"واشنطن بوست": فرنسا تتأرجح على حافة الهاوية
من المُرجح أن يتولّى حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا بقيادة مارين لوبان مقاليد الحكم الشهر المقبل، لكن إذا نجح الناخبون الفرنسيون في منح التجمع الوطني مقاليد السلطة، فسوف ينتقمون من المظالم التي قام بها بحقهم.
صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب لي هوكستادر، يتحدث فيه عن الظروف والواقع الفرنسي السياسي مع اقتراب الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها الرئيس إيمانويل ماكرون.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
تعمل إحدى صديقاتي في مجال الزراعة العضوية في مقاطعة شامبانيا الواقعة جنوب شرقي مدينة باريس، وترعى عجولها في الحقول العطرة تحت المنحدرات المغطاة بمزارع الكروم. هي ليست من مؤيدي حزب التجمع الوطني، وهو حزب أقصى اليمين المناهض للمهاجرين، والذي قد يسيطر بشكل واسع على الحكومة الفرنسية التي ستنتج من الانتخابات التشريعية المرتقبة خلال الشهر المقبل، إلّا أنّ ما شهدته من براعة الحزب في التعامل مع السياسات بالتجزئة وتلميع صورته المشوهة سابقاً يقدم لمحة عن سبب تحوّل الكثير من الناخبين الفرنسيين باتجاه حزب التجمع الوطني.
وقد أخبرتني بأنّ المسؤولين المحليين التابعين للأحزاب السياسية الأخرى تجاهلوا لسنوات الدعوات لحضور اجتماعات المزارعين والمعارض الزراعية، فيما أظهر ممثلو حزب التجمع الوطني جاهزيتهم للحديث عن المشكلات الخاصة التي يواجهها المزارعون وإطلاعهم عليها.
وعندما أعرب أحد التجار عن قلقه من أن برنامج الحزب المناهض للمهاجرين قد يؤدي إلى قطع إمدادات اليد العاملة المحلية، طمأنه أحد مسؤولي التجمع الوطني. وحسبما إفادة صديقتي، فقد أرسل مسؤول آخر في الحزب رسالة شكر لائقة بعد حضوره فعالية مؤخراً.
وقالت في هذا الإطار: "إنهم يدركون كيفية التصرّف في المجتمع".
وبالنسبة إلى الكثير من الناخبين الفرنسيين، فإنّ الحد الأدنى من الكياسة لم ينجح في تبييض سياسات الحزب المتطرفة، ناهيك بسياسة معاداة السامية الخبيثة التي يمارسها جان ماري لو بان. ولا تزال صديقتي عند موقفها المتمثل بعدم التصويت لحزب التجمع الوطني، لكن التحول الذي طرأ على الحزب، والمتمثل بالمشروع الذي دام سنوات بين مارين ابنة لو بان وتلميذها المسيطر جوردان بارديلا البالغ 28 عاماً، كان ناجحاً إلى حد مذهل؛ فبعد سنوات من تهميشه في الداخل الفرنسي، حقق الحزب نصراً ساحقاً في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في فرنسا خلال هذا الشهر.
ويتولى حزب التجمع الوطني حالياً، وقبيل انتخابات المجلس التشريعي الفرنسي التي ستجري على جولتين وتنتهي في السابع من تموز/يوليو، قيادة مجموعة من الأحزاب في مجال سياسي منقسم بشدة. وقد يؤدي فوزه إلى بقاء الرئيس إيمانويل ماكرون في منصبه، ولكن بصفته زعيماً لمعارضة ضعيفة عملياً.
وبعيداً عن الحظوظ المرتفعة لحزب التجمع الوطني، هناك الكثير من الأمور المهمة التي يجب معرفتها عن هذا الحزب، والتي لا تبعث كلها على الارتياح.
يرغب حزب التجمع الوطني في وضع نظام جديد في فرنسا، وليس مجرد أولويات مختلفة، فبدلاً من الترويج للاتحاد الأوروبي باعتباره ثقلاً موازناً لروسيا والصين والولايات المتحدة التي لا يمكن الوثوق بها بصورة مطردة، كما فعل ماكرون، يسعى الحزب إلى اعتماد سياسة التقشف القومي. وفي هذا السياق، كتب المؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش هذا الشهر: "سيكون هذا الأمر بالنسبة إلى فرنسا مشابهاً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي".
أمّا في سعيه لتحقيق هدفه المتمثل في جعل فرنسا بلداً أقل تقبلاً للمهاجرين وحرمانهم من الخدمات الاجتماعية ومواصلة عمليات ترحيلهم، فقد يحدد الحزب مساراً للتراجع طويل الأمد في بلد يعتمد كغيره من بلدان أوروبا على العمالة المهاجرة للحفاظ على نموه الاقتصادي في ظل انخفاض معدلات الولادة.
وقد دفع الانتصار الذي حققه حزب التجمع الوطني هذا الشهر الرئيس ماكرون إلى الدعوة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في فرنسا، الأمر الذي تسبب بحدوث اضطرابات سياسية في البلاد. ويراهن ماكرون بشكل كبير على أنّ الناخبين لن يكرروا، في عملية الاقتراع المحلي، ما بدا كأنه تصويت احتجاجي على المستوى القاري، إلّا أنّ الزخم السياسي الذي تشهده البلاد، إلى جانب استطلاعات الرأي الحالية، يشيران إلى أنّ الحزب سيفوز بأكبر حصة من النوّاب في الجمعية الوطنية المؤلفة من 577 مقعداً.
وما يعزّي قليلاً أنّ منافسته الرئيسة تبدو كأنّها كتلة يسارية يهيمن عليها الاشتراكيون الراديكاليون الذين من شأن برنامجهم المنافق أن يؤدي إلى انفجار الاقتصاد الفرنسي. أمّا بالنسبة إلى الحزب الوسطي الذي ينتمي إليه ماكرون، فهو يحتل المركز الثالث بفارق كبير في استطلاعات الرأي.
ونقلت صحيفة "فايننشال تايمز" عن أحد كبار رجال الأعمال الفرنسيين قوله إنّ احتمال دخول أقصى اليمين أو أقصى اليسار في فرنسا إلى الحكومة هو الاختيار بين الطاعون والكوليرا.
إنّ خطاب حزب التجمع الوطني الكارثي، الذي يصوّر فرنسا واقعة في قبضة الفوضى والجريمة والانحدار، يتعارض مع نجاح الحكومة في خفض معدلات البطالة والتضخم، لكن ماكرون لم يبتكر أي حل للاستياء والحنين المرير الناتج من الهجرة الجماعية، والذي يظل في قلب رسالة لو بان-بارديلا بأنّ "الشمولية الإسلامية" ستؤدي إلى "محو" فرنسا.
تخيّل، كما قال بارديلا أمام حشد من الناس في العام الماضي، فرنسا "حيث يعيش كل فرنسي وفرنسية تحت العلم نفسه، واللغة نفسها، والثقافة نفسها". إنّ إيقاعه المدروس لا ينفي التطرف المتمثل في تجانس بلد يضم ملايين المسلمين الذين يشكّلون نحو 13% من السكان. ومن الجدير بالذكر أنّ فرنسا ضمّت عدداً أقل من المهاجرين، كنسبة من السكان، مقارنة بالعديد من الدول الغربية الكبرى الأخرى على مدى العقدين الماضيين.
هناك شيء غريب في احتمال أن يثير الناخبون الاضطرابات في بلد مدعوم بثقافة المشاريع الناشئة النابضة بالحياة، والإنفاق الاجتماعي القوي، والاقتصاد الذي تفوق في أدائه على كثيرين في الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإنّ قطاعات واسعة من البلاد ساخطة، وخصوصاً الفقراء الذين يشعرون بالاستياء من النخبة الحضرية التي يرون عزلتها وغطرستها متجسدة في ماكرون.
وإذا نجح الناخبون الفرنسيون في منح التجمع الوطني مقاليد السلطة، فسوف ينتقمون من تلك المظالم، لكنهم قد يندمون على كل ما تمنوه.