"المونيتور": لماذا احتضن الغرب سوريا وتخلّى عن أفغانستان؟
إنّ الاعتراف الغربي لا يتوقّف على المعايير القانونية أو السيطرة الإقليمية بقدر ما يتوقّف على الخيارات الاستراتيجية، ومدى أهمّية الجهة المعنية بالنسبة للغرب.
-
ترامب يلقي التحية على الشرع
موقع "المونيتور" الأميركي ينشر مقالاً يقدّم تحليلاً سياسياً عميقاً يُقارن بين تعامل الغرب مع حكومة "هيئة تحرير الشام" في سوريا بقيادة أحمد الشرع، وتعاملهم مع حكومة "طالبان" في أفغانستان بعد عودتها إلى الحكم.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
لا شكّ بأنّ أيّ مسؤول براغماتي في حركة طالبان أفغانستان صدم بالاحتضان الغربي الحارّ للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، الذي كان يقود فرع تنظيم "القاعدة" في سوريا، وقد صافح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بينما رفع وزير خارجيته علم سوريا الجديد في الأمم المتحدة. كما حظي الشرع بإشادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد لقائه به في السعودية، حيث تعهّد الرئيس الأميركي برفع جميع العقوبات المفروضة على سوريا وتطبيع العلاقات معها.
تجدر الإشارة إلى أنّ أفغانستان، التي استبعدت من حظر السفر الذي فرضه ترامب عام 2017، أصبحت الآن جزءاً من الحظر الجديد. أمّا سوريا، التي كانت مدرجة في القائمة الأصلية، فقد استبعدت هذه المرّة. ومع ذلك، ووفقاً لمنطق الإدارة نفسها، يشكّل كلا البلدين مخاطر متشابهة لا تستدعي حظراً شاملاً. في حالة أفغانستان، ستعرّض هذه الخطوة شركاء سابقين للبعثة العسكرية الأميركية للخطر. ويزداد بوضوح التفاوت في كيفية التعامل مع البلدين.
إنّ احتضان العالم للحكومة السورية الجديدة، يشكّل نقيضاً لتجاهل أفغانستان التي تحكمها طالبان، ويكشف عن حقيقة صريحة مفادها أنّ الاعتراف لا يتوقّف على المعايير القانونية أو السيطرة الإقليمية بقدر ما يتوقّف على التاريخ والمنظور، والخيارات الاستراتيجية، ومدى أهمّية الجهة المعنية بالنسبة للغرب.
وعلى عكس أفغانستان، لم تخسر الولايات المتحدة أكثر من 2000 جندي في سوريا، ولم تتكبّد أوروبا خسائر، ولم يكن الغرب يدعم نظام الأسد الذي أطاحت به "هيئة تحرير الشام" بل كان يفرض عليه عقوبات.
صحيح أنّ الشرع، المعروف آنذاك بأبي محمد الجولاني، قاتل لفترة قصيرة كمتمرّد في العراق، وسجن ثمّ قاد "جبهة النصرة" المرتبطة بتنظيم "القاعدة" قبل أن يعيد تشكيلها ويندمج مع جماعات أخرى لتشكيل "هيئة تحرير الشام"، المصنّفة أيضاً كجماعة إرهابية. ولا يزال الجدل قائماً حول ما إذا كان انتماء الشرع لهذه المنظمات أيديولوجيا أم انتهازياً أم كليهما. كما أنّ "هيئة تحرير الشام" والشرع ليسا مرتبطين بالصدمة النفسية العميقة لأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، على عكس طالبان التي ستبقى كذلك باستمرار، بتمييز ذي وزن هائل.
لعلّ الفارق الأكبر يكمن في المظاهر. فلقد أتقن الشرع فنّ التحوّل، مع أنّه أدرج ضمن برنامج "مكافآت من أجل العدالة" الأميركي، ورصدت له مكافأة قدرها 10 ملايين دولار كتبت على صورته وهو يرتدي زيّاً عسكرياً وعمامة "أوقفوا هذا الإرهابي". وخلال سيطرته على مدينة إدلب قدّم الشرع نفسه كمحارب ومثقّف. ألقى محاضرات في الجامعة المحلّية، واستبدل صورته الجهادية بزي عسكري زيتوني اللون يذكّر بفيدل كاسترو الشاب، والآن يظهر مرتدياً بدلات وربطات عنق. على النقيض من ذلك، لا يزال أمير طالبان منعزلاً ومختبئاً في قندهار، ولا يزال نوّابه يشبهون طالبان في العقود الماضية.
لكنّ الأمر ليس مجرد استعراض. فالشرع يتّخذ خيارات مختلفة عن طالبان، وهذه الخيارات مهمّة. وعلى عكس طالبان التي أقصت النساء باستمرار عن الحياة العامة، وحظرت تعليم الفتيات بعد المرحلة الابتدائية، وأغلقت صالونات التجميل، يلتقي الشرع علناً بوفود من النساء السوريات. وعلى الأقلّ لم تتوقّف الحياة العلمانية تماماً في دمشق.
بينما احتفل العديد من السوريين علناً بسقوط الرئيس بشار الأسد، كانت ردود الفعل الأفغانية تجاه عودة طالبان إلى السلطة أكثر انقساماً في داخل أفغانستان، كما في الخارج حيث الجاليات الأفغانية وهم من يقابلهم صنّاع القرار الغربيون، كانت ردود الفعل لديهم سلبية للغاية. كذلك فرّ آلاف الأفغانيين من البلاد بعد عودة طالبان للحكم، بينما عاد آلاف السوريين بعد سقوط النظام للإقامة الدائمة أو بداعي الزيارة.
للوهلة الأولى يظهر أنّ قصة شتات الشعبين مختلفة تماماً، مع أنّ الجاليتين السورية والأفغانية في الولايات المتحدة لديهما الكثير من القواسم المشتركة، ولقد كانت الحرب السبب خلف نزوح وهجرة الشعبين، حيث جرت أكبر موجات الهجرة في العقد الأول من القرن الجاري.
بحلول عام 2020، كان أكثر من 100000 مهاجر سوري يعيشون في الولايات المتحدة، بزيادة تقدّر بنسبة 80% عن العقد السابق، مدفوعة إلى حدّ كبير بالحرب الأهلية التي بدأت في عام 2011. ويذكر أنّ عدد الأميركيين المنحدرين من أصل سوري على نطاق أوسع أكبر من ذلك الرقم.
كذلك ارتفع عدد السكّان الأفغانيين من نحو 54,000 إلى 195,000 نسمة بين عامي 2010 و2022، متجاوزاً بذلك اتجاهات الهجرة الأوسع نطاقاً. وفي حين أُعيد توطين أكثر من 73,000 أفغاني في إطار عملية الترحيب بالحلفاء بعد انهيار الحكومة الأفغانية عام 2021، كانت الهجرة في ارتفاع مطّرد لأكثر من عقد من الزمان، بينما في وقت سابق من الحرب، عندما بدت الدولة الأفغانية أكثر استقراراً، اختار عدد أقل من الأفغانيين المغادرة.
في كلتا الحالتين، كان النزاع هو الدافع الرئيسي للنزوح. لكن السياقات السياسية اختلفت. فقد فرّ العديد من الأفغانيين من طالبان، التي عادت الآن إلى السلطة. وفرّ العديد من السوريين من الأسد، الذي أطيح به في النهاية. وعلى الرغم من أنّ أبناء كلا المجتمعين يعارضون على نطاق واسع القوى التي هربوا منها، إلّا أنّ ذلك لا يترجم إلى وحدة سياسية بينهم. ومع ذلك، فإنّ تجاربهم تشكّل الطريقة التي يريدون من الولايات المتحدة أن تتعامل بها مع أوطانهم.
كما أنّ التركيبة السكانية مهمّة أيضاً. فمعظم السوريين في سوريا وفي الشتات هم من المسلمين السنة. وفي حين أنّهم قد لا يدعمون حكومة الشرع الجديدة بالضرورة، إلّا أنّ العديد منهم يعتبرونها أقلّ تهديداً من نظام الأسد وهم أكثر انفتاحاً بشكل عامّ على المشاركة. أمّا مجموعات الأقلّيات، مثل العلويين والدروز والكرد، فهم أكثر تشكّكاً.
على العكس هو الشتات الأفغاني، حيث يضمّ أعداداً كبيرة من الطاجيك والبشتون. وعلى الرغم من أنّ معظمهم يعارضون طالبان، إلّا أنّ الجاليات الطاجيكية تميل إلى مقاومة أيّ حوار أميركي مع طالبان. وقد دفع الشتات الأفغاني واشنطن إلى حدّ كبير إلى عزل الحكومة التي تقودها طالبان، والإبقاء على العقوبات، وفي بعض الحالات، دعم جماعات المقاومة مثل "جبهة المقاومة الوطنية"، بينما ركّز آخرون بشكل شبه كامل على نقل الأفغانيين الضعفاء إلى الخارج.
في حين دعت بعض أصوات الشتات الأفغاني، وخاصة أولئك الذين يتنقّلون بين البلدين، إلى اتّباع نهج أكثر براغماتية تجاه طالبان، إلّا أنّ النبرة السائدة كانت عدائية، وعزّزها دبلوماسيون سابقون ومنظمات غير حكومية وجماعات حقوق الإنسان. في المقابل، دعت جماعات سورية أميركية وأوروبية بنشاط إلى إشراك قادة سوريا الجدد، مستفيدين من معاداة الغرب لنظام الأسد، بغضّ النظر عن عمليات الانتقام من العلويين، وهم أقلّية كانت في السابق محمية من قبل النظام السابق، والتي لا تزال غائبة إلى حدّ كبير عن نقاشات الساسة في الغرب.
مع ذلك، يحذّر المعارضون السوريون من أنّ الحكومة الجديدة تمهّد الطريق للتطرّف والمذابح والعودة إلى الاستبداد. لكن في الوقت الحالي، تتلاشى هذه المخاوف أمام الارتياح واسع النطاق لانتهاء الحرب الأهلية.
لكن السبب الأهم لاختلاف نهج الغرب تجاه سوريا عن أفغانستان بسيط. فمن وجهة نظر الغرب، سوريا مهمّة وأفغانستان لا. وهذا أمر يصعب على الأفغانيين إدراكه.
كتب محمد إقبال، شاعر القرن العشرين، يقول: "آسيا كتلة من الماء والطين، تشكّل الأمّة الأفغانية قلبها". على هذا المنوال استندت كلّ من الحكومة السابقة وحركة طالبان الحالية إلى هذا المنطق للقول إنّ أفغانستان تتمتّع بأهمية عالمية لا يمكن تجاهلها. وهو شعور ردّده المسؤولون الأميركيون والأوروبيون مراراً طوال أيام الحرب في البلاد التي استمرّت 20 عاماً. ومع ذلك، عوملت أفغانستان كعرض جانبي، ثمّ أُهملت في النهاية. أما سوريا، فعلى النقيض من ذلك، فهي تقع على مفترق طرق في الشرق الأوسط.
كانت سوريا عتبة الإمبراطورية العثمانية في العالم العربي، ووجود السكان الكرد الكبير فيها يشكّل الآن مصدر قلق استراتيجي أساسي لجارتها تركيا. كما أنّ سوريا تقع على حدود "إسرائيل"، وكانت في السابق منصة انطلاق للنشاط المسلّح المناهض لها. ويؤكّد احتلال "إسرائيل" لمرتفعات الجولان، وتوغّلاتها وهجماتها العسكرية الأخيرة في عمق الأراضي السورية، مدى جدّيتها في التعامل مع التهديد المحتمل عبر الحدود السورية.
في ظل نظام الأسد لطالما اعتبرت الولايات المتحدة سوريا وكيلاً لإيران. وبينما لم يذكر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش سوريا في خطابه عام 2002 عن "محور الشر"، لكنّ جون بولتون وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون ضبط الأسلحة والأمن الدولي آنذاك أدرج سوريا كواحدة من دولتين مارقتين "خارج محور الشر" في خطاب ألقاه في العام نفسه. وتعمّق هذا الرأي خلال الحرب الأهلية السورية، حيث ازداد اعتماد الأسد على إيران وروسيا من أجل البقاء. وقد أدّى الصراع إلى نزوح الملايين إلى تركيا وأوروبا، حيث غذّى ذلك ردود فعل قومية عنيفة ومخاوف أمنية هامشية.
بفضل موقعها الاستراتيجي على طول شرق البحر الأبيض المتوسط، تعتبر سوريا ذات أهمّية بالغة لروسيا، التي تسعى رغم قصفها لإدلب سابقاً حين كانت خاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام" قبل الإطاحة بنظام الأسد، للحفاظ على وصولها البحري على ساحل البحر الأبيض المتوسط. كلّ هذا يجعل من سوريا مصدراً لقلق مستمرّ للولايات المتحدة، التي كانت أبطأ من فرنسا وألمانيا وروسيا في التعامل مع الحكّام الجدد في دمشق، لكنّ انفتاح ترامب المعلن على التطبيع مع دمشق، ووعوده بتخفيف العقوبات، والإشارات الإيجابية من وزارة الخزانة الأميركية، وتعيين توماس باراك سفيراً للولايات المتحدة لدى تركيا ومبعوثاً خاصاً إلى سوريا، وهي خطوة تعترف ضمناً بدور تركيا المحوري في تشكيل مستقبل سوريا، وكلّ ذلك يؤكد أنّ واشنطن تتبنّى نهجاً مختلفاً تجاه سوريا عن نهجها تجاه طالبان في أفغانستان.
وفي حين أبدت إدارة ترامب بعض الاستعداد للانخراط مع طالبان، مثل إرسال مبعوث بشأن رهائن إلى كابول وإلغاء المكافآت عن قادة مثل سراج الدين حقاني، إلّا أنّ التناقض لا يزال صارخاً. ويبقى أن نرى ما إذا كان الانخراط المبكّر مع دمشق سيحافظ على نظام أكثر اعتدالاً، أو سيمنع الملاذات الإرهابية، أو سيجنّبنا جولة أخرى من العنف الطائفي ضدّ جماعات مثل العلويين أو الدروز. ولكن كما يجادل كثيرون عن أنّ عزل حركة طالبان لم يفعل الكثير لاعتدال الحركة. وسوف تكون سوريا اختباراً لما إذا كان الانخراط المبكّر سيؤدّي إلى نتائج أفضل من العزلة عن بعد.
تستمدّ كلّ من طالبان والقيادة الجديدة في سوريا شرعيتها من السلطة التي اكتسبتها من خلال المثابرة وملء الفراغ الذي خلّفته حكومة فاشلة، وليس من المجتمع الدولي، ناهيك عن الغرب. فقد أمضى الشرع سنوات في حكم إدلب، وبنى بديلاً للحكم البعثي الذي سمح له بالتدخّل، وحكم دمشق بين عشية وضحاها، مثلما فعلت طالبان في أفغانستان.
ومع ذلك، فإنّ الشرعية من دون اعتراف دولي تبقي البلد معزولاً. وقد أظهرت كلّ من طالبان وحكومة الشرع انفتاحاً على الانخراط، بما في ذلك مع روسيا وحتّى مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإنّ واشنطن هي التي تردّدت. وفي كلتا الحالتين، كان صعودهما قد تشكّل جزئياً بسبب السياسة الأميركية، من الانسحاب في أفغانستان إلى العقوبات المشدّدة على الأسد، على الرغم من أنّ واشنطن كانت لاعباً أقلّ أهمّية في سوريا.
يبدو أنّ إدارة ترامب مستعدة الآن للتعامل مع سوريا كما هي. بإمكان طالبان أن تحذو حذو الشرع واستعداده للبراغماتية من أجل تحسين بلاده، لكن على الولايات المتحدة أيضاً أن تحذو حذوها وتستمرّ في تبنّي نهج أكثر واقعية تجاه خصوم سابقين آخرين، ولا سيّما إذا لوحظت نتائج إيجابية في سوريا.
نقلته إلى العربية: حسين قطايا.