"Responsible Statecraft": الولايات المتحدة تركت خلفها أفغانستان جحيماً بيئياً

ماذا كنا نعتقد أنّ ما يقرب من خمسين عاماً من الحرب والإهمال سوف تفعله بهذا البلد؟

  • "Responsible Statecraft": الولايات المتحدة تركت خلفها أفغانستان جحيماً بيئياً

مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً يتناول الأثر البيئي الكارثي للحروب المتعاقبة في أفغانستان خلال العقود الأربعة الماضية

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

لأكثر من 4 عقود، كانت أفغانستان محاصرة في دوّامة لا هوادة فيها من الحرب والدمار. وبينما تركّز اهتمام العالم على الأبعاد السياسية والأمنية لهذا الصراع، تكشّفت أزمة أخرى ستطارد البلاد لأجيال، حيث البيئة الأفغانية تعاني دماراً عميقاً يعاني الأفغانيون من عواقبه الوخيمة، من مصادر المياه المسمومة إلى الأراضي القاحلة، فقد كانت الطبيعية ضحية للحرب، حيث تتحمّل المجتمعات الأكثر ضعفاً وطأة هذه الكارثة.

لقد تركت كلّ حرب في تاريخ أفغانستان الحديث بصمة بيئية ستستمرّ لفترة طويلة بعد توقّف إطلاق النار. وقد خلّف استخدام ذخائر اليورانيوم المنضب الأميركية نفايات مشعّة دمّرت شبكات وشلّت الزراعة، وأدّت إلى ارتفاع أمراض الجهاز التنفّسي ومعدّلات مرض السرطان الناتجة عن التعرّض للموادّ الخطرة التي بدأت تتكشّف الآن. وحتّى في عام 2017، أشارت التقارير إلى أنّ العديد من الأفغانيين ينظرون بشكل متزايد إلى التلوّث السامّ على أنّه تهديد أكثر خطورة من "طالبان".

في الواقع تتحمّل جميع الأطراف المتحاربة المسؤولية عن التدمير الحاصل. ووفقاً لمقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان في أفغانستان ريتشارد بينيت، فإنّ "الأضرار البيئية الناجمة عن الحرب هي قضية حقوق إنسان تمّ تجاهلها إلى حدّ كبير، مع أنّها يجب أن تكون في صدارة الأولويات بحكم أنّ آثارها هائلة. كما دعا بينيت إلى إنشاء آليات لتحقيق العدالة المتضمّنة التعويضات للتأثير البيئي على المجتمعات المتأذّية.

لقد بدأت البحوث العلمية بالكشف عن التأثيرات من إلقاء الموادّ المتفجّرة لعقود في تلويث مياه وأرض وهواء أفغانستان، وعلى الصحة العامّة، وخاصة صحة الأطفال ويقود هذه الجهود الباحث الأفغاني هارون رحيمي في "معهد راؤول والنبرغ" في السويد، الذي يعمل سويّاً مع بينيت والمقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالسموم وحقوق الإنسان ماركوس أوريلانا، الذي يُحضّر تقريراً للجمعية العامّة للمنظّمة الأممية، حول تأثير الموادّ السامّة على السكان الناتجة عن أعمال عسكرية. وفي الشهر الماضي اشتركوا معاً في ندوة عبر الإنترنت مع "معهد القانون البيئي" في واشنطن، بهدف دفع الأزمة إلى مقدّمة الخطاب العالمي حول أفغانستان.

"يقدّم القانون الدولي سبلاً محدودة لمحاسبة الدول القوية، وغالباً ما تكافح المحاكم المحلّية في تحدّي الحصانة السيادية"، كما يقول رحيمي. كما أنّ الدول التي تُتّهم بشكل موثّق بانتهاكات خطيرة، "عادة ما تتجنّب المساءلة من خلال تقديم المساعدات الإنسانية كبديل رمزيّ، يغطّي مسؤوليتها الحقيقية. ويقول الباحث رحيمي، إنّ "أنجح طريق للمضي قدماً يكمن في التقاضي الاستراتيجي واستغلال حكم القانون داخل بعض الدول المتّهمة لضمان قدر من العدالة للمجتمعات المتضرّرة، ولكي ينجح هذا التقاضي، يجب علينا أوّلاً وضع الأساس من خلال دقّة الدعاوى القانونية والبحث العلمي".

التهجير الجماعي

تعود جذور أزمة البيئة في أفغانستان إلى ما قبل الغزو السوفياتي عام 1979، حيث ارتبطت حالات سابقة من الأذى البيئي بالتدخّلات الاستعمارية والحرب الباردة. على سبيل المثال في الحرب الاستعمارية "الأنغلو-أفغانية" في العام 1919، قامت القوات الجوية الناشئة للهند البريطانية بارتكاب أعمال خطيرة من التدمير البيئي بقصف كابول وننجرهار، ممّا خلّف آثاراً بيئية واجتماعية طويلة الأمد. وحتّى قبل الغزو السوفياتي، سعت كلّ من واشنطن وموسكو إلى تصنيع الزراعة الأفغانية خلال الحرب الباردة، وغالباً ما كانت النتائج كارثية.

وفي ثمانينيّات القرن المنصرم، لجأ ما يقرب من 4.3 ملايين أفغاني إلى باكستان وإيران، فارّين من قرى بأكملها، حيث الأراضي الزراعية التي كانت خصبة ذات يوم تركت لمصير التدهور. كذلك، أدّى النزوح الاجتماعي إلى تعطيل الأنماط التقليدية لاستخدام الأراضي، ممّا أجهد الموارد في المناطق التي أعيد فيها توطين اللاجئين.

وفي أعقاب الانسحاب السوفياتي، أدّت الحرب الأهلية بين "المجاهدين" والقتال العنيف في كابول إلى تدمير البيئة الحضرية والبنية التحتية للمدينة. وتحوّلت العاصمة إلى أنقاض مع تجريدها من الغابات في نواحيها المجاورة حيث تضرّرت البنية التحتية لإمدادات المياه بشكل لا يمكن إصلاحه.

كما كانت غابات أفغانستان ضحية أخرى. ففي سبعينيّات القرن الماضي كان للبلاد غابات واسعة، ولا سيّما في المقاطعات الشرقية. أمّا اليوم لم يتبقّ سوى 2% من هذا الغطاء الحرجي الذي كان. فقد أدّت سنوات الصراع إلى تسريع إزالة الغابات حيث تحوّلت المجتمعات إلى قطع الأشجار من أجل البقاء على قيد الحياة، عن طريق بيعها أو لاستخدامها في التدفئة والطهي. كما قامَ المتمرّدون وأمراء الحرب باستغلال غابات البلاد بشكل ممنهج، وهرّبوا كميات هائلة من الأخشاب عبر الحدود، ممّا أدّى إلى عواقب وخيمة مستدامة. منها، تأكّل التربة والتصحّر والفيضانات المفاجئة، التي تجعل من الصعب على المجتمعات النازحة العودة والبناء.

حيوات مسمومة

أزمة المياه في أفغانستان ليست مجرّد مسألة ندرتها، بل تتعلّق بالتلوّث. فالقصف والعمليات العسكرية حقن موادّ كيميائية خطيرة في أنهارها ومياهها الجوفية. وخلال معركة جلال آباد في عام 1989، استخدمت حكومة محمد نجيب الله صواريخ "سكود" السوفياتية، التي خلّفت سموماً لا تزال آثار تلويثها للبيئة مستمرّة حتّى اليوم.

كما تشير تقارير أخرى إلى أنّ "طالبان" قد دمجت موادّ كيميائية سامّة في "قنابلها الانتحارية"، ممّا زاد تفاقم تلوّث المياه والتربة. كذلك، أدّى انهيار أنظمة الصرف الصحي في المناطق الحضرية، إلى تلويث الإمدادات المائية وتفشّي الأمراض على نطاق واسع.

كما أدّت الحرب دوراً مباشراً في تلوّث الهواء في أفغانستان. وخلال الوجود العسكري الأميركي أدّى الاستخدام الكثيف للقذائف التي تطلق أبخرة سامّة في الهواء، إلى تعريض كلّ من الجنود والمدنيين للمواد الكيميائية الخطرة. وتقول التقارير عن هذه الانبعاثات إنّها تؤدّي إلى أمراض مزمنة في الجهاز التنفّسي، وإلى ارتفاع معدّلات الإصابة بمرض السرطان. وتتأثّر النساء والأطفال أكثر من الرجال نسبياً، بسبب  أنّهم غالباً ما يتعرّضون للمياه غير الآمنة وسوء الصرف الصحي وتلوّث الهواء الداخلي من حرق الأخشاب وأنواع الوقود الأخرى.

ووفقاً لليونيسف، أُبلغ عن أكثر من 160,000 حالة عدوى حادّة في الجهاز التنفّسي في بداية العام الماضي في جميع أنحاء أفغانستان، "ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى الظروف الجوية القاسية وتلوّث الهواء"، ويشكّل الأطفال دون سن الخامسة 62% من الحالات.

ولعلّ العواقب البيئية الأكثر بشاعة للحرب هو تلوّث التربة. فعلى سبيل المثال أدّت التجارب النووية الباكستانية التي أجرتها في بلوشستان، بالقرب من مقاطعتي هلمند وقندهار في أفغانستان ، إلى تلوّث كبير للتربة وارتفاع حالات الإصابة بالسرطان بين الأفغانيين المجاورين، وهذا مثال آخر مثير للقلق عن العواقب البيئية العابرة للحدود.

كما أنّ استخدام اليورانيوم المنضب في الضربات الصاروخية الأميركية ترك وراءه نفايات مشعّة تتسرّب إلى الأرض والمياه، حيث يزرع المزارعون المحاصيل من دون قصد في تربة ملوّثة، وبينما يلعب الأطفال في مناطق مليئة بالبقايا السامّة من المعارك السابقة. 

وممّا يزيد هذه الأخطار، الألغام الأرضية وغيرها من مخلّفات الحروب والقنابل غير المنفجرة وتلوّث ما لا يقل عن 724 مليون متر مربّع من الأراضي، وهناك فقط مقاطعتان من أصل 29، يعتقد أنّها خالية من الألغام الأرضية، وفقاً لـ "هيومن رايتس ووتش"، ومن المتوقّعِ أن تؤثّر تخفيضات إدارة ترامب في التمويل إلى جانب إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية على عمليات إزالة الألغام، حيث بدأت تتكشّف كلّ هذه العواقب طويلة المدى على الصحة في العيوب الخلقية وارتفاع معدّلات الإصابة بمرض السرطان. 

وفي أحد أكثر الأمثلة تطرّفاً على القوة النارية العسكرية الغاشمة، حين أسقطت الولايات المتحدة قذائف ضخمة معروفة باسم "أمّ القنابل كلّها" على مقاطعة ننكرهار في عام 2017، ودمّرت بأكبر سلاح غير نووي على الإطلاق مساحات شاسعة من التضاريس الجبلية، ممّا أثار مخاوف جدّية بشأن سمّية التربة والذخائر غير المنفجرة والاضطراب البيئي في إحدى أكثر المناطق تنوّعاً بيولوجياً في أفغانستان.

لم تدمّر الحرب بيئة أفغانستان فحسب، بل قضت أيضاً على بنيّتها التحتية والطرق والجسور وشبكات الري الضرورية للزراعة والاستقرار الاقتصادي بشكل منهجي. وفي بلد يعتمد فيه 70% من السكان على الزراعة، أدّى تدمير شبكات الريّ إلى جعل مساحات شاسعة من الأراضي غير صالحة، وفاقم انعدام الأمن الغذائي. ومنذ عام 2008، قامت القوات المسلّحة الأفغانية المجهّزة من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بانتظام بقصف جوي ثقيل خلال محاولات لصدّ هجمات "طالبان". كما ساهمت هذه الحملات العسكرية المستمرّة بشكل كبير في تدهور التربة وتلوّث مصادر المياه، وجعلت تعافي الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الدمار البيئي بعد الحرب أكثر صعوبة، ممّا أدّى إلى محاصرة المجتمعات في فقر مدقع.

دعوة إلى العدالة

العواقب البيئية للحرب ليست وهمية. وهي تتجلّى في حياة المدنيين الأفغان، وليست نتيجة ثانوية للصراع، بل كارثة حتمية ناتجة عنه، وتتطلّب اهتماماً عالمياً عاجلاً. ومثلما استثمر المجتمع الدولي في العمليات العسكرية، يقع على عاتقه التزام أخلاقي وقانوني بالمساعدة على الانتعاش البيئي. ومن غير المقبول أن تتجاهل أطراف النزاع ببساطة الأضرار التي تسبّبت فيها. وهي ملزمة ببذل جهود حقيقية لإصلاح البيئة واستعادتها ودفع تعويضات للمجتمعات المتأذّية. يجب إعطاء الأولوية لبرامج إعادة التشجير ومبادرات تنقية المياه وجهود إعادة تأهيل البنية التحتية.

 ويجب ألّا تترك الأجيال المقبلة لمعالجة ما ورثته من تدهور بيئي، لأن لا دور لها في صناعته. ولقد حان الوقت للتعامل مع هذا الأمر الآن ويجب محاسبة جميع أطراف النزاع على مسؤوليتهم المشتركة عن الأضرار.

ومع ذلك، لا يزال هناك تحدّ بالغ الأهمية، حول كيف يمكن تقديم التعويضات من دون إفادة "طالبان"، التي تسيطر الآن على أفغانستان، وهل هناك طريقة لتجاوز سلطات الأمر الواقع مع الاستمرار في دعم الشعب الأفغاني المتأذّي.

يعتقد الدكتور رحيمي أنّ ذلك ممكن ويقول، "يمكن القيام بذلك من خلال نهج يركّز على الضحايا من خلال نظام القانون الجنائي، كما هو الحال في أستراليا، أو من خلال نظام الضرر  كما هو الحال في هولندا". 

بالنسبة للأفغانيين، ربّما تكون الحرب قد انتهت، لكنّ جهودهم من أجل العدالة والإصلاح والمستقبل قد بدأت للتوّ.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.