"فورين بوليسي": سوريا الجديدة تُدار مثل القديمة.. وهذا يهدد الشرع
إنّ القيادة الجديد في سوريا ما تزال غير قادرة على التفكير خارج نظام الحكم المركزي القديم الذي كان يفتقد إلى الشرعية.
-
الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع (الجولاني)
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يقدّم تحليلاً معمقاً لمسار الانتقال السياسي في سوريا بعد سقوط النظام السابق، ويستعرض الفرص والتحديات التي تواجه السلطات الجديدة بقيادة أحمد الشرع. ويحذّر كاتب المقال من أن استمرار العقلية القديمة للحكم، حتى بوجه جديد، قد يقوّض فرص سوريا في تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
يعتبر الانتقال إلى نظام حكم جديد في سوريا حالة فريدة في تاريخ البلاد والمنطقة. وفي محاولتها الحثيثة لتجنب الأخطاء التي وقعت فيها دول عربية أخرى في العقود الأخيرة، استطاعت السلطات الانتقالية الجديدة برئاسة أحمد الشرع أن تحقّق تقدّماً مثيراً للإعجاب في جهود الانتقال إلى بيئة سياسية مستقرّة. ولكن، مع كلّ محاولاتها لبناء شيء جديد، ما تزال القيادة غير قادرة على التفكير خارج نظام الحكم المركزي القديم الذي كان يفتقر إلى الشرعية.
أخطار هذا النهج أنّه يمكن أن يؤدّي مع التهديدات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي يواجهها السوريون بعد أكثر من عقد من الحرب، إلى فشل كامل لعملية الانتقال برمّتها.
من بين جميع التحولات السياسية الأخيرة في المنطقة، تعتبر سوريا الوحيدة التي تمكّنت فيها مجموعة مسلّحة محلّية واحدة من هزيمة النظام السابق، حين سيطرت "هيئة تحرير الشام"، الجماعة العسكرية الإسلامية السنّية بقيادة الشرع، على المدن الرئيسية في غرب سوريا في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وتمدّدت إلى أن سقط النظام في 8 كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، وحُلَّ حزب البعث الحاكم بعد ذلك.
ومع أنّ جميع بلدان المنطقة التي وقعت فيها تحولات، إمّا استُبدل النظام بآخر مشابه جدّاً، كما في مصر وتونس، أو ما يزال الصراع العنيف مستمرّاً حتّى اليوم مثل ليبيا والسودان واليمن. وهذا ما يترك سوريا هي الاستثناء الوحيد، ويبدو أنّ حكومة الشرع عازمة على عدم تكرار أخطاء الدول الأخرى، وبالتالي، توجّهت "هيئة تحرير الشام" وسعت لتكون شاملة وممثلة لمجموعات سوريا الدينية والعرقية المتنوعة من دون اعتماد نظام المحاصصة رسميّاً، متجنّبة نموذجي النظام في العراق ولبنان، بينما تواصل التقدّم بأقصى سرعة ممكنة على أمل تحقيق الاستقرار، على عكس ليبيا، حيث استمرّت عملية الانتقال نحو 14 عاماً، واليمن حيث استغرق الحوار الوطني عامين وسط أزمة اقتصادية مستمرّة، والسودان أيضاً فشل في عملية الانتقال، وفي إغاثة الشعب الذي يعاني تماماً.
ومع أنّ عملية الانتقال في سوريا ما تزال في شهرها الرابع فقط، استكملت البلاد بالفعل عملية الحوار الوطني. وقد وقعت "هيئة تحرير الشام" اتّفاقيات مع "قوات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الكرد والمدعومة من الولايات المتحدة والتي قاتلت النظام السابق، ومع "مجلس السويداء العسكري"، الذي يسيطر على المناطق ذات الغالبية الدرزية في جنوب البلاد.
هذه الترتيبات تظهر أنّ "هيئة تحرير الشام" أكثر مرونة، ممّا ظهرت عليه المجموعة في البداية. كذلك شكل الشرع حكومة تكنوقراطية، وهو أمر مختلف عن الدول في المنطقة خلال الفترة الانتقالية. والأهمّ من ذلك، أنه في الشهر الماضي، أصدر الشرع إعلاناً دستورياً مؤقتاً، يمكن تعديله بمرسوم في أيّ وقت.
حقيقة أنّ "هيئة تحرير الشام" تمكّنت من إكمال جميع هذه الخطوات في فترة زمنية قصيرة أمر مثير للإعجاب، لكنّ، العديد من هذه الخطوات يتّجه نحو تركيز السلطة الرئاسية بشكل كبير، وهو ما كان له سجل سيئ في سوريا والمنطقة عموماً. والأكثر من ذلك، أنّ الإعلان الدستوري وضع سلطة هائلة بين يدي الشرع وهو لم يُنتخَب، ولا يمكن إقالته من منصبه، ولا أيّ من خلفائه المحتملين، ما لم يظهر دستور معدّل بشكل كبير خلال عملية الانتقال.
وفي الإعلان الدستوري أيضاً، يعين الرئيس ثلث أعضاء مجلس النواب، وكلّ أعضاء المحكمة الدستورية. ولديه السيطرة الكاملة على تشكيل الحكومة. ويمكنه إعلان حالة الطوارئ بحسب مشيئته. مع ذلك، يجادل العديد من المدافعين عن الإعلان الدستوري بأنّه لا يمنح الشرع من القوة ما منحه الدستور البعثي لعام 2012 لآل الأسد. قد يكون هذا صحيحاً، لكنّ الفارق ليس كبيراً جدّاً.
الخلاصة هي أنّ المرحلة الانتقالية في سوريا ومستقبلها أصبحا الآن مرتبطين بوثاقة بقدرة شخص واحد على الحكم بفعالية والتزامه بحسن النيات. وإذا قرّر الشرع تركيز المزيد من السلطات في يديه أو التراجع عن التزاماته بالتنوّع، فليس هناك ما يمكن فعله لإيقافه إن وجد، إلّا القليل جدّاً. ولن تغير الحكومة التكنوقراطية التي شُكّلت في الشهر الماضي هذا الوضع، نظراً لقدرة الشرع على إقالة الوزراء متى يشاء. كما أنّ المحاكم لن تتمكّن من السيطرة عليه، والقضاء السوري مؤسّسة ضعيفة، وللرئيس المؤقّت سيطرة كاملة على أهمّ هيئاته الهيكلية وهي المحكمة الدستورية.
كلّ هذا يجعل الانتقال في سوريا شديد الهشاشة، والإخفاق يتمحور حول عدم قدرة السلطات المؤقّتة حتّى الآن، على التفكير بشكل إبداعي حول نماذج الحكم المستقبلية، كما هم نظراؤهم في الدول المجاورة، حيث نهجهم في الحكم هو إمّا العبث بالنظام القائم أو القيام بعكس ما تمّ فعله في الماضي.
إنّ عدم القدرة على تطوير بدائل لهذا النهج الشامل يعني أنّه، على الرغم من الحرب التي استمرّت 14 عاماً ضدّ النظام السابق، فإنّ الحكّام الجدد في سوريا قد اعتمدوا أساساً النظام نفسه مع اختلافات طفيفة فقط.
يجب على السلطات الانتقالية في سوريا أن لا تسعى لإعادة إنشاء نموذج معطّل وفاقد للمصداقية يعتمد على فكرة أنّ كلّ ما تحتاجه لكي تعمل بشكل صحيح هو قائد أكثر تسامحاً. تستحقّ البلاد قفزة في تفكيرها تسمح بتبنّي نموذج دستوري جديد يتناسب مع تعقيدات سوريا، ويعالج تحدياتها العديدة، ويحافظ على وحدتها.
لا توجد نماذج قائمة يمكن لسوريا ببساطة نسخها، لكنّ، العديد من البلدان حول العالم، ولا سيّما في أميركا اللاتينية وأفريقيا، قد جرّبت نماذج حكم جديدة تعكس تعقيد مجتمعاتها. كما أنّ التغييرات الدستورية المبتكرة في البرازيل وكينيا وجنوب أفريقيا والعديد من البلدان الأخرى يجب أن تشكّل مصدر إلهام لما يمكن تحقيقه في سوريا.
كي تستطيع سوريا تطوير نموذج حكم يناسب سياقها الخاص عبر عملية دستورية ناجحة، يجب أن تشرك فئات جديدة، على وجه الخصوص الاستعانة بجيل الشباب من المثقّفين والقانونيين وغيرهم من القادرين على التفكير خارج النماذج الحالية للحكم، الذي لم تنجح فيه أيضاً جميع العمليات الدستورية العربية حتّى الآن. ويمكن للسلطات المؤقّتة أن تسعى وينبغي لها أن تفعل، وتسارع إلى استقطاب سياسيين ومهنيين ومستشارين، كما يجب على الشرع أن يجمع فريقاً دستورياً قادراً على تصميم نظام حكم يستند إلى الاحتياجات الحقيقية والتعلّم من تجارب الدول الأخرى.
كما يجب أن يستمرّ النقاش الدستوري على أساس المساواة بين المجموعات كلّها، وتجنّب هيمنة مجموعة معينة، مّا يؤدّي بالآخرين إلى الوقوف ضدّ الحوار. كما يمكن أن تسهم هيمنة مجموعة واحدة على العملية حتى في زيادة العنف، كما كانت الحال في مصر والعراق واليمن وأماكن أخرى.
أخيراً، نظراً للطبيعة الديناميكية لانتقال سوريا، سيكون من الخطأ تبنّي نهج الضربة الكبرى، أي الحفاظ على النظام القائم، حتّى تكتمل العملية الدستورية بعد سنوات عديدة. فالإطار المؤقّت الحالي اعتمد بموجب مرسوم، وبالتالي يمكن تعديله في أيّ وقت وهذه ميزة، ينبغي أن تشجّع واضعي الدستور والمسؤولين على صياغة اتّفاقيات جزئية يمكن اختبارها عمليا، وفي حال نجاحه يمكن تحسينها والبناء عليها.
قد تحقق القيادة الجديدة في سوريا مكاسب ملحوظة في دفع عملية الانتقال إلى الأمام، لكنّها لا تزال تواجه تحدّيات غير مسبوقة قد تعرقل هذه العملية في أيّ لحظة. إذا كانت القيادة تأمل تحقيق النجاح على المدى الطويل، فيجب أن تكون أكثر جرأة في جهودها لمعالجة تلك التحدّيات. وإلّا، فإنّ سوريا تخاطر بالعودة إلى عدم الاستقرار والصراعات التي عانتها المنطقة لعقود.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.