عام 1974، سجّلت الولايات المتحدة، القوة الديمقراطية الرائدة في العالم، حالة تراجع جيوسياسي وفوضى داخلية، في حين شكّل الاتحاد السوفياتي قوّة نفوذها في تزايد. وكانت الصين، الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، بقيادة ماو تسي تونغ تتمتّع باقتصاد بالكاد يفوق حدّ الكفاف، في حين لم يكن وضع الهند، الدولة الثانية من حيث عدد السكان، أفضل حالاً. وعانى الاقتصاد العالمي من التضخم وتباطؤ في النمو، واتسم بالنظام النقدي والمالي الدولي الفوضوي. وكانت الحروب أو التهديد بالحروب، سواء الأهلية أو بين الدول، حاضرة في كل جزء من العالم؛ وكادت نهاية العالم أن تصل إلى هذا الكوكب.

ومع ذلك، فإنّ تقرير عام 1974 سجّل تفاؤلاً مفرطاً مقارنة بتقرير عام 1924. فقد انتهت حرب عالمية مروّعة بينما كانت تُغرس بذور حرب أخرى أكثر دموية. وشكّلت الإمبريالية النظام الدولي، إذ كانت نسبة كبيرة من سكان العالم تخضع للحكم أو الاستغلال من قبل العواصم الأوروبية على بعد آلاف الأميال. وانتهى الكساد الاقتصادي الحاد لتوّه، لكنه لم يكن سوى مقدمة لانهيار مالي أعمق بكثير وأكثر تدميراً بعد بضع سنوات. وكانت العنصرية وكراهية النساء والتعصب عرفاً سائداً. ومع ذلك، كان ذلك الوقت بمثابة الجنة مقارنة بالتاريخ السابق. وأشار تقرير عام 1874 إلى أنّ متوسط ​​العمر المتوقع على مستوى العالم كان 30 عاماً فقط، وأنّ عدداً قليلاً من الأشخاص لم يتعرضوا، في مرحلة ما من حياتهم، للعنف الشخصي والمجتمعي والأمراض الفتاكة وسوء الحكم وسوء الإدارة والتهديد بالمجاعة والكوارث. في الواقع، كان كل تقرير نصف قرن سابق أكثر خطورة من التقرير الذي سبقه.

بالنظر إلى هذا المنظور التاريخي، يمكن للمراقِبة الفضائية أن تُرسل تقريراً إيجابياً منمّقاً إلى وطنها. ففي عام 2024، انخفضت معدلات المجاعة والأميّة بشكل كبير، وتضاعف متوسط ​​العمر المتوقّع خلال القرن الماضي. وتمّ تجميع ثروات بأحجام لا يمكن تصوّرها وتوافرت كميات هائلة من المعلومات للأشخاص العاديين بشكل فوري؛ وأُنشئت عمالة تحويلية جديدة وتقنيات منقِذة للأرواح كل يوم. ويُعدّ حدوث إبادة جماعية أمراً نادراً وأصبح التسامح، وليس التحيّز، عُرفاً مشتركاً؛  كما أُلقي الاستعمار الرسمي في مزبلة التاريخ؛ ومن غير المُرجح أن يتحوّل الركود الاقتصادي إلى كساد مُرهق.

والأهم من ذلك أنّ الحوافز التي كانت تدفع الدول إلى تعبئة مجتمعاتها بشكل كامل لمواصلة حروب الغزو الشاملة، والتي ربما كانت تعدّ الجانب الأكثر تفشياً وإثارة للخوف في السياسة العالمية في سجلاتها الماضية، قد اختفت تقريباً. ويُتوقع حالياً أن تعمل الدول على حماية مواطنيها وتوفير الإعانات لهم، بدلاً من مجرد استخدامهم كغذاء عسكري لقهر الأعداء والاستيلاء على الأراضي. فالأفكار والابتكارات هما مصدر القوة في هذا العالم الجديد، وليست الأراضي.

باختصار، لقد حقق العالم تقدماً لا يمكن تصوره في ترويض التحديات الشديدة المتمثلة في النُدرة التي ابتُليت بها البشرية لآلاف السنين وكانت أحد المحركات الأساسية للحروب الشاملة من أجل النهب والخلافة والغزو. لكنّ النجاح في خلق عالم أكثر ازدهاراً واستنارة وأماناً لبشرية قد ولّد، بشكل غير متوقع، مجموعة جديدة كاملة من التحديات على هذا الكوكب التي إذا لم يتم حلها تُهدد بكارثة، إن لم يكن بانقراض البشرية.

وكان التقدّم الملحوظ في بناء مستويات لا يمكن تصوّرها من الثروة والمعلومات والأمن سبباً في خلق مشاكل الوفرة الجديدة الأكثر إرباكاً، وربما الأكثر خطورة، ومن المفارقات أنّها تحديات غير متوقعة وربما كارثية نشأت بسبب الجهود المبهرة التي بذلتها البشرية لترويض الندرة.

لقد تسبّبت 5 تحولات ثورية أساسية في خلق عصر الوفرة الحالي. أمّا التحوّل الأول، فتجسّد في حدوث ضغط ديموغرافي طوعي وغير متوقع في العالم المتقدم، مع انخفاض معدلات الولادات بشكل حاد وزيادة متوسط ​​العمر المتوقع بشكل ملحوظ؛ وتباطؤ النمو السكاني، فتضاءلت الحاجة إلى احتلال مناطق إضافية. وأمّا التحوّل الثاني، فتجلّى ببروز ثورة اقتصادية تكنولوجية أدت إلى تحسّن كبير في العائدات الزراعية وتوافر الغذاء، وعززت الإنتاجية الصناعية بشكل كبير، وغيرت الرأسمالية المالية، في حين حسّنت وسائل النقل والإسكان والصحة، وجعلت الوقود متاحاً وبأسعار معقولة.

في التحوّل الثالث، حدثت ثورة معلوماتية، إذ أفضت زيادة المعرفة بالقراءة والكتابة والتغير التكنولوجي إلى زيادة كبيرة في حجم الوصول إلى المعرفة حول العالم. وفي التحوّل الرابع، أنشأ زعماء العالم المتقدم مؤسسات وممارسات حكم محلية ودولية أدّت، من بين فوائد أخرى، إلى توليد قدر أكبر بكثير من الاستقرار المحلي والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية، والقضاء على فترات الكساد الكبير، وتوفير المزيد من الأمن الشخصي والجماعي، وإنشاء نظام سياسي يقدّر النظام والسيادة وحقوق الإنسان، بمرور الوقت.

وأخيراً، أدت القدرات العسكرية الجديدة الرائدة، ولا سيّما الأسلحة النووية الحرارية، إلى زيادة تكاليف ومخاطر حروب الغزو بين القوى العظمى.

وقد اجتمعت هذه الثورات للحدّ من ظلال المجاعة والمرض والبؤس التي طالت التجربة الإنسانية لفترة طويلة، ما أدى إلى زيادة إجمالي الثروة والمعلومات بشكل كبير وإضعاف الدوافع الأساسية للتوسع الإقليمي؛ وبالتالي، ساهم في تحسين نوعية الحياة بلا حدود في العالم المتقدم. فاستقرت الشعوب وتقدمت في السن؛ وأصبح الغذاء والموارد والأسواق أكثر وفرة؛ وانفجرت تدفقات المعلومات من دون الحاجة إلى وسطاء.

فما هي بالتحديد مشاكل الوفرة؟ إنّ النظام العالمي الحالي ينتج مخرجات مادية هائلة، تتولد عن زيادة التبادل العالمي، لكنّ توزيعها بشكل عادل بين السكان يُعدّ أمراً مثيراً للجدل. وقد أدى هذا الازدهار الهائل الناتج عن البراعة التجارية والصناعية المزدهرة إلى توليد مخاطر جسيمة تتمثل في كوارث مناخية وبيئية وكوارث تتعلق بالهجرة والصحة العامة. كما أدى ظهور التكنولوجيات الجديدة، التي تم تطويرها إلى حد كبير في القطاع الخاص، إلى حل عدد لا يحصى من المشاكل، في حين خلقت مشاكل جديدة مخيفة. ومن المثير للدهشة أنّ كمية غير محدودة من البيانات والمعلومات، التي لم تعد تتوسط فيها المؤسسات القديمة، تولّد مخاطر مختلفة، وإن كانت محفوفة بالقدر نفسه من المخاطر التي تولّدها المعلومات النادرة التي تسيطر عليها المؤسسات الدينية أو الدولة.

وكما يشير جوناثان إس. بليك ونيلز جيلمان في كتابهما القادم، "أطفال نجم متواضع" (Children of a Modest Star)، فإنّ قائمة التهديدات التي تتوعّد رفاهية الإنسان، والحياة، والكوكب نفسه الناتجة عن الوفرة تُعدّ قائمة مروّعة: "تغير المناخ، والأمراض الوبائية، وتآكل الأوزون في طبقة الاستراتوسفير، وكمية الهباء الجوّي، والمخلّفات الفضائية، وتزايد مقاومة المضادات الحيوية، وفقدان التنوع البيولوجي، والاضطرابات الوراثية البشرية المنشأ، وتدهور صحة التربة، ودورات النيتروجين والفوسفور المقلوبة رأساً على عقب، ونضوب المياه العذبة، وتحمّض المحيطات، والمواد البلاستيكية المحيطية، وربما حتى التقنيات الناشئة ذات الإمكانات الاستصلاحية، مثل الهندسة الحيوية والذكاء الاصطناعي".

تتجلّى إحدى السمات الرئيسة لعصر الوفرة بالقدرة الاستثنائية على نقل كميات هائلة من الأفكار والأموال والسلع، وبخاصة الأشخاص في جميع أنحاء العالم بسرعة، بغض النظر عن الحدود والأقاليم. لكنّ هذه الثورة في النقل لا تمكّن المواطنين الصالحين والمنتجات الصالحة من التحرك في جميع أنحاء العالم فحسب: بل إنّ العوامل غير المرغوب فيها، من مسبّبات الأمراض إلى الإرهابيين إلى الأفكار السيئة، قد تتحرك بسرعة أكبر بكثير ومن دون عناء، وغالباً ما تكون لها عواقب مدمّرة.

كما تم رفع سقف التوقعات بشكل كبير في حين لم يتم تلبيتها. وفي حين عمل عصر الوفرة على تعزيز التسامح والفردية الراديكالية، كذلك قوّض التماسك الاجتماعي وأضعف الشعور بوجود هدف مشترك لازم لمواجهة هذه التحديات. وقد تبيّن أن القواعد والمؤسسات الحاكمة التي تمّ تطويرها لترويض الندرة بنجاح، باتت غير مناسبة لمواجهة التحديات المعاصرة، الأمر الذي أدى إلى توليد أزمة الشرعية السياسية وتأجيج الاستقطاب.

في عصر الوفرة حيث لا معنى للإمبريالية والنهب والغزو، كيف ينبغي لنا أن نفهم الاضطرابات الحالية التي تشهدها السياسة العالمية، والتي تميزت بارتكاب الفظائع في الشرق الأوسط، والحرب في أوكرانيا، والتوترات المتفاقمة بين أقوى دولتين في العالم الصين والولايات المتحدة؟ ولماذا تركز القوى الرائدة ظاهرياً على القضايا التي يتردد صداها في عالم الندرة، ولا سيّما التنافس بين القوى العظمى والحروب، في حين تقدم إجابات غير كافية للقضايا الملحة التي يولدها عالم الوفرة؟ هناك العديد من الأسباب، وأبرزها ثلاثة. 

أولاً، يعتبر الدخول الروسي إلى أوكرانيا عام 2022 الاستثناء الذي يكسر القاعدة، ويكشف عن مخاطر القرارات الاستراتيجية المبنية على افتراضات عفا عليها الزمن حول الغزو. فمن منظور المصلحة الوطنية الضيق، كانت الرغبة في السيطرة على منطقة دونباس منطقية إلى حدّ ما في عام 1900، عندما شكلت وفرة الفحم والقمح والدفاع في العمق والسكان المطيعين إضافة إلى قوة روسيا في عالم شكلته الندرة وكانت الإمبريالية والغزو نمطاً سائداً. أمّا اليوم، وفي عصر بات فيه الغذاء والوقود رخيصين ومتوفرين تاريخياً، والأراضي أقل قيمة، والأراضي التي تم احتلالها صعبة الإخضاع بشكل أكبر، أصبحت الاستراتيجيات الكبرى البديلة واعدة للغاية، والعالم مذعور؛ وحتى الغزو الناجح لأوكرانيا من غير المرجح أن يجعل روسيا أكثر قوة على المدى الطويل. يوجد العديد من الاختلافات المهمة بين حروب أميركا الكارثية في الشرق الأوسط الكبير بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، والحرب الروسية في أوكرانيا. ومع ذلك، فإنّ كلا منهما يعكس قرارات استراتيجية كبرى سيئة تعتمد على قراءات خاطئة عميقة لطبيعة القوة وحوافز النظام الدولي المعاصر، وعدم إدراك الصعوبة المتزايدة وانخفاض مردود استخدام القوة لغزو الأراضي أو إخضاع السكان غير المتعاونين في عصر الوفرة. 

ثانيًأ، من المهم أن ندرك وجود أسباب كثيرة للحرب والصراع تتجاوز النهب والغزو الإمبريالي. ويجب علينا بالأخص التمييز بين الغزو الإمبريالي للماضي أو الدافع التوسعي وغير المحدود في كثير من الأحيان لضم الأراضي والمستعمرات، والمطامع أو الرغبة المحدودة لدولة ما في استعادة الأراضي التي تعتقد أنها فقدتها بشكل غير عادل. إنّ أخطر الأماكن في العالم، وهي كشمير وشبه الجزيرة الكورية والشرق الأوسط ومضيق تايوان، هي الأماكن التي تكون الدول فيها على استعداد للقتال ولو بتكلفة باهظة لاستعادة الأراضي التي تعتقد أنها ملك لها بشكل طبيعي وتاريخي. وفي حين يبدو الغزو الإمبريالي والمطامع متشابهين، إلّا أنّ هناك عوامل وقوى مختلفة إلى حد كبير تحرّكهما، وتتشكل من خلال حسابات التكلفة والفائدة المختلفة، وتتطلب استجابات استراتيجية كبرى مختلفة.

وسواء كانت طموحات الصين للاستيلاء على تايوان مثالاً على المطامع أو الرغبة في الهيمنة العالمية فهي مسألة بالغة الأهمية. لكن بغض النظر عن الهدف النهائي للصين، فإنّ الظروف المتغيرة التي وفرها عصر الوفرة تجعل عودة إمبراطورية أوراسيا إمبراطورية دائمة التوسع أشبه بفرنسا النابليونية أو ألمانيا النازية، أو اليابان الإمبريالية، أو الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين أمراً غير مرجّح على الإطلاق. وعلى عكس الدول والإمبراطوريات خلال عصر الندرة، لا تملك الصين أي سبب للخوف من التعرض للغزو، كما أنّها، حتى لو أرادت ذلك، لن تتمكن بسهولة من غزو جيرانها واحتلالهم مثل الهند واليابان ودول جنوب شرق آسيا، خاصة إذا أدى الاستيلاء الناجح على تايوان في المستقبل إلى تحقيق توازن عسكري واسع النطاق وانتشار نووي في المنطقة. وفي عصر الوفرة، قد تكتشف الصين قريباً أنّ نسبة تكاليف الغزو قد انقلبت تماماً على مدى القرن الماضي. وحتى لو كانت بكين ترغب في مواصلة غزوها الإمبراطوري، فمن الصعب أن نتخيل كيف يمكن أن تنجح، وإذا حاولت فإنها ستخاطر بهزيمتها وانهيارها.

وأخيراً، غالباً ما يستغرق الأمر بعض الوقت، وأحياناً عقوداً، حتى يدرك الناس والمؤسسات والدول متى تغيرت بيئتهم وظروفهم، ويحدّثون افتراضاتهم وعدساتهم المفاهيمية وممارساتهم السياسية وفقاً لذلك. لقد خلفت آلاف السنين من الغزو والحكم الإمبراطوري والثورات العنيفة، فضلاً عن المؤسسات الحاكمة التي بنيت للتعامل مع تلك الأزمات، ندوباً عميقة وافتراضات بلا منازع. وكانت الدول والقادة والسكان بطيئين في إدراك التغيرات العميقة في التركيبة السكانية والتكنولوجيا والاقتصاد والحقائق الاجتماعية والثقافية التي فعلت الكثير لترويض الندرة في حين أثارت مشاكل الوفرة.

يمكن أن يأتي قصر النظر هذا بتكلفة باهظة. فربما يتقاسم زعماء اليوم السمات التي كان يتمتع بها أسلافهم الحزينين عشية الحرب العالمية الأولى. وفي مواجهة عالم سريع التغير وظواهر عالمية لا يفهمونها، فإنهم يتراجعون عن معتقداتهم القديمة وغير المعلنة وغير المدروسة في كثير من الأحيان حول الكيفية التي يجب أن يعمل بها العالم، بدلاً من محاولة فهم كيفية عمل العالم بشكل أفضل. وعلى الرغم من الرعب الذي تسببه مشاكل الندرة والسلوكيات الجيوسياسية التي تطلقها، إلا أنها تبقى مألوفة على الأقل. فالقوى الرائدة وقادتها ومؤسساتها تدرك كيفية إدارة اللعبة السياسية للقوى العظمى التي هيمنت على الماضي. إنّ مشاكل الوفرة  والحلول المطلوبة تُعدّ غير مألوفة ومربكة وشائكة. ومع ذلك، فإنّ الكوكب الذائب، والهجرات الجماعية، وجائحة أخرى أكثر فتكاً، والتكنولوجيات الجديدة المزعزعة للاستقرار، وسرطانات عدم المساواة، والاستقطاب العميق، والتشرذم الاجتماعي والثقافي والاغتراب، تهدد جميعها الولايات المتحدة والكوكب أكثر من ذلك النوع من الهيمنة الأوراسية الصناعية المتوسعة التي ابتليت بها النصف الأول من القرن العشرين.

فكيف إذاً ستختم صديقتنا الفضائية تقريرها؟ وكانت تشير إلى أنّ المؤسسات والممارسات والنظريات والسياسات التي نجحت في ترويض الندرة، والتي هيمنت على المناقشات الحالية، كانت غير مناسبة على الإطلاق لمواجهة مشاكل الوفرة. سيتم تسليط الضوء على تكاليف الفشل في تحديث الافتراضات الأساسية غير المعلنة في كثير من الأحيان حول كيفية عمل العالم، وما هي الأمور المهمة التي يجب التصويب عليها؛ ومن خلال الاستعداد للحرب الأخيرة، قد تتدمر الأرض بشكل مأساوي ومن دون داعٍ. ومن شأن تقريرها أن يوبخ المفكرين ورجال الدولة في عام 2024 بسبب هوسهم بعودة المنافسة بين القوى العظمى واستعادة أعمال المفكرين الجيوسياسيين مثل ماهان وماكيندر من أجل السيطرة على المحيطات والأراضي التي، إذا لم تتم مواجهة مشكلات الوفرة فيها، قد تفنى وتصبح غير صالحة للسكن في وقت قريب.

إنّ زيارتها للكوكب كل نصف قرن جعلتها، على عكس أصدقائها المتواجدين على الأرض، متفائلة. فالبشرية لا تسلك الطريق السهل أبداً، ونظراً للمخاطر المُحدقة، يمكن أن تخطئ بسهولة - من خلال البدء بحرب عالمية ثالثة أو عدم الاستعداد لجائحة أكثر فتكاً من "كوفيد-19"، أو الذكاء الاصطناعي غير المقيد، أو العواقب المميتة لأزمة المناخ. وهي تذكّر نفسها، وتتمنى أن يتذكر مواطنو الكوكب، أنّ القليل ممن عاشوا في أعوام 1974 أو 1924 أو 1874 استطاعوا تخيل التقدم الاستثنائي الذي حققه أبناء الأرض منذ ذلك الحين. وهذا ما يمنحها الأمل، ربما ضد حكمها الأفضل، في أن تتمكن من زيارتها في عام 2074 وتنبهر مرة أخرى.

 

نقلتها إلى العربية: زينب منعم.