"فورين بوليسي": عودة "داعش"

لم يعد تنظيم "داعش" حيّاً فقط، بل إنّه يزدهر في مواقع محدّدة في العالم.

  • "فورين بوليسي": لم يعد تنظيم "داعش" حيّاً فقط، بل إنّه يزدهر في مواقع محدّدة في العالم

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً بعنوان تنظيم "داعش" يعود إلى الواجهة، وتشرح فيه الأسباب التي تشجع على تعاظم قوّة التنظيم وتهديداته التي ستتصدر إلى الغرب ولن تبقى محليّة.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

تضاعفت في العام الماضي هجمات تنظيم "داعش" في سوريا 3 أضعاف مقارنة بالعام السابق. ولم يكن هذا التصاعد في وتيرة الهجمات مرتبطاً بعددها فحسب، بل أيضاً بنوعيتها، إذ كانت هجمات معقّدة، وتشي بازدياد قدرة المهاجمين على القتل، ونشر العمليات في النواحي الجغرافية.

وأثناء ولاية ترامب الأولى، تمكّن الجيش الأميركي، بمساعدة الجماعات المسلحة الكردية والميليشيات الشيعية العراقية المدعومة من إيران، من القضاء على تنظيم "داعش" في الموصل، واستعادة آخر قطعة من الأراضي التي سيطر عليها التنظيم في سوريا، وقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي. في آب/أغسطس 2020، زعم ترامب أنّه "تم القضاء على داعش كلياً".

ولكن، بعد مرور ما يقرب من 5 سنوات على هذا البيان، لم يعد تنظيم "داعش" حيّاً وبخير فقط، بل إنّه يزدهر في مواقع محدّدة في العالم، مستغلاً الأحداث الجيوسياسية الرئيسية، وتراجع الضغوط لمكافحة الإرهاب في عدد من المناطق الساخنة عالمياً، بما فيها تلك التي يسعى ترامب إلى تقليص الوجود العسكري الأميركي فيها.

في سوريا، أصبح تنظيم "داعش" جاهزاً للتوسّع. وبعد انهيار نظام بشار الأسد وظهور حكومة جديدة برئاسة أحمد الشرع، زعيم تنظيم "هيئة تحرير الشام"، يظهر أنّه من غير المرجّح أن تتمكّن الحكومة الحالية من إرساء احتكار استخدام القوّة والسيادة على كامل الأراضي السورية. وعلاوة على ذلك، بينما يتصارع الشرع مع المهمّة الشاقّة المتمثّلة في إعادة توحيد سوريا، من المتوقّع أن يكون هناك عناصر من ائتلافه لن تقتنع باستبدال الرصاصة بالانتخابات. فالمقاتلون المتمرّسون في المعارك من القوقاز والبلقان وسوريا وفنزويلا وتركيا وغيرهم من بلدان في آسيا الوسطى غير مهتمّين بمشروع الحكم، وقد يفضّلون الانضمام إلى تنظيم "داعش" ومواصلة "الجهاد" في سوريا، أو في بلدانهم الأصلية، من ضمنها الصين وطاجيكستان وروسيا.

وتتمثّل القضية الأخرى الصارخة في سوريا في وضع السجون ومعسكرات الاعتقال التي تحتجز مقاتلي تنظيم "داعش" وأسرهم، حيث تتعرّض هذه المنشآت، التي تحرسها "قوّات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الكرد لضغوط متزايدة. والأمر الأكثر قساوة هو أنّ الميليشيا الكردية تخوض معارك بوجه "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا، وهو ما يفرض ضغوطاً على القوى البشرية لديها. إضافة إلى ذلك، مع تجميد المساعدات والتمويل الأخير من المؤسّسات الأميركية نتيجة لقرارات ترامب التقشفية في تمويل برامج المساعدات، أصبحت المخيّمات في شمال شرق سوريا تحت المجهر.

إنّ أيّ عملية هروب قد تحدث من معسكر سجن الهول، الذي يضمّ نحو 39 ألفاً من أسر  "داعش"ومقاتليه، ستكون بمنزلة كارثة. وهذا لن يعزّز صفوف تنظيم "داعش" بالمتطرّفين العنيفين فحسب، بل سيزيد تفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا والعراق. ولكنّ هذا من شأنه أن يخدم كدعاية للجماعة. ففي كانون الثاني/يناير في العام 2022، خطّط "داعش" لاقتحام سجن في الحسكة بسوريا، واستمرّ القتال لمدّة 10 أيام، وأسفر عن إطلاق سراح عدّة مئات من مقاتلي التنظيم، واستدعى تدخلاً من القوّات الأميركية للمساعدة على صدّ الهجوم.

يُذكر أنّ تنظيم "داعش" حين ظهر في عامي 2012 و2013، اعتمد سياسة "تحرير" العناصر المتطرّفة من المعتقلات كحجر زاوية في استراتيجيته، وأطلق عليها اسم حملة "هدم الجدران" للسجون في مختلف أنحاء العراق.

لا تعدّ سوريا الجزء الوحيد من العالم الذي يشهد على عودة تنظيم "داعش". فقد توسع التنظيم بسرعة في مختلف أنحاء أفريقيا، وفي جنوب الصحراء الكبرى. وكذلك، عزّز سيطرته على الأراضي في أجزاء من منطقة الساحل الممتدّة حتّى حوض بحيرة تشاد.

ويظلّ تنظيم "داعش" في غرب أفريقيا وفي الصحراء الكبرى يشكّل تهديداً هائلاً، خاصّة في ظلّ عدم وجود قوّات أمنية مدعومة من الدولة أو إقليمية قادرة على كبح جماح هذه الجماعات.

وفي أماكن أخرى في القارة السمراء، شنت فروع تنظيم "داعش" في موزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية هجمات مؤخّراً، ويعمل فرع التنظيم في الصومال كعقدة لوجستية في الشبكة العالمية للمنظّمة، ويساعد على إدارة العمليات العامّة بين الأقاليم، ويشكّل العصب الذي يعتمد عليه التنظيم لتسهيل حركة الأموال والمقاتلين الأجانب من ذوي الخبرة العسكرية. كما لعب أعضاء رفيعو المستوى في فرع الصومال دوراً أساسياً في إعادة هيكلة قيادة المجموعة وتكتيكاتها واستراتيجياتها، حسب ما يقول الخبير المتخصّص في شؤون تنظيم "داعش" آرون زيلين.

التقييم الشامل للتهديد الذي يشكّله تنظيم "داعش" على الصعيد العالمي لن يكون مكتملاً من دون مناقشة نوايا  التنظيم وقدراته في ولاية خراسان، وهو فرع الجماعة في جنوب آسيا الذي يعمل في جميع أنحاء أفغانستان وباكستان. وفي الآونة الأخيرة، تحوّل اهتمام هذا الفرع للقيام بعمليّات خارجية. وفي عام 2024 فقط، شنّت الجماعة هجمات إرهابية معقّدة في داغستان وإيران وعُمان. كما سعت  إلى تنفيذ هجمات في أوروبا، على الرغم من إحباط هذه المؤامرات، بما في ذلك خطط معقّدة لاستهداف دورة الألعاب الأولمبية في باريس في تمّوز/ يوليو الفائت، وبعدها حفل تايلور سويفت في فيينا في الشهر التالي.

في مثال آخر مروّع على كيفية استمرار الدعاية التي يروّج لها تنظيم "داعش" في التأثير في المؤيّدين والمجنّدين في الغرب، قام أحد أفراد الجيش بقتل المشاة في نيو أورليانز في الساعات الأولى من صباح يوم رأس السنة الجديدة، مستخدماً شاحنة لدهس المشاة، ما أسفر عن مقتل 14 شخصاً وإصابة العشرات.

وتعكس هذه الحوادث مدى التطوّر الهائل الذي شهده تنظيم "داعش" في ولاية خراسان، من حيث توسيع قدراته كافة منذ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في العام 2021. ومن دون حملة قوية لمكافحة الإرهاب لإبقاء الجماعة فاقدة التوازن، فسوف تستمرّ في بسط نفوذها نحو أراض جديدة في الخارج، وبالتالي تنتج كمّيات أكبر من الدعاية وتحتفل بنجاحاتها، ما يشجّع أتباعها على ارتكاب أعمال إرهابية وعنف سياسي ضدّ أَعداء "داعش"، وخاصّة أولئك الموجودين في الغرب. وفي مقال نشر في يونيو/حزيران الماضي بعنوان "أضواء التحذير من الإرهاب تومض باللون الأحمر مرّة أخرى"، حذّرَ غراهام أليسون ومايكل جيه موريل من "نتيجة غير مريحة، ولكن لا مفرّ منها"، بأنّ الولايات المتّحدة قد تواجه تهديداً خطيراً بوقوع هجوم إرهابي في الأشهر المقبلة.

من المؤكّد أنّ إدارة ترامب ليست ساذجة فيما يتّصل بطبيعة التهديد. ففي مطلع الشهر الجاري، أمر ترامب طائرات حربية تابعة للبحرية بشنّ ضربات ضدّ أهداف تابعة لـ "داعش" في الصومال. ويرى البعض أنّ هذه الضربة والأخرى التي نفّذت ضد تنظيم "القاعدة" في سوريا تمهّد الطريق لانسحاب الجنود الأميركيين من هذه الدول. وفي تشرين الأول/ أكتوبر في العام 2019، وفي إثر مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، قرّر ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا.

من خلال القضاء على أهداف ذات قيمة عالية بضربات جوّية، ربّما تكون إدارة ترامب بصدد صياغة توجه بما يعرف بنهج "فوق الأفق" لمكافحة الإرهاب، أي الاعتماد على الضربات البعيدة المدى. لكن، هذا النهج وحده لا يكفي، وأنّ استراتيجية الولايات المتّحدة في التعامل مع الأزمات الدولية تعتمد بشكل مبالغ فيه على التكنولوجيا باعتبارها الحلّ السحري، وتتجاهل أهمّية تدريب القوّات المحلّية وبناء أسس شبكة استخبارات بشرية على الأرض. كما أنّ الانسحاب الأميركي من سوريا من شأنه أن يسلّم أنقرة مهمّة مكافحة تنظيم "داعش".

 ورغم أنّ الأتراك يمتلكون أحد أكثر الجيوش كفاءة في المنطقة، فإنّهم لا يستطيعون أن يتصوّروا أنّ بلادهم وحدها قادرة على إلحاق الهزيمة بتنظيم ""داعش". لقد كانت أولويّتهم، وستظلّ القتال ضدّ الكرد في شمال سوريا، مع أنّهم يحرسون السجون المليئة بمسلّحي التنظيم.

وسوف تستغل فروع تنظيم "داعش" الأسباب الجذرية للتطرّف العنيف، وهي المشكلات الناجمة عن الفقر وانعدام العدالة والمساءلة على نطاق واسع، وخاصّة في مناطق الصراع وبين اللاجئين والنازحين داخلياً. وفي حين قد ترى إدارة ترامب أنّ زيادة الإرهاب من غرب أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا هي مشكلة الآخرين، فإنّ فريق مكافحة الإرهاب الذي عيّنه الرئيس سيكون من الحكمة أن يذكّره بأنّ هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، كانت مأساة من هذا الطراز، حيث خطّطت مجموعة صغيرة من "الجهاديين" الذين كانوا يتمتّعون بملاذ آمن في دولة فاشلة يحكمها متطرّفون على الجانب الآخر من العالم من شنّ الهجوم القاتل. ولا شكّ، في أنّ تنظيم "داعش" يولي هذا التوجّهَ الآن قدراً كبيراً من الاهتمام.

وسيكون من الأفضل لإدارة ترامب أن تتجنّب إثارة المتطرّفين العنيفين بشكل غير ضروري، كما حدث مؤخّراً عندما تحدّث ترامب علناً عن تولّي الولايات المتّحدة "ملكية طويلة الأجل" لقطاع غزّة ونقل الفلسطينيين من وطنهم إلى مصر والأردن. ونظراً لحساسية هذه القضية في العالمين العربي والإسلامي، فمن المرجّح أن يستخدم تنظيم "داعش" هذا الأمر كوقود لإنتاجه المنتظم من الخطابات المعادية للولايات المتّحدة.

نقله إلى العربية: حسين قطايا