"نيويورك تايمز": ما حدث في غزة قد يكون أسوأ مما نتصور
قد يميل الكثير من الأميركيين إلى عدم تصديق فظاعة ما حدث في غزة. ففي النهاية، هي كارثة تم تمويلها من أموالنا، وتحققت بفضل أسلحتنا، وتغاضت عنها حكومتنا.
-
"نيويورك تايمز": ما حدث في غزة قد يكون أسوأ مما نتصور
صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول التكلفة الإنسانية الحقيقية للحرب الإسرائيلية على غزة، مسلطاً الضوء على محاولات الإنكار والتقليل من حجم المأساة في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، رغم الأدلة الموثقة على حجم الكارثة.
يناقش الكاتب مصداقية أرقام وزارة الصحة في غزة التي توثّق عشرات الآلاف من القتلى، ومعظمهم من النساء والأطفال، ويشير إلى أنّ العدد الحقيقي قد يكون أعلى من المعلن. كما يبرز الجانب الأقل تناولاً في الإعلام، وهو الوفيات غير المباشرة الناتجة عن الجوع والمرض وتدمير البنية الصحية بسبب الحصار الإسرائيلي. ويخلص إلى أن حرب غزة تُعدّ من أكثر الصراعات فتكاً في العصر الحديث.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
قد يميل الكثير من الأميركيين إلى عدم تصديق فظاعة ما حدث في غزة. ففي النهاية، هي كارثة تم تمويلها من أموالنا، وتحققت بفضل أسلحتنا، وتغاضت عنها حكومتنا، ونفذّها أحد أقرب حلفائنا. فلا عجب أن يسعى البعض إلى التقليل من الضرر الناجم عنها.
أمّا تبريرهم، فيتجلّى بالتشكيك في الأرقام. ويكون على النحو التالي: لا بدّ أن عدد القتلى، الذي أحصته وزارة الصحة التابعة لحماس، مبالغ فيه لإثارة غضب دولي. وإن لم يكن كذلك، فإن معظم الضحايا كانوا مقاتلين من حماس، وليسوا مدنيين بالتأكيد. على أي حال، لا يمكن أن يكون الأمر أسوأ من الفظائع الأخرى التي تحدث في أماكن أخرى، في جنوب السودان أو جمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي لا نتحمل نحن الأميركيين فيها أي مسؤولية. وإذا نظرنا إلى الأمرين معاً، نجد أنهما يشكلان مخزوناً مؤثراً من الرفض والإنكار.
لكن الآن حان وقت الحساب. فبعد عامين من العنف المتواصل، تم تطبيق وقف إطلاق نار هش وغير مؤكد في غزة، وشاهدنا الرهائن الإسرائيليين وهم يجتمعون مع عائلاتهم، والأسرى الفلسطينيين العائدين إلى ديارهم بعد سنوات من الاعتقال. لكن يجب أن يُقارن ذلك بالواقع المروع الذي يواجهه الناجون: مشهدٌ كارثيٌّ من الدمار الشامل والخسارة الفادحة. واليوم، تتجلى فرصة للبدء في اكتشاف التكلفة الحقيقية لهذه الحرب، إن أردناها. ونجد أنها أسوأ مما كنا نعتقد.
أولاً، لنتحدث عن الأرقام. بلغ عدد الشهداء في غزة 68229 شخصاً، وفق آخر إحصاء لوزارة الصحة التي تديرها حماس، مثل غيرها من الخدمات الحكومية الأخرى في القطاع. وهذا الأمر بحد ذاته قد أثار الشكوك. لكن خبراء في إحصاء ضحايا الحرب أخبروني أن إحصاءات الوزارة تتسم بدقة استثنائية. فهي لا تقتصر على أسماء الأفراد الذين تأكدت وفاتهم بسبب الحرب فحسب، بل تشمل أيضاً أعمارهم وجنسهم، والأهم من ذلك، أرقام هوياتهم التي يسهل التحقق منها.
وعلى الرغم من مصداقية هذه الإحصائيات، يشكك الكثير من الخبراء في أنها أقل بكثير من العدد الحقيقي. وقد أجرى سباغات بالتعاون مع مجموعة من الباحثين استطلاعاً للرأي شمل 2000 أسرة في غزة، أشار إلى أن الأرقام الرسمية قد تكون أقل من عدد الأشخاص الذين قتلوا في الحرب بنحو 39%.
ومع ذلك، لا تميّز الأرقام بين المقاتلين والمدنيين. وهذه حقيقة تُثير ادعاءً آخر مفاده أنّ معظم الشهداء هم من مقاتلي حماس؛ وبالتالي هم يشكّلون أهدافاً مشروعة. لكن استطلاع سباغات يؤكد جانباً آخر من أرقام الضحايا، وهو أنّ غالبيتهم (حوالى 56%) كانوا من النساء والأطفال وكبار السن.
ووفقاً لسباغات، "في أي صراع تقليدي، يكون عدد الذكور في سن التجنيد أكبر مما نراه هنا. وتُعد نسبة النساء والأطفال وكبار السن مرتفعة بشكل غير معتاد". يكفي أن ننظر إلى بقايا غزة المدمرة لندرك أن وابل القنابل والصواريخ الإسرائيلي المتواصل، بعيداً عن كونه يستهدف بدقة المقاتلين، كان يسقط على رؤؤس الشباب والكبار، الرجال والنساء، بالقوة نفسها.
لكن الإحصاء الدقيق لعدد الشهداء لا يكشف إلا جزءاً من الخسائر البشرية للحرب. ففي الكثير من الصراعات الأخيرة، في دارفور وتيغراي والكونغو واليمن، يتساوى عدد من يموتون جوعاً ومرضاً مع عدد من يموتون بسبب العنف، أو يتعداه. وتُسمى هذه الوفيات بالوفيات غير المباشرة، وتُحسب عادةً بقياس معدلات الوفيات قبل بدء القتال وبعده. وقال لي الخبراء إنّ إدراج هذه الوفيات يُعد أمراً مهماً، لأن إغفالها يُخفي التكلفة الحقيقية للحرب.
وقد رأيتُ هذا الأمر بنفسي في دارفور في منتصف القرن العشرين، حيث كانت الهجمات القاتلة التي شنتها ميليشيات الجنجويد مجرد بداية البؤس. فقد أُجبر القرويون على الفرار من منازلهم وتكديسهم في مخيمات مؤقتة بائسة. وكان وصول المساعدات يستغرق أسابيع أو أشهراً. وكان الأطفال دون سنّ الخامسة والنساء الحوامل والأشخاص ذوو الإعاقة وكبار السن، من بين أوائل من يموتون، لكن ليس بالرصاص أو القنابل، بل بسبب الظروف التي خلقها العنف.
في عام 2006، قضيتُ في الكونغو عدة أيام في مستشفى شرقي البلاد أوثّق الخسائر غير المباشرة لتداعيات الحرب على الأطفال. فشاهدتُ طفلاً صغيراً يُدعى أموري يلفظ أنفاسه الأخيرة،. كان مُصاباً بالحصبة، وهو مرض يُمكن الوقاية منه بسهولة باللقاحات الروتينية، وعلاجه بالأدوية الحديثة. كان واحداً من بين الكثير من الأطفال الذين شاهدتهم ذلك الأسبوع يموتون لأسباب كان يمكن معالجتها.
هذه المعدلات المرتفعة من الوفيات غير المباشرة شائعة في المناطق النائية من الدول الفقيرة الشاسعة، حيث ينتشر السكان على نطاق واسع وتواجه المساعدات صعوبة في الوصول إليهم. أما الوضع في غزة، فهو مختلف. فهي صغيرة، بحجم مدينة ديترويت تقريباً، ويسهل الوصول إليها براً. وقبل الحرب، كان معدل نصيب الفرد من المساعدات الإنسانية في اليمن من بين الأعلى في العالم، وكان متوسط صحة سكانه أعلى بكثير من متوسط صحة سكان مناطق الصراع الأخرى. وكانت معدلات التطعيم في مرحلة الطفولة لحماية الأطفال من الأمراض المُعدية، مثل شلل الأطفال، مرتفعة.
وكان من المفترض أن يعني هذا أن نسبة الوفيات غير المباشرة ستكون أقل من إجمالي الوفيات في الحروب الأخرى. وقد كانت كذلك في معظم فترات الصراع. لكن قرار "إسرائيل" بتقييد المساعدات إلى غزة بشكل حاد، وأحياناً بمنعها بالكامل، تسبب هذا العام في حدوث مجاعة في القطاع. ودُمرت بنيته التحتية الصحية، واضطر معظم سكانه البالغ عددهم مليوني نسمة إلى الفرار، عدّة مرات في كثير من الأحيان، والعيش في ظروف غير صحية ومعرضة للخطر. ولا يزال من غير الممكن معرفة حجم الضرر الذي تعرّضوا له.
ثمة أمل في أن يسمح وقف إطلاق النار بتحسن الأوضاع. ومع ذلك، قد تكون هذه الفترة العصيبة قاتلة لسكان غزة من بعض النواحي. فمع كل هذا الدمار، لن يجد الكثيرون ممن يعودون إلى منازلهم سوى الأنقاض. ولدينا جميع الأسباب التي تجعلنا نتوقع أن تسعى "إسرائيل" إلى استخدام تدفق المساعدات الإنسانية، مثل الغذاء والماء والكهرباء والإمدادات الطبية والعمّال، كوسيلة ضغط في المفاوضات المعقدة حول مستقبل غزة.
الاختبار الصعب للأمم المتحدة
وإذا كان دي وال مُحقاً، فإن هذا الصراع سيودي بحياة 7.5% من سكان غزة قبل الحرب في غضون عامين فقط. وهو بالفعل، من حيث النسبة المئوية، أشد فتكاً من الحروب في اليمن وسوريا والسودان وأوكرانيا. وسيكون من المستحيل إخفاء حقيقة أن صغر مساحة غزة وسهولة الوصول إليها وبنيتها التحتية للمساعدات تحول دون ذلك. وبالمقارنة مع الصراعات الأخرى، يمكن تحديد عدد الوفيات، المباشرة وغير المباشرة، بدقة متناهية.
وسيُصعّب هذا الأمر التقليل من شأن ما حدث أو إنكاره، ولكنه لن يكون مستحيلاً. وفي مقابلة مع برنامج "60 دقيقة" يوم الأحد، وصف جاريد كوشنر دمار غزة خلال زيارة حديثة للـ"جيش" الإسرائيلي قائلاً: "بدا الأمر كما لو أن قنبلة نووية قد فُجّرت في تلك المنطقة". وعندما سُئل عمّا إذا كان يعتقد بأنها إبادة جماعية، أجاب فوراً: "لا". وتدخل شريكه في المفاوضات، ستيف ويتكوف، قائلاً: "لا، لا، كانت هناك حربٌ دائرة".
في النهاية، الأنقاض تروي قصةً، والأشخاص الذين تسببوا بها يروون قصة أخرى. أمّا الحساب، فسيكون تبعاً للقصة التي نختار تصديقها.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.