"Truthout": النقد في غزة ينضب
بعد 18 شهراً من الحصار، تحوّل النقد إلى سلعة نادرة في غزة، حيث يواجه الكثير من الناس صعوبة في الوصول إلى الأموال في حساباتهم.
-
"Truthout": النقد في غزة ينضب
موقع "Truthout" الأميركي نشر تقريراً يتناول الأزمة المالية والنقدية الخانقة في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب، مركّزاً على انهيار النظام المصرفي في غزة، وصعوبة وصول الفلسطينيين إلى أموالهم، وأزمة الأوراق النقدية المهترئة، وانتشار نظام المقايضة.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، أصبحت أزمة السيولة النقدية الحادة إحدى التحدّيات الأكثر إلحاحاً التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة. ووفقاً لسلطة النقد الفلسطينية، كان في غزة 56 فرعاً مصرفياً و91 جهاز صرّاف آلي قبل الصراع. إلا أنّ القصف الإسرائيلي المستمر دمّر معظم هذه المرافق. كما أدى انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع وانهيار خدمات الإنترنت إلى توقّف العمليات المصرفية، الأمر الذي حال دون إعادة فتح هذه الفروع واسترجاع أجهزة الصراف الآلي، وأدّى إلى حدوث شلل في النظام المالي.
ونتيجة لذلك، واجه الكثيرون في غزة صعوباتٍ كبيرةً في الوصول إلى الأموال في حساباتهم، سواء كانت رواتب شهرية أو دعماً مالياً من أقارب وأصدقاء في الخارج. فعلى سبيل المثال، يعمل والدي لدى السلطة الفلسطينية، ويتمّ إيداع راتبه في حسابه البنكي شهرياً. ومع ذلك، لم يتمكّن من سحب راتبه طوال الـ18 شهراً الماضية. في البداية، اعتمدنا على مدخراتنا لتغطية احتياجاتنا الضرورية كالطعام والملابس والبطانيات وتكاليف النقل خلال النزوح، التي بلغت 100 دولار لعربة يجرّها حمار و200 دولار للسيارات.
وقد أُجبرنا على النزوح عدّة مرات بسبب القصف العنيف؛ وفي كلّ مرة، كان الخوف والتركيز الشديد على البقاء على قيد الحياة يمنعنا من أخذ الكثير من المواد الأساسية، فنضطر إلى شرائها مرة أخرى بأسعار مرتفعة. اعتقد والدي أنّ مدخراتنا ستكون كافية، ولم يتوقّع يوماً أن تطول الحرب كلّ هذه المدة. لكنّ مدخّراتنا البالغة 6000 دولار أميركي استُنفدت خلال الأشهر الـستة الأولى من الحرب. نفدت أموالنا، ولم يكن أمامنا خيار سوى اللجوء إلى ما يُطلق عليه أهل غزة "السماسرة" للحصول على الأموال في حساب والدي المصرفي.
فاستغلّ هؤلاء السماسرة حاجة الناس الماسة إلى المال، وفرضوا عمولات تصل إلى 30% على عمليات السحب. وتسير العملية على هذا النحو: تُحوّل الأموال عبر تطبيقات الخدمات المصرفية للهواتف الذكية إلى الحساب المصرفي الخاص بالسمسار. وفي المقابل، يُعطيك مبلغاً نقدياً، ولكن أقل بكثير مما أرسلته. فعلى سبيل المثال، إذا قمت بتحويل مبلغ 100 دولار، فلن تتلقّى سوى 70 دولاراً.
وعلى الرغم من العمولة الباهظة، نضطر للاعتماد على هذه الطريقة لأنها الخيار الوحيد المتبقّي. ويسير الكثير منّا لمسافات طويلة بحثاً عن سماسرة، على أمل العثور على من يتقاضى عمولة أقلّ بقليل. وفي أغلب الأحيان، ينتهي بنا الأمر إلى الوقوف في طوابير طويلة يائسة، في محاولة للحصول على هذه النقود؛ فنحن نخوض معركة من أجل البقاء وسط ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتفشّي المجاعة على نطاق واسع.
وأحياناً، تهترئ الأموال التي نستلمها من هؤلاء السماسرة بسبب تداولها بشكل مستمر. فنحن نستخدم الأوراق النقدية نفسها منذ أكثر من عام، نتيجة القيود الإسرائيلية التي تمنع دخول العملة الجديدة واستبدال الأوراق النقدية التالفة. في بعض الأوقات، عندما نحاول إجراء عمليات شراء، يرفض البائعون قبول هذه الأوراق النقدية، موضحين أنّ التجار الذين يشترون منهم البضائع لا يقبلون الأموال المهترئة، لأنهم يريدون أن تدوم النقود لأطول فترة ممكنة.
علاوة على ذلك، ازدادت شكوك البائعين عند قبول الأوراق النقدية من المتسوّقين. فهم يفحصونها عدة مرات، ويقلّبونها رأساً على عقب، بل ويتشاورون أحياناً مع آخرين قبل اتخاذ قرار قبولها.
وينبع هذا الحذر المتزايد من الشائعات المتداولة بأنّ الكثير من الأوراق النقدية المتداولة في غزة مزوّرة. حتى أنّ البائعين الذين قابلناهم قاموا بإلغاء جميع المعاملات التي تتضمّن عملة الـ10 شيكل، وهي العملة الأكثر شيوعاً، موضحين أنّ النقش الموجود عليها بدأ يهترئ بسبب الصدأ والتأكّل، ما يجعل من الصعب التعرّف إليها.
لقد فاقمت أزمة اهتراء الأموال معاناتنا. فنحن ندفع عمولات باهظة للحصول على النقود، لنكتشف أنّ الكثير منها ممزّق وهشّ، ما يجعلها غير صالحة لشراء الضروريات التي نحتاجها بشدة. كما أنّ معظم السماسرة يوضحون منذ البداية أنه بمجرّد تسلّم الأموال، لا يمكن إرجاعها حتى لو لم يقبلها أحد.
بالإضافة إلى ذلك، خلق تفاقم هذه الأزمة فرص عمل غير متوقّعة للكثيرين، ما دفع الناس إلى إنشاء أكشاك مؤقتة تقدّم خدمات مثل إصلاح الأوراق النقدية البالية والممزقة. ومن بين هؤلاء أبو خلاد، الذي فقد وظيفته كبنّاء نتيجة الحرب. وهو يعمل حالياً مصلحاً للعملات. ويتوجّه يومياً إلى شارع الصحابة في قلب مدينة غزة، وهو مكان نابض بالحياة يعجّ بالباعة المتجوّلين والمارة.
ويقول أبو خلاد إنه يُصلح أكثر من 100 ورقة نقدية يومياً. ولإصلاح الأوراق النقدية الممزقة، يستخدم شريطاً شفافاً وغراءً، وينظّف الأوراق النقدية العفنة والمتسخة بممحاة أو كحول الأيزوبروبيل. وتعتمد العمولة التي يتقاضاها على حالة الورقة النقدية، وتتراوح بين شيكل واحد (نحو 0.30 دولار أميركي) و5 شيكل (نحو 1.50 دولار أميركي) للأوراق النقدية الأكثر تضرراً.
يعترف أبو خلاد بأنّ العمل كان صعباً في البداية، فهو يتطلّب عناية فائقة وتركيزاً. ومع مرور الوقت، أصبح بارعاً جداً فيه. وساعد الكثيرين، بمن فيهم والدي، في إصلاح بعض أوراقهم النقدية، ما مكّنهم من استخدامها في السوق.
وفي ظلّ تفاقم أزمة السيولة النقدية يوماً بعد يوم، لجأ بعض الناس إلى المقايضة لتلبية احتياجاتهم الأساسية. فهم يتبادلون السلع مثل كيس من الأرز مقابل كيس من الدقيق، أو علبتين من اللحم المعلّب مقابل كيلو من العدس، وهكذا. حتى أنّ البعض يسدّد ديونه بهذه الطريقة. فعلى سبيل المثال، كان أحد أقاربي مديناً لشخص ما بنحو 200 دولار، وسدّده بدراجة هوائية. وبدأ الناس بإنشاء صفحات على "فيسبوك" لهذا الغرض، وأذكر أنني صادفت صفحةً تُسمّى "سوق المقايضة الأول في غزة" أثناء تصفّحي الـ"فيسبوك"، حيث ينشر الناس عروض المقايضة الخاصة بهم ويتواصلون مع بعضهم البعض.
ومع ذلك، لا يمكن أن يستمرّ هذا الوضع إلى الأبد. فالحاجة إلى إيجاد حلّ لهذه الأزمة النقدية مُلّحة أكثر من أي وقت مضى. ونحن نعاني من صعوبات لا يمكن تصوّرها، وفي حين توفّر المقايضة طوق نجاة مؤقت للبعض، إلا أنها ليست حلاً مستداماً.
وفوق كلّ هذا، نتعرّض لاستغلال السماسرة ونخسر جزءاً كبيراً من أموالنا بلا فائدة. نحن بحاجة إلى الوصول الفوري إلى النقد، وإعادة فتح الفروع المصرفية، ورفع القيود على العملة. وينبغي إنهاء الحرب واستعادة العمليات المصرفية الطبيعية حتى نتمكّن من استعادة استقلالنا المالي وكرامتنا.
وكلّما طالت هذه الأزمة، ازدادت المعاناة أكثر. لذلك، لا بدّ من اتخاذ إجراءات فورية لاستعادة الخدمات المالية الأساسية؛ وهذه خطوة حاسمة نحو تخفيف المعاناة والحلم بمستقبل يسوده الاستقرار والسلام.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.