"ذي ناشونال انترست": طريق السودان إلى اللامكان

قد يكون من الصعب في الوقت الحالي على "قوات الدعم السريع" شن معركة كبيرة تغير الوضع العسكري استراتيجياً داخل مدن مثل بورتسودان، لكن يمكنهم استخدام التكتيكات العسكرية لزعزعة استقرار المنطقة.

  • "ذي ناشونال انترست": طريق السودان إلى اللامكان

تحت عنوان "طريق السودان إلى اللامكان" كتبت ندى واني في موقع "ذي ناشونال انترست"، مقالاً عن الأوضاع المتفجرة في السودان والصراع الدائر منذ نيسان/أبريل الفائت، 

فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:

قبل نحو 5 سنوات هتف المتظاهرون السودانيون الذين غمروا شوارع البلاد بمطالبة عودة قوات الجيش السوداني إلى الثكنات وحل "قوات الدعم السريع" الميليشيا شبه الرسمية.

مرة أخرى، يقف السودان عند مفترق طرق سياسي منذ استقلاله قبل 68 عاماً وبعد ثورة 2018، التي أسقطت عمر البشير بعد 3 عقود في الحكم في العام 2019، حين لبى المجلس العسكري للجيش السوداني مطالب ملايين السودانيين الذين خرجوا إلى الشوارع في جميع أنحاء السودان.

بعد ذلك تشكلت حكومة انتقالية جديدة كجزء من اتفاق لتقاسم السلطة مدته 3 سنوات بين الجيش وتحالف مدني. لكن، في تشرين الأول/أكتوبر في العام 2021، استولى الجيش على السلطة الكاملة مرة أخرى، وحل الحكومة واعتقل كبار المسؤولين، بمن فيهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. وبعد عام، وافق جنرالات الجيش وائتلاف من القوى المدنية الرئيسية المؤيدة للديمقراطية على اتفاق إطار لإنهاء الحكم العسكري واستعادة الحكومة التي يقودها المدنيون لفترة انتقالية مدتها سنتان تمهيداً للانتخابات، مع أن العديد من القوى السياسية والمدنية السودانية كانت ضد الاتفاق واستمرت في الاحتجاجات والتظاهر.

في نيسان/أبريل في العام الماضي اندلع القتال بين القوات المسلحة السودانية و "قوات الدعم السريع"، في صراع جديد على السلطة والموارد والامتيازات، على خلفية عدم المساواة السياسية والاقتصادية والإقليمية الراسخة في الدولة السودانية منذ الاستقلال، حيث مدت مراكز القوى بمبررات لمناورتهم السياسية التي منعت على القوى الحية في المجتمع أي تصور لبناء نظام جديد يهدف إلى إحداث تغيير سياسي ذي مغزى نحو العدالة والمساواة والديمقراطية..

كان المشروع كما تصورته القوى الثورية السودانية، يتجلى بوضوح بعقد اتفاق مع الجيش السوداني وتجاهل كامل ل "قوات الدعم السريع"، على الرغم من الجهود التي بذلها نظام البشير لصياغة موقع هذه الميليشيا كشريك شرعي للجيش الوطني، مما أحبط الأهداف المحسوبة لقائد هذه الجماعة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي أنفق الكثير من المال وانخرط في الكثير من العلاقات العامة لإعادة اختراع نفسه ودور لقواته.

يضاف إلى ما سبق، لم تثق قيادة الجيش وقيادة "قوات الدعم السريع" ببعضهما البعض. كانت علاقتهما قائمة على المصالح السياسية والمالية المترابطة، والمخاوف المشتركة، والانتهازية، واستغلال نقاط الضعف والمزايا لدى بعضهما. بدأت الخلافات بين الطرفين حول اتفاق الإطار، والصدام حول دمج "قوات الدعم السريع" في الجيش، وقضايا "القيادة والسيطرة" العسكرية، وانخرطا  في تنافس ناعم بداية غير مرئي، واتخذ أشكالاً مختلفة.

كان كلاهما يبنيان بهدوء رأسمالهما السياسي داخل البلاد. حاول قائد القوات المسلحة السودانية عبد الفتاح البرهان، تأمين قاعدة اجتماعية أقوى داخل الجيش لا تقتصر على عناصر النظام السابق والإسلاميين. وفي الوقت نفسه، سعى حميدتي إلى شراء دعمه من الجماعات المدنية والمهنية. كان الإثنان يضعان نصب أعينهما الانتخابات الرئاسية التي كان من المفترض أن تتبع الفترة الانتقالية. كما عبرت منافستهما عن نفسها في علاقاتهما الخارجية وارتباطاتهما. كلا الرجلين، على سبيل المثال، حاولا الحفاظ على العلاقات مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي.

مع ذلك، تم التقليل من طبيعة هذا التنافس المحتدم إلى حد كبير من قبل العديد من النخب السياسية السودانية ومعظم مرجعيات المجتمع الدولي. كانت الدول الغربية المنخرطة في قضايا السودان خلال معظم الفترة الانتقالية تركز في الغالب على إنقاذ صيغة تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين. وفي الوقت نفسه، فشلت في تقييم التيارات الخفية بين الرجلين ومؤسساتهما العسكرية بشكل صحيح إلا بعد فوات الأوان.

كان حميدتي منذ البداية يتحدث عن البرهان بطريقة مهينة للغاية أمام زواره، بحسب ما قال مصدر مقرب من الجيش. والأهم من ذلك، أن العديد من الرتب الوسطى والدنيا في الجيش لم تكن راضية أبداً عن "قوات الدعم السريع" منذ تشكيلها. ثم، ومنذ الفترة الانتقالية، كانت القيادة العليا للجيش السوداني تنمو باطراد، غاضبة من جهود حميدتي لتعزيز وضعه السياسي والاقتصادي وتوسيع علاقاته الخارجية، لكن الأهم من تطور التناقضات بين الرجلين هي العوامل الهيكلية المتعلقة بالدور التاريخي للمؤسسة العسكرية في النظام السياسي والاقتصادي في السودان، ورؤى النخب السياسية لطبيعة تشكل السلطة، مما أدى إلى انقسامات بينهم غذت بدورها الصراع ووسعته ليطال معظم البنى الاجتماعية.

لقد أصبحت أنماط التجنيد والتعبئة المختلفة واضحة بعد اندلاع النزاع المسلح بين طرفي المؤسستين العسكريتين. ومنذ بداية الحرب، انضمت عدة مجتمعات محلية ومجموعات اجتماعية طوعاً إلى كل جانب، وبعض القبائل غير العربية في دارفور يتم تدريبها بعد الفظائع الرهيبة والهجمات الجماعية العرقية التي ارتكبتها قوات الدعم السريع هناك.

ومع ذلك، بعد أن اقتحمت قوات الدعم السريع مدن جنوب شرق العاصمة الخرطوم، دون أن يعترضها أحد منغمسة في مسارها المعتاد المتمثل في القتل والاغتصاب والتعذيب والنهب وتدمير البنية التحتية، بدأت دعوات أكثر حدة للتعبئة. وقد أعلن المحافظون بالنيابة وكبار المسؤولين في مختلف الولايات والمدن، على سبيل المثال منها: ولاية نهر النيل، مروي في الولاية الشمالية، القضارف في الشرق استعدادهم لدعم القوات المسلحة السودانية من خلال المتطوعين المدنيين في الولايات.

وفي الوقت نفسه، تقول المصادر إن عناصر النظام السابق من الإسلاميين كانوا يحتشدون على نطاق واسع للقتال ضد "قوات الدعم السريع"، بعد أن شعروا بتهديد وجودي خطير على وجودهم داخل الدولة السودانية.

من المهم أن نتذكر هنا أن النظام السابق كان قد أنشأ ودرب عسكرياً عدداً من المدنيين السودانيين لسنوات تحت عناوين مختلفة، مثل "قوات الدفاع الشعبي"، وهم يحافظون على التدريب واستخدام الأسلحة النارية، ولديهم خبرة قتالية سابقة منذ أن قاتلوا مع الجيش في حرب جنوب السودان.

الخطاب المستخدم في عملية التعبئة والقتال هذه مؤطرة بالفعل بعبارات دينية قوية. يظهر التاريخ في السودان والمنطقة كيف أن الأجندات الدينية غالباً ما ترتبط بالقضايا المحلية والإقليمية، وكيف تتغير طبيعة المعارك السياسية والغرض منها عندما يحدث ذلك.

وفي الوقت نفسه، فإن الاستيعاب المستمر للعديد من المجندين من مختلف الفئات الاجتماعية والمجتمعات يخلق مشاكل تتعلق بالقدرة التنظيمية والرقابة الداخلية لقيادة "قوات الدعم السريع"، مع أن أولئك الذين ينضمون إلى خصومهم لأنهم يمتلكون أجندات ومصالح خاصة.

ومن الجانب الآخر، وبعد سيطرتها على مدني، يمكن لقوات الدعم السريع أن تتقدم إلى مناطق أخرى في البلاد، وذلك أساساً لتعزيز موقفها التفاوضي في أي تفاوض.

مع ذلك، وعلى الرغم من أن زعيم الميليشيا مهتم بالتقدم إلى شرق السودان، إلا أن هذه الخطوة تواجه العديد من التحديات، وهي ليست مهمة سهلة عسكرياً. يتطلب الانتقال من معركة إلى أخرى الكثير من التحضير في المعلومات والإمدادات والخدمات اللوجستية.

لذلك قد يكون من الصعب في الوقت الحالي على "قوات الدعم السريع" شن معركة كبيرة تغير الوضع العسكري استراتيجياً داخل مدن مثل بورتسودان، لكن يمكنهم استخدام التكتيكات العسكرية لزعزعة استقرار المنطقة على سبيل المثال، باستخدام جيوب من قواتهم.

على مستوى آخر، وإدراكاً منها للضرر الذي لحق بصورتها بسبب سيطرة "قوات الدعم السريع" على بلدة مدني دون عوائق، سارعت القوات المسلحة السودانية إلى تصميم حملة إعلامية منسقة لمعالجة روايات "الخيانة" أو "عدم الكفاءة" داخل صفوفها. وتحذر رسائل كبار أعضاء الجيش ووسائل الإعلام التي يسيطر عليها من "الأعداء الذين يدقون إسفينا بين الشعب والجيش".

في الوقت نفسه، هناك عدد من التقارير التي تتهم القوات المسلحة السودانية وجهاز المخابرات العسكرية التابع لها باعتقال أو قتل أفراد "على أساس عرقي" في المناطق الخاضعة لسيطرتها، متهمة إياهم بأنهم "عملاء نائمون" لـ "قوات الدعم السريع". علاوة على ذلك، اعتقلت المخابرات العسكرية بعض نشطاء المجتمع المدني السوداني الذين يقومون بعمل إنساني تطوعي.

وبالمثل، فإن الروايات حول وجود "الطابور الخامس" داخل الجيش وبين المواطنين تنتشر بشكل مكثف بين السودانيين. ودعا معلق إعلامي مؤيد للقوات المسلحة السودانية إلى "محاكم عسكرية سريعة للتعامل مع هؤلاء الخونة".

وعلى الرغم من أن معظم السودانيين، لا يزالون يدعمون جهود الجيش لمحاربة "قوات الدعم السريع"، ويرجع ذلك أساساً إلى جرائم الميليشيا وفظائعها، إلا أن إحدى النتائج الأكثر خطورة لما حدث في مدني هي أن الناس، من الآن فصاعداً، من المرجح أن يتوصلوا إلى استنتاجاتهم الخاصة حول الوضع العسكري على الأرض في مناطقهم المختلفة ويتخذون الاحتياطات اللازمة.

في الوقت الحالي، هناك أغلبية ساحقة من السودانيين ليس لديهم سوى ذواتهم للدفاع عن حياتهم وعائلاتهم وممتلكاتهم وأراضيهم في هذه الحرب التي تركوا لمواجهتها لمدة 8 أشهر. إن فكرة حمل السلاح للدفاع عن النفس، والتي يتم التعبير عنها باسم" المقاومة الشعبية".

وكانت السوق السوداء للأسلحة قد انتشرت بالفعل في بعض الأحياء قبل أشهر. ومن المرجح أن تنمو هذه الظاهرة مع توسع الشعور بانعدام الأمن حيث يصبح الأمن الذاتي أكثر مصداقية.

في الآونة الأخيرة، كانت هناك العديد من التقارير المتضاربة التي تفيد بأن الرجلين اتفقا على عقد اجتماع فردي. في مقابلة إذاعية، قال المستشار السياسي لحميدتي، أنه أرسل اتفاقاً مكتوباً إلى منظمة "إيغاد" يعرب فيه عن استعداد قواته "للجلوس والتفاوض والتوصل إلى صيغة واضحة"، وأنهم "منفتحون على وقف إطلاق النار". ذكرت التقارير أيضاً أن قائد الجيش أرسل أيضاً رسائل مشابهة.

كلا الرجلين نتاج نظام كان بارعاً في التسوق في المحافل الدولية وتجنب المساءلة الدولية. بينما البرهان يتعرض لضغوط شديدة من الجيش لعدم قبول أي صفقة تساوي بين "قوات الدعم السريع" والجيش بأي شكل من الأشكال، أو تضع الاثنين على قدم المساواة على أي مستوى.

ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ هنا أن الإسلاميين وأعضاء النظام السابق أيضاً غير راضين بالفعل عن قائد الجيش بسبب الطريقة التي يدير بها الصراع على الأرض حتى الآن. وأي صفقة لا تحصل على موافقتهم يمكن أن تؤدي بهم إلى اتخاذ إجراءات مختلفة لقتلها.

ولذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت المفاوضات الجارية بين الرجلين ستضع حداً لمعاناة الشعب السوداني، في بلد يتأكد فيه أن طريق التغيير لن يكون سهلاً أبداً، ولن تكون الرحلة قصيرة. لكن الأمر يستحق أن نسأل في هذه المرحلة: هل هناك أي طريق للخلاص على الإطلاق؟

 

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

منتصف نيسان/أبريل تندلع مواجهات عنيفة في الخرطوم وعدة مدن سودانية، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتفشل الوساطات في التوصل لهدنة بين الطرفين.