"فورين أفيرز": "إسرائيل" وغزة وسلاح التجويع
إنّ جوهر الاتهامات الموجّهة ضد نتنياهو وغالانت يكمن بتدبير سياسة تجويع إجرامية ضدّ سكان غزة المدنيين، والمحكمة الجنائية الدولية تختبر المحاكمة في جريمة حرب نادرة الملاحقة.
-
"فورين أفيرز": "إسرائيل" وغزة وسلاح التجويع
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول سياسة الحصار الإسرائيلي المفروضة على قطاع غزة خلال الحرب، ويُركّز بشكل خاصّ على استخدام التجويع كأداة حرب ضدّ المدنيين، وما يترتّب على ذلك من تداعيات قانونية وإنسانية.
ويُبرز المقال كيف تحوّل التجويع من تكتيك عسكري إلى محور اتهام دولي بارتكاب جريمة حرب، ويوضح التحدّيات السياسية والقانونية في مقاضاة هذا النوع من الانتهاكات.
أدناه نصّ المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
في أوائل آذار/مارس، ومع بدء انهيار وقف إطلاق النار في قطاع غزة، لجأت "إسرائيل" مرة أخرى إلى تكتيك استخدمته سابقاً في حرب غزة وهو فرض حصار كامل على القطاع، بما في ذلك قطع جميع إمدادات الغذاء والدواء والوقود والكهرباء.
وكان الهدف، وفقاً لمسؤولي مجلس الوزراء الإسرائيلي، هو جعل الحياة لا تُطاق لسكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة لإجبار حماس على قبول المطالب الإسرائيلية في محادثات تمديد وقف إطلاق النار.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ردّد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، تصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، عن قرار الحكومة "بوقف تدفّق المساعدات الإنسانية تماماً"، واصفاً إياه بأنه وسيلة لفتح "أبواب الجحيم بأسرع ما يمكن وبطريقة مميتة". ولم تكن هذه ملاحظة معزولة؛ فقد أشار سموتريتش سابقاً إلى أنّ منع المساعدات عن غزة أمر مبرّر حتى لو أدّى ذلك إلى مجاعة جماعية للمدنيين.
وبعد سبعة أسابيع من الحصار الجديد، وبينما أعلن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أنّ إغلاق الحدود تسبّب في نفاد جميع مخزوناته الغذائية في غزة، صرّح موشيه سعادة، عضو الكنيست عن حزب الليكود بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لقناة الـ14 الإسرائيلية أنّ هذا كان القصد: "نعم، سأجوّع سكان غزة، نعم، هذا واجبنا".
في خضمّ حرب قُتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين بوسائل أكثر مباشرة، قد يبدو الحصار الإسرائيلي المتسلسل لغزة للوهلة الأولى مسألة ثانوية. لكنّ هذا التكتيك والمبرّرات التي قدّمها المسؤولون الإسرائيليون لاستخدامه أصبح اختباراً رئيسياً للقانون الدولي.
تعقد محكمة العدل الدولية هذا الأسبوع جلسات استماع بشأن هذه القضية، عقب طلب من الجمعية العامّة للأمم المتحدة للتحقيق فيما إذا كانت "إسرائيل" قد انتهكت ميثاق الأمم المتحدة بعرقلة عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وكالة الإغاثة الرئيسية التابعة للأمم المتحدة في غزة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكّرات توقيف دولية، بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
إنّ جوهر الاتهامات الموجّهة ضدّ نتنياهو وغالانت يكمن بتدبير سياسة تجويع إجرامية ضد سكان غزة المدنيين.
في تصنيفه لجرائم الحرب، يتضمّن نظام روما الأساسي، المعاهدة المبرمة عام 1998 والتي أسست المحكمة الجنائية الدولية، "الاستخدام المتعمّد لتجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب"، وهو تكتيك قد يتضمّن "عرقلة متعمّدة لإمدادات الإغاثة".
ويزعم المدّعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية أنّ نتنياهو وغالانت، بإعلانهما علناً نية "إسرائيل" فرض حصار شامل على غزة، ثم فرض تدابير تحرم سكان غزة من الغذاء والسلع الأخرى الضرورية لبقاء المدنيين، قد ارتكبا جريمة حرب هي التجويع.
وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تُركّز فيها محكمة كبرى محاكمة جرائم حرب على هذه التهمة تحديداً.
مع تفاقم الحرب في غزة، كانت عواقب الحصار بعيدة المدى. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2024، وبعد عام من الحرب التي غالباً ما تباطأت خلالها شحنات المساعدات إلى حدّ كبير، وجد تقييم غذائي مدعوم من الأمم المتحدة أنّ ما يقرب من أربعة أخماس سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة يواجهون "جوعاً شديداً".
الآن، ومع التصعيد العسكري الإسرائيلي الدرامي لهجومه البري الجديد، تتزايد المخاوف من أنّ الأزمة الإنسانية قد تصل مجدداً، أو حتى تتجاوز، تلك المستويات الكارثية. في أوائل نيسان/أبريل، أعلن برنامج الغذاء العالمي أن جميع المخابز الـ 25 التي يدعمها في غزة، والتي كان العديد منها ضرورياً لبقاء المدنيين خلال المراحل الأولى من الحرب، قد أُجبرت على الإغلاق بسبب نقص الدقيق والوقود. وبما أنّ الوقود والكهرباء ضروريان لتشغيل محطات تحلية المياه التي توفّر معظم مياه الشرب في غزة، فإن ما يُقدّر بنحو 91% من السكان يواجهون أيضاً انعدام الأمن المائي، مما يُفاقم نقص الغذاء ويُعيد شبح المرض إلى الواجهة. ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإنّ سكان غزة يدخلون الآن أطول فترة من دون مساعدات إغاثية منذ بدء الأعمال العدائية في تشرين الأول/أكتوبر 2023. وصرّح متحدّث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية الأسبوع الماضي: "في الوقت الحالي، ربما يكون هذا أسوأ وضع إنساني شهدناه طوال الحرب".
رغم هذه الآثار الجلية للسياسات الإسرائيلية، تواجه المحكمة الجنائية الدولية معركةً شاقةً. فمن جهة، لم تُحاول قطّ محاكمة زعيم دولة غربية. وقد وضعت مذكّرات التوقيف الدول الأعضاء في المحكمة، وخاصةً حلفاء "إسرائيل" الأوروبيين وكندا، في موقفٍ حرج. فإذا دخل نتنياهو أو غالانت إحدى هذه الدول، فإنّ سلطاتها مُلزمة قانوناً باحتجازه. استهزأ رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان بهذا الشرط عندما استضاف نتنياهو في أوائل نيسان/أبريل.
من جانبها، عارضت الولايات المتحدة بشدة القضية المرفوعة ضد الإسرائيليين منذ البداية، وشرع الرئيس دونالد ترامب في تدمير المحكمة نفسها، فسحب دعم الولايات المتحدة لمحاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وأذن بفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة في شباط/فبراير، تهدف إلى تصعيب عمل المحكمة بشكل كبير. وخوفاً من تعريض مستقبلها للخطر، سارعت المحكمة إلى دفع رواتب موظفيها مُقدّماً، وناشدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقديم مساعدات طارئة.
من المفارقات أنّ السلاح الذي تحاول المحكمة الجنائية الدولية مقاضاته، وهو الإكراه الاقتصادي، يُستخدم الآن ضدها. وقد صرّحت رئيسة المحكمة الجنائية الدولية، توموكو أكاني، أمام البرلمان الأوروبي في آذار/مارس: "تواجه المحكمة تهديداً وجودياً". ومع ذلك، فإنّ جوهر قضية المحكمة الجنائية الدولية لا يقلّ تحدّياً.
فعلى الرغم من تاريخها الطويل والمدمّر، يصعب إثبات التجويع المتعمّد للسكان المدنيين، ونادراً ما تُحاسب الأطراف المتحاربة التي استخدمت هذا التكتيك. وهكذا، تُسلّط إجراءات المحكمة الجنائية الدولية الضوء على مدى إلحاح أزمة الجوع الجماعي في غزة، والتحدّيات المستمرة في مقاضاة التجويع كجريمة.
ورغم هذه العقبات القانونية الهائلة، لفتت خطوة المدّعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية الانتباه الدولي إلى شكل خطير للغاية من أشكال الحرب ضدّ المدنيين، وهو شكل غالباً ما كان يُغفل عنه حتى الآن. وسواء نجحت قضية المحكمة الجنائية الدولية أم لا، فإنّ السابقة التي تُرسيها قد تُعيد رسم الحدود القانونية للحرب وتُجبر الدول على مراعاة قواعد ظنّت يوماً أنها لن تنطبق عليها.
نقله إلى العربية: الميادين نت.