"لوموند دبلوماتيك": القادة العلمانيون في "إسرائيل" يسَخّرون الدين في خدمة الحرب
اليمين المتشدد في "إسرائيل" لن يستفيد من الإحباط الذي أصاب الإسرائيليين منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، على الرغم من حصوله على 15 مقعداً من أصل 120 في الكنيست. وسيتم استبعاده من الحكومة المقبلة، التي ستبقى يمينية ولكن أقل تطرفاً من الحكومة الحالية.
يكتب ماريوس شاتنر، في مجلة "لوموند دبلوماتيك" مقالاً يتناول فيه التوجّه المتزايد لدى الممسكين بالسلطة في "إسرائيل"، سواء من العلمانيين أو المتطرفين، لاستخدام الخطاب الديني من أجل تبرير الإبادة الجماعية التي يقوم بها "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ويرصد الكاتب أمثلة متعددة على هذا الخطاب ودلالاته.
فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
لم تتردّد الصهيونية، وهي حركة علمانية معظم ناشطيها كانوا في الأصل مُلحدين، في الاستيلاء على المفاهيم الأساسية للديانة اليهودية وإعادة صياغتها لبناء هوية وطنية. على هذه الخلفية، يمكن فهم كيف استعمل الاحتلال هذا الخطاب لتبرير الحرب المدمّرة التي يشنها "الجيش" الإسرائيلي في غزة.
أضاف اليمين الإسرائيلي في السلطة إلى شعاره المركزي الذي يرفعه في حرب غزة "سننتصر معاً!" بشكل منهجي عبارة "بعون الله" لإعطاء بُعد دينيّ للصراع مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وخلال مؤتمر صحافي عقده في "تل أبيب" في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وفي رسالة وجّهها إلى الجنود حيّا من خلالها "معركتهم ضد قتلة حماس" في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، استشهد بنيامين نتنياهو بسفر التثنية من الكتاب المقدّس العبري (آية تث 25:17)، قائلاً: "اذكر ما فعله عماليق بك" (اقرأ "ألف وجه للعماليق")؛ على الرغم من أنّ رئيس الوزراء بعيد كلّ البعد عن كل الممارسات الدينية. إلّا أنّه اضطر للاستشهاد بالنصوص الدينية للدفاع عن نفسه من تهمة التحريض على الإبادة الجماعية، رداً على اتهامات جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
ولكن إذا كان استخدام النصوص الدينية اليهودية يهدف إلى منح هذه الحرب غطاءً إلهياً، فإنه لا يشكّل رد فعل فحسب على عملية الحركة الإسلامية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ففي الواقع، ظلت السلطات الإسرائيلية تستخدم هذا الخطاب منذ عدة سنوات، ولكن بشكل أكثر تحفّظاً. والدليل على ذلك، الشهادة رقم 482683 التي أدلى بها ضابط في لواء مشاة غولاني ونشرتها منظمة "كسر الصمت"، وهي منظمة غير حكومية تجمع جنوداً سابقين معارضين لاحتلال الأراضي الفلسطينية، وتضمّنت ما يلي: "خلال عملية (الرصاص المصبوب) في 2008-2009، أمر الحاخام الأكبر للجيش أفيحاي رونتسكي جنود جيش الله بأن يتعاملوا بقسوة مع العدو"، في إشارة إلى حروب غزو كنعان، أرض الميعاد.
وفي عام 2014، خلال عملية (الجرف الصامد)، في قطاع غزة أيضاً، أعلن الجنرال عوفر وينتر، قائد لواء المشاة غفعاتي، ما يلي: "لقد اختارنا التاريخ رأس حربة في المعركة ضد العدو الإرهابي في غزة الذي يهين ويلعن إله الحروب في إسرائيل". في ذلك الوقت، تسبّبت هذه التعليقات الصادرة على لسان جندي رفيع المستوى في فضيحة؛ كما ساهمت في تقصير حياته المهنية كضابط.
أما اليوم، فقد أصبحت هذه التعليقات أقل إثارة للصدمة. وبات الخطاب القومي الديني أمراً شائعاً، يحمله وزراء اليمين المتطرف، أمثال إيتمار بن غفير، اليهودي المتعصّب على رأس الأمن القومي، أو بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، كما يفعل أعضاء آخرون في الحكومة والنواب المنتمون إلى حزب الليكود، حزب نتنياهو. ونسمع ذلك أيضاً في الجيش، ولا سيّما في أوساط المراتب الأدنى، وكذلك في الوحدات القتالية حيث يميل عدد الضباط من الأكاديميات الدينية المُمهّدة بدخول "الجيش" إلى الازدياد.
هذا وقد انتشر مقطعَا فيديو على نطاق واسع على شبكات وسائل التواصل الاجتماعي. في الفيديو الأول والذي يرجع تاريخه إلى بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر، يؤكد عميحاي فريدمان، حاخام قاعدة تدريب لواء "ناحال"، أنّ الحرب يجب أن تسمح بإعادة إنشاء مستوطنات "غوش قطيف" التي تمّ تفكيكها أثناء فك الارتباط الإسرائيلي عن قطاع غزة في عام 2005، في قطاع غزة وخارجه. "هذه الأرض كلّها لنا، بما في ذلك غزة ولبنان، إنّها أرض الميعاد"، يؤكد الضابط وسط تصفيق حار من جنوده. على الأثر، تبرّأت القيادة العسكرية منه وأُوقف عن العمل لمدة ثلاثين يوماً، بعدها مُنح منصباً آخر كحاخام عسكري في الكتيبة نفسها.
في الفيديو الثاني، الذي تمّ تصويره في الشهر التالي خلال احتفال أُقيم بعد تدمير بلدة بيت حانون الفلسطينية، يدعو يائير بن دافيد، قائد سرية في الكتيبة 2908، ليس فقط إلى القضاء على حماس، الهدف الرسمي للحملة الإسرائيلية، بل إلى إبادة غزة أيضاً. واستناداً إلى العهد القديم، يقارن بين تدمير هذه البلدة الواقعة شمال شرق القطاع والانتقام الرهيب الذي مارسه أبناء البطريرك يعقوب ولاوي وشمعون ضد سكان شكيم (الاسم العبري لمدينة نابلس الحالية الواقعة في الضفة الغربية) بعد اغتصاب شقيقتهم دينة على يد ابن ملك المدينة.
ويذكر الكتاب المقدّس أنّ الأخوين قد قتلا كل رجال المدينة بحدّ السيف على الرغم من قطعهما وعداً بإبقائهم أحياءً (التكوين 34). ويتابع الضابط: "لقد فهم شمعون ولاوي أنّ الشرف أهم من كل شيء آخر في الشرق الأوسط. وفعلوا في شكيم ما فعلناه في بيت حانون. لكنّ المهمة لم تنتهِ بعد، يحذر القائد. وغزة كلها يجب أن تعاني من مصير بيت حانون. (...) بعون الله، ستلقى شكيم أو أي مدينة أخرى تتجرّأ على الثورة ضد إسرائيل، مصير بيت حانون نفسه". لكنه أهمل ذكر بقية القصة واستنكار يعقوب لهذه المذبحة وشهادة الزور. وهو على فراش الموت، كما هو مكتوب في الكتاب المقدّس، "لعن الغضب" الذي سيطر على ولديه "لأنه كان شراً" ودعا أولاده الآخرين إلى "ألّا يشاركوا في مخططاتهما" (التكوين 19:6).
ومع انتشار الفيديو، يخشى جزء من الجمهور أن يؤدي بدوره إلى تأجيج الاتهامات بـ"التحريض على الإبادة الجماعية" وتدهور صورة "إسرائيل" أكثر على الساحة الدولية. فالسخط لا يتعلّق بالصورة فحسب، بل بالمحتوى أيضاً. والدليل على ذلك التعليق اللاذع الذي نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" اليومية واسعة الانتشار في 22 كانون الأول/ديسمبر 2023، الذي تضمّن التالي: "اقتلوا وانهبوا ودمّروا: هذا ما يَغرسه الكتاب المقدس والتقاليد اليهودية في نفوس الجنود. لقد كذبوا عليهم بشأن التعليمات المعطاة للجيش وحول قصص الكتاب المقدّس".
لا يميّز القوميون المتطرفون بين حماس وبقية السكان الفلسطينيين المتهمين بدعمها، وهو مزيج قاتل أُعدّ لدعم رؤية أخلاقية مزعومة. وكما يقول الحاخام الكاريزماتي أوري شرقي الجزائري الأصل، وإحدى الشخصيات الأكثر شعبية في هذه الحركة: "الحرب ليست محاكمة. فنحن لا نقتل عدواً لأنه مذنب ولا نتركه لأنه بريء. بل هي مواجهة جماعية ضد أخرى، وأمّة ضد أخرى". وبالتالي، "من خلال الوقوف إلى جانب الشر والعمل من أجل تدمير شعب إسرائيل مثلما فعل النازيون، سيفقد الفلسطينيون في غزة، الحق في الظهور في (مجتمع الأمم)". ومن وجهة نظره، فإنّ العمل الذي يقوم به "الجيش" الإسرائيلي في غزة سيكون بالتالي "أخلاقياً تماماً". وعليه، لن يتحقّق شرط تجنّب المدنيين بأي ثمن.
وفي 28 كانون الثاني/يناير في القدس وأمام الآلاف من المؤيدين المتحمّسين، أطلق اليمين المتطرّف، المتحرّر من القيود اللغوية التي فرضتها الوحدة الوطنية مع بداية الحرب، حملة لاستئناف بناء المستوطنات في القطاع، و"نقل السكان" إلى مصر، وهو ما ترفضه السلطات في القاهرة، أو إلى أي دولة أخرى، وهو تعبير ملطّف للإشارة إلى الطرد الجماعي والتطهير العرقي.
في المقابل، فإنّ الجماعات المتشدّدة (التي تمثّل 12% من السكان اليهود في "إسرائيل")، إضافة إلى حزب شاس (السفارديم تقليدياً) وحزب يهودات هتوراه (التوراة اليهودية الموحّدة – الحزب الأشكنازي)، التي تُعدّ ركائز الائتلاف الحكومي، لم تُظهر أيّ اهتمام بإعادة بناء المستوطنات في غزّة. فقد سبق لها أن قبلت ضمنياً تفكيكها في عام 2005، ويشعر حاخاماتها بالقلق من التجاوزات المسيحانية للقوميين المتشددين... ولكن من دون إدانتهم بشكل صريح، نظراً لتزايد شعبية اليمين المتطرف بين أتباعها.
ومع ذلك، ووفقاً لعدد من استطلاعات الرأي المتسقة، لن يتم تجديد الائتلاف الحالي في حال تم إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، وهو الاحتمال الذي يرغب نتنياهو المنهارة شعبيته في تجنّبه بأي ثمن. وبالتالي، فإنّ اليمين الأكثر تشدّداً لن يستفيد من الإحباط الذي أصاب الشعب اليهودي منذ وقوع كارثة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، على الرغم من حصوله على 15 مقعداً من أصل 120 في الكنيست. وسيتم استبعاده من الحكومة المقبلة، التي ستبقى يمينية ولكن أقل تطرّفاً من الحكومة الحالية.
ولا تزال الأفكار التي ينادي بها مؤيّدوه تجد صدى في المجتمع الإسرائيلي الذي تأثّر على مدى عقود من الزمن بـ"تجريد" الفلسطينيين الذين يرزحون تحت وطأة الاحتلال من إنسانيتهم، كما أشار عالم الاجتماع ياغيل ليفي. وبالنسبة لهذا الباحث، فإنّ البعد الديني الممنوح لحرب غزة يخدم قبل كل شيء تبرير التعطّش للانتقام، بينما يعطي "معنى أسمى لمهمة" المقاتلين. ويوضح أنّ "خطاب الانتقام بات سائداً في الجيش منذ اندلاع الحرب، رغم أنه كان يُعتبر حتى ذلك الحين استثنائياً"، مع ما يترتّب على ذلك من نتائج كارثية على عقلانية سير العمليات. إضافة إلى ذلك، يشير ليفي إلى أنه في بداية الهجوم الإسرائيلي اقتصرت القيادة العسكرية على إخطار القوات بحظر المشاركة في أعمال النهب.
واستمرّ الوضع على حاله حتى مقتل ثلاث رهائن إسرائيليين عن طريق الخطأ في غزة، حيث أصر رئيس الأركان هرتسي هاليفي، في 16 كانون الأول/ديسمبر 2023، على عدة قنوات تلفزيونية، بشأن "حظر إطلاق النار على الأشخاص الذين يرفعون الراية البيضاء ويعلنون استسلامهم". وبعد مرور شهر واحد فقط على إصدار محكمة العدل الدولية أوامرها لـ"إسرائيل" بمنع أعمال الإبادة الجماعية، دعا الجنرال جنوده إلى "عدم استخدام القوة عندما لا يكون ذلك ضرورياً، للتمييز بين الإرهابيين والمدنيين"، مؤكداً أنّ "الجيش" الإسرائيلي، على عكس حماس، مجبول على القيم الإنسانية ولا ينخرط في "أعمال قتل وانتقام وإبادة جماعية".
من جهته، صرّح حاخام معهد ماتان في القدس، دانييل إبستين، في كانون الثاني/يناير، قائلاً: "إنّ الانتقام، كردّ فعل غريزي، لا يخدم أيّ غرض. بل على العكس من ذلك، فهو يهدّد بتدميرنا من الداخل حتى لو انتصرنا على الأرض". ووفقاً للتقليد التلمودي، يحذر هذا الفيلسوف من أوهام الحمى المسيحانية، "وهي حلّ سهل يسمح لنا بالهروب من الحقائق القاسية والأسئلة التي يطرحها السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ولا تزال هذه المأساة تصعقنا…".
نقلتها إلى العربية: زينب منعم.