"الغارديان": خطاب الغرب الجديد بشأن غزّة لن يغير التاريخ

لقد دفع جوٌّ من التواطؤ قادة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى خطابٍ جديد. لكن هذا لن يُنقذهم ولن يُغيّر مجرى التاريخ.

0:00
  • "الغارديان": خطاب الغرب الجديد بشأن غزّة لن يغير التاريخ

صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقالاً يتناول التحوّل المتأخر في لهجة الخطاب الغربي تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، ويشير إلى أنّ تغير الخطاب لا يعني تغيراً حقيقياً إذا لم يصاحبه فعل.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

قادة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يعتمدون خطاباً جديداً بشأن غزّة، لكن السؤال.. لماذا الآن؟ لماذا الآن، بعد 19 شهراً من العدوان المتواصل الذي كان واضحاً للعيان، والذي أعلنته السلطات الإسرائيلية نفسها، بدأ مسار الأمور يتغير في غزة؟

يُعدّ التغيير الملحوظ في لهجة قادة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي تحولاً واضحاً عن سخافة "المخاوف" وتكرار حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها. الآن، يُصرّحون بأن أفعال "إسرائيل غير مبررة أخلاقياً ومُفرطة تماماً"، وأن تهديدات قادتها "بغيضة". بعض هذا يُؤمّن مستقبلاً أفضل. لقد بلغت الحرب حد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بطرقٍ لا يُمكن إنكارها، ولا يُمكن الدفاع عنها، ولا يُمكن التلاعب بها. حاول البعض ذلك بجدية لمدة عام ونصف، لكنهم الآن لا يستطيعون الوقوف على منبر أو الجلوس على مائدة عشاء والقول، نعم، هناك بالفعل حجة لقتل 100 شخص يومياً، كما كانت الحال الأسبوع الماضي. أو أنّ لدى "إسرائيل" خطةً أخرى غير ما أعلنه قادتها باستمرار بأنه خطة تهجير واستيطان. لقد ولّى زمنُ الحجة القائلة بأن الأمر يتعلق فقط بالقضاء على حماس. "إسرائيل"، كما اشتكى أحد حلفائها الإعلاميين البريطانيين، تركت أصدقاءها بلا مأوى.

لكن ثمة فجوة بين الإدانة والغضب، وما يحدث على أرض الواقع. عندما يتعلق الأمر بـ "إسرائيل"، تُكسر أذرع الاستنكار الدولي. طوال الحرب، أصبحت المنظمات الدولية والبعثات الإنسانية ومحاكم العدل عاجزة عن ترجمة نتائجها إلى أفعال. الكلمات وحدها لا تعني شيئًا. إنها ببساطة ترتد عن قبة "إسرائيل" الحديدية التي تُحصنها من العقاب. كل يوم، يستيقظ العالم ليواجه قيادة إسرائيلية تنتهك كل قواعد الأخلاق والمنطق. الضحايا معتدون، والعاملون في المجال الإنساني متحيزون، والجيش الذي يقتل المسعفين العُزّل هو أكثر الجيوش أخلاقية في العالم. كل شيء معكوس.

إن التغيير الأخير في لهجة حلفاء "إسرائيل" الدوليين لافت للنظر. لكن من الخطير المبالغة في أهميته. فالسلطات الإسرائيلية لا تكتفي باللامبالاة، بل تستمد قوتها من الإدانة.

 يبدو أن هذا التحول ليس إنجازًا يُذكر إلا بالمقارنة مع ما سبقه. فلطالما جرى تشويه، بل وتجريم، تسمية ما يحدث في غزة. هناك أشخاص يقبعون في الاعتقال بتهمة وصف الواقع. بل على العكس، شهد العام والنصف الماضيان سلسلة من الإنجازات التي لم تدل على شيء؛ احتجاجات تاريخية، وتغير جذري في الرأي العام العالمي، وصراع في قلب المؤسسات السياسية والقانونية والأكاديمية الغربية حول الحق في الاحتجاج على إبادة جماعية مُستمرة. فلسطين، التي كانت في يوم من الأيام قضية هامشية، أصبحت قضية رئيسية تقع في قلب السياسة والخطاب الغربي. ومع ذلك، طالما أنّ الحكومات التي تتمتع بنفوذ لدى "إسرائيل" رفضت التحرك، فإن كل هذا لم ينقذ حياة واحدة.

لا يزال هناك شيء في هذه اللحظة يمكن توسيعه ليشمل شيئاً ذا معنى. تميل السياسة نحو الجمود؛ الالتزام بالتحالفات والوضع الراهن. يتطلب تغيير ذلك أزمة حقيقية، ومع ذلك فقد تمكنت "إسرائيل" من تصعيد حملتها في غزة إلى مستوى تجاوز حتى هذا الحد العالي. تقف الحكومات متفرجة بينما يتضور الفلسطينيون جوعاً، وتشاهد الأرواح تتلاشى أمام أعين الجميع، وترى ضلوع الأطفال الخاملين وعيونهم الغائرة، ملطخة بوصمة التواطؤ. إنّ حرمان الناس الطعام، وامتلاك هذه السلطة عليهم، ليس حملة عسكرية ذات أهداف استراتيجية تنطوي على أضرار جانبية مؤسفة، بل هو عقاب جماعي. فصل تاريخي حاسم يُكتب. رعاة هذا العمل واضحون، داعمون بشدة، ومع ذلك يبدو الآن منزعجين من الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه. المدة أيضاً تلعب دوراً، فقد طال كل شيء وأصبح من الواضح أنه من المستحيل فرض التعود على القتل الجماعي. ولكن قد يكون هذا أيضاً هو المرحلة الخاصة من حملة "إسرائيل"، التي تتسم بنوايا أكثر وحشية ووضوحاً من أي وقت مضى.

إذا كان هذا الموقف الجديد الذي اتخذه القادة الغربيون يهدف إلى درء الحساب، فهو قليل جداً ومتأخر جداً: فقد سُجِّلَت الحقيقة بالفعل. وإذا كان الهدف هو ردع "إسرائيل" عن تنفيذ خططها الرامية إلى تقويض الحياة، وإجبار الناس على الرحيل، وتجويع وقتل من تبقى، فإنهم يواجهون قوة ضاربة. لا تزال الفجوة بين أفعال "إسرائيل" ورد فعل العالم واسعة جداً بحيث لا يمكن التناسب معها.

وقد أهان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فرنسا والمملكة المتحدة وكندا، متهماً حكوماتها بالانحياز إلى حماس لمجرد إعلانها أخيرًا عن الأمر الواضح: أنّ على "إسرائيل" التوقف عن قتل وتجويع الناس.

في أي عالم يُعلن عضوٌ في الحكومة عن نيته إبادة ما تبقى من منطقة، ويهدف إلى تهجير سكانها، ثم لا يكون الرد سوى تهديداتٍ غامضة "بإجراءٍ ملموس"؟ ما هو الردع اللازم لمنع طبيبة من الذهاب إلى عملها ثم العودة إلى رفات تسعة من أطفالها العشرة المتفحمة، الذين أُبيدوا بضربةٍ واحدة؟

سيتطلب الأمر أكثر بكثير من مجرد مراجعة وتعليق محادثات التجارة المستقبلية بين "إسرائيل" والمملكة المتحدة.

أولاً، الاعتقاد المُضحك الآن بأن "إسرائيل" حليفٌ مُستقرٌّ في منطقةٍ مُعادية، وأنها دولةٌ تُشارك القيم الغربية المُتحضرة، وبالتالي ينبغي دعمها. ثانياً، الخوف من خلافٍ مع "إسرائيل" يُخالف الترتيبات الأمنية والتآزر التاريخي - ففي النهاية، إسرائيل هي من حققت ذلك بالفعل. لقد قلبت التسويات السياسية والأخلاقية الإقليمية والعالمية رأساً على عقب، ولم يلحق حلفاؤها بها بعد. بمجرد قبول هذه الحقائق، تصبح مجموعة الأدوات، التي تُستخدم بسهولة لمعاقبة دولٍ أخرى، جاهزةً

تظل الولايات المتحدة الطرف الأكثر نفوذاً، لكنها ليست اللاعب الوحيد. يُشكّل الاتحاد الأوروبي حوالي ثلث إجمالي التجارة العالمية لـ "إسرائيل"، لذا ينبغي السعي لفرض حظر. يجب فرض عقوبات، لا فقط على المستوطنين، بل أيضًا على السياسيين في الحكومة الذين مكّنوهم. يجب الالتزام بأحكام المحكمة الجنائية الدولية على القيادة الإسرائيلية. يجب فرض حصار يُرسّخ عملياً وضعية المنبوذية التي اكتسبتها الحكومة الإسرائيلية.

وحتى في هذه الحالة، لن يكون كل هذا سوى بداية، بل بداية متأخرة للغاية ومأسوية. يمكن للمرء أن يفسر سبب عدم حدوث أيٍّ من هذه الأمور حتى الآن: الآمال في أن الحفاظ على دعم إسرائيل سيحافظ على قدرٍ ضئيل من النفوذ؛ والمخاوف من أن الإجراءات الصارمة ستشجع إيران؛ والولاء لفكرة الدين التاريخي؛ والمخاوف من عالمٍ غير مستقرٍّ قد يُبشر به الانفصال عن "إسرائيل". لكن هذا العالم قائمٌ بالفعل، والجبن لم يُسهم إلا في تسريع وصوله، بدلًا من منعه.

يدفع الفلسطينيون، من غزة إلى الضفة الغربية، ثمناً باهظاً للتقاعس، لكن جرحاً عميقاً أصاب بقية العالم. إن لم يحدث شيء، فإن المرض الأخلاقي والسياسي سيطال الجميع.

نقله إلى العربية: بتول دياب.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.