"فورين أفيرز": كيف يُقيّد الرأي العام العربي التطبيع مع "إسرائيل"؟

جهود الشعوب تغيّر الديناميكيات الإقليمية بطرق تتحدى المصالح الأميركية والإسرائيلية.

  • عشرات الآلاف يتظاهرون دعماً للفلسطينيين في المغرب
    عشرات الآلاف يتظاهرون دعماً للفلسطينيين في المغرب

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يقدّم تحليلاً سياسياً واجتماعياً شاملاً للتأثير الذي أحدثته الحرب الإسرائيلية على غزة على الرأي العامّ العربي وعلى سياسات الحكومات العربية، خصوصاً في ضوء التطورات السابقة مثل اتفاقيات "أبراهام" والتقارب العربي الإسرائيلي.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:

عندما بدأت "إسرائيل" بتطبيع العلاقات مع بعض جيرانها عام 2020، كجزء من اتفاقيات "أبراهام" التي توسّطت فيها الولايات المتحدة، بدأ العديد من المحللين يتساءلون عما إذا كانت القضية الفلسطينية لا تزال تُهمّ العالم العربي. ازدادت الشكوك حول أهمية هذه القضية بالنسبة للعرب أواخر عام 2023، عندما بدا أنّ المملكة العربية السعودية قد تنضمّ أيضاً إلى الاتفاقيات، وتُطبّع العلاقات مع "إسرائيل" من دون المطالبة، في المقابل، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

أثارت الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة، التي أعقبت هجوم حماس على "إسرائيل" في 7 أكتوبر 2023، غضباً دولياً إزاء نطاق العنف المُستخدم ضد المدنيين الفلسطينيين وحصار "إسرائيل" للمساعدات الإنسانية المُقدّمة لغزة.

لطالما عانى الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية من العنف والحرمان، لكن المعارضة العربية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية نادراً ما كانت عاملاً حاسماً في الصراع. بالنظر إلى مستوى الدمار غير المسبوق الذي أحدثته هذه الجولة من القتال، توقّع العديد من المراقبين أن يؤدي غضب المواطنين العاديين في الدول العربية إلى تحوّلات كبيرة في خطاب حكوماتهم وسياساتهم.

بدلاً من ذلك، جادل بعض الباحثين بأنّ هجمات 7 أكتوبر والأحداث التي تلتها قد أضعفت في الواقع القضية الفلسطينية، مشيرين إلى أنّ القضية قد تراجعت إلى حدّ كبير عن الأجندة الدولية. ويستشهد البعض، على سبيل المثال، بحقيقة أنّ أياً من الدول العربية التي وقّعت معاهدات سلام مع "إسرائيل" لم تقطع تلك العلاقات. وبالمثل، خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة إلى قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تراجعت القضية إلى مرتبة ثانوية، على الأقل علناً، حيث طغت عليها المصالح الاقتصادية للأطراف.

ومع ذلك، فإنّ هذا الرأي يغفل حقيقة حاسمة. وكما توضح استطلاعات الرأي التي أجريناها في المنطقة، فقد تغيّر الرأي العامّ العربي بالفعل، وبطرق أثّرت على سلوك الأنظمة في الدول العربية. وعلى الرغم من أنّ مصالحهم الأساسية لم تتغيّر بشكل ملموس نتيجة للصراع في غزة، إلا أنّ سياساتهم الخارجية كانت مقيّدة بسبب غضب مواطنيهم المتزايد إزاء الهجمات الإسرائيلية. وبعد أن بدأت "إسرائيل" حملتها في غزة، توقّف التطبيع العربي الإسرائيلي. وخلال زيارة ترامب الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية، لم يكن توسيع اتفاقيات التطبيع على جدول الأعمال. وعلى الرغم من السابع من أكتوبر وحرب غزة، لا تزال بعض الحكومات العربية تأمل في علاقات أوثق مع "إسرائيل"، معتقدة أن مثل هذه العلاقات ستخدم مصالحها الاستراتيجية. لكنها لم تتمكّن من المضي قدماً بسبب المعارضة الشعبية.

اليوم، على عكس ما كان عليه الحال قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لا يمكن لقادة المنطقة تجاهل دعم شعوبهم للقضية الفلسطينية. إذا أرادت "إسرائيل" أن تُحرز تقدّماً ملموساً في اندماجها في المنطقة، فلا بدّ من إيجاد سبيلٍ ما لإقامة دولة فلسطينية.

الأولويات العامّة

لطالما أيّد المواطنون العاديون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قيام الدولة الفلسطينية. وفي الأشهر التسعة التي تلت بدء الحملة الإسرائيلية، تعمّق هذا الالتزام. خلال تلك الفترة، أجرت منظمتنا، "البارومتر العربي"، استطلاعات رأي وطنية تمثيلية في جميع أنحاء المنطقة.

ووجدنا أنّه من المغرب إلى الكويت، وصفت أغلبية واضحة من المشاركين في الاستطلاع هجوم "إسرائيل" على غزة بمصطلحات "إبادة جماعية" أو "مجزرة" أو "تطهير عرقي". ومع ذلك، أقرّ معظم المشاركين بحقّ "إسرائيل" في الوجود: حتى بعد ردّ "إسرائيل" بالقوة العسكرية على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، أيّدت أغلبية في جميع الدول التي شملها الاستطلاع تقريباً حلّ الدولتين لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لكنّ العداء تجاه "إسرائيل" ظلّ سائداً: على سبيل المثال، أفاد 3% فقط من التونسيين بأن لديهم رأياً "إيجابياً جداً" أو "إيجابياً إلى حد ما" تجاه "إسرائيل". كما انخفض دعم التطبيع مع "إسرائيل"، بما في ذلك في الدول التي وقّعت بالفعل على اتفاقيات "التطبيع". وفي المغرب، الذي قام بتطبيع العلاقات مع "إسرائيل" من خلال الاتفاقيات في عام 2020، فضّل 13% فقط من المستجيبين تطبيع العلاقات بين الدول العربية و"إسرائيل" في الأشهر التي أعقبت 7 تشرين الأول/أكتوبر، مقارنة بـ 31% في عام 2022.

تغيّرت آراء المواطنين العرب تجاه الجهات الدولية الفاعلة أيضاً نتيجةً للحرب في غزة. ففي معظم الدول التي شملها الاستطلاع في المنطقة، أفاد الناس بانخفاض ملحوظ في تأييدهم للولايات المتحدة في الاستطلاعات التي أُجريت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، مقارنةً بتلك التي أُجريت بين عامي 2021 و2022، بما في ذلك انخفاض بنسبة 23 نقطة مئوية في الأردن، و19 نقطة في موريتانيا، و15 نقطة في لبنان، و7 نقاط في العراق. وشهدت دول أخرى حليفة لـ "إسرائيل"، مثل فرنسا والمملكة المتحدة، انخفاضاً مماثلاً. فقد انخفضت نسبة التأييد لفرنسا بنسبة 20 نقطة مئوية في لبنان، و17 نقطة في موريتانيا، و10 نقاط في المغرب. وينطبق الأمر نفسه على الآراء الإيجابية تجاه المملكة المتحدة، التي انخفضت بنسبة 38 نقطة مئوية في المغرب، و11 نقطة في الأردن، و5 نقاط في العراق. وفي الوقت نفسه، وخلال الفترة نفسها، تحسّنت الآراء تجاه الصين بشكل كبير، معوّضةً بذلك تراجعاً استمر لسنوات. فقد زادت نسبة التأييد للصين بنسبة 16 نقطة مئوية في الأردن، و15 نقطة في المغرب، و10 نقاط في العراق، و6 نقاط في لبنان.

لم تصاحب هذه التغيّرات الجذرية في الرأي العام اضطرابات من النوع الذي شهدته المنطقة، على سبيل المثال، خلال ثورات "الربيع العربي" في 2010-2011. لكن الاحتجاجات كانت شائعة نسبياً في جميع أنحاء المنطقة العربية على مدار العام ونصف العام الماضيين. في استطلاعات "الباروميتر العربي" التي أجريت من عام 2023 إلى عام 2024، أفاد ما لا يقلّ عن 10% من المشاركين البالغين في كل دولة شملها الاستطلاع أنهم شاركوا في تظاهرة في العام الماضي - وهي نسبة مماثلة لنسبة الأميركيين البالغين الذين شاركوا في الاحتجاجات ضد وحشية الشرطة خلال ربيع وصيف عام 2020، وفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة "كايزر فاميلي" و"سيفيس أناليتيكس". وفي نيسان/أبريل وأيار/مايو من هذا العام، اندلعت احتجاجات محلية متعلّقة بغزة في الجزائر والبحرين ومصر والعراق والأردن ولبنان وليبيا وموريتانيا والمغرب وعمان وسوريا وتونس واليمن. في المغرب، كان هناك 110 تظاهرات في 66 مدينة وبلدة في يوم واحد فقط في نيسان/أبريل. وهذا الأسبوع، وصلت إلى ليبيا قافلة شعبية كبيرة تُعرف باسم "الصمود"، تضم تونسيين وليبيين وأفراداً من دول أخرى، انطلاقاً من تونس، في مهمة لإيصال المساعدات إلى أهالي غزة. ومن المتوقّع أن تجذب القافلة مشاركين جدداً مع استمرارها في طريقها إلى غزة. إلّا أنّ هذه الفعّاليات لم تحظَ باهتمام كبير من وسائل الإعلام الدولية.

لكانت التظاهرات على الأرجح أكبر حجماً وتضمّ قطاعات أوسع من المجتمعات العربية، وأكثر وضوحاً للمراقبين الخارجيين، لولا الممارسات القمعية للحكومات في المنطقة. لا تُحظر الاحتجاجات رسمياً في معظم الدول العربية، لكن معظم المواطنين يدركون أنه في الممارسة العملية، ليس لديهم حقّ مضمون في المشاركة في التظاهرات التي تعبّر عن معارضة سياسات حكوماتهم.

لا عودة إلى الوراء

على الرغم من انتقاد الحكومات العربية لسلوك "إسرائيل" في غزة، إلا أنها امتنعت عن اتخاذ أي خطوات من شأنها أن تُصعّب على "إسرائيل" مواصلة عملياتها العسكرية هناك. ولكن هذا ليس لأن المواطنين قد تجاوزوا المرحلة أو لأن القادة يستطيعون ببساطة تجاهل هذه التيارات الفكرية. فالاحتجاجات تندلع يومياً في جميع أنحاء المنطقة، وحتى لو لم تُفضِ إلى تغييرات جذرية في سياسات الحكومات الاستبدادية، فإنها تُقيّد خياراتها السياسية.

قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بدت المملكة العربية السعودية قريبة من تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، حتى في غياب أيّ مسار نحو الاستقلال الفلسطيني في الأفق. في شباط/فبراير 2025، أصدرت وزارة الخارجية السعودية بياناً أعربت فيه عن دعمها "الثابت والراسخ" لإقامة دولة فلسطينية، وهو موقف وصفته بأنه "غير قابل للتفاوض وغير قابل للتنازلات"، وأكدت أنّ قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس شرط أساسي لإقامة علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل". في آذار/مارس، طرحت مصر مقترحاً لإعادة إعمار غزة، يرتكز على إعادة إعمار بقيادة عربية، وتأسيس إشراف أمني مستقبلي على غزة. وافقت جامعة الدول العربية بالإجماع على الخطة، ومثّلت تناقضاً صارخاً مع الرؤى الإسرائيلية والأميركية لإخلاء غزة من سكانها والاستيلاء عليها. وكان الهدف منها جزئياً حشد الدعم الشعبي للحكومات العربية، استجابةً لمطالب شعوبها باتخاذ إجراءات. ورغم سعي ترامب لتوسيع نطاق اتفاقيات التطبيع لتشمل دولاً عربية أخرى، بما في ذلك المملكة العربية السعودية ولبنان، يبدو من غير المرجّح أن تُثمر هذه المبادرة في أيّ وقت قريب.

قد لا يكون القادة العرب على استعداد لتحدّي "إسرائيل" بشكل مباشر، لكنهم أيضاً غير مستعدّين لمواجهة ردّ الفعل الشعبي الذي قد ينتج عن تعاون أوثق. إنّ التحرّكات التي اتخذتها الحكومات العربية، مثل إلغاء المغرب لزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي كانت مقرّرة في عام 2024، لا ترقى إلى مستوى الانقسام الدرامي. لكنها أعاقت اندماج "إسرائيل" في المنطقة، وهو هدف رئيسي لاتفاقيات التطبيع.

لا يقتصر الأمر على خروج المواطنين العرب لدعم شعب غزة؛ بل تعمل جهودهم أيضاً على تغيير الديناميكيات الإقليمية بطرق تتحدّى المصالح الأميركية والإسرائيلية. وطالما أنّ الشعوب العربية ترى أنّ السياسات الأميركية والغربية تجاه "إسرائيل" تقوم على ازدواجية المعايير والإفلات من العقاب، فمن المرجّح أن تستمر هذه المواجهة. وإذا استمرت حملة "إسرائيل" على غزة واستمرت جهود تهجير سكان غزة بالقوة، فمن المرجّح أن تتصاعد.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.