"فورين أفيرز": مغالطة اتفاقيات "أبراهام"

لماذا التطبيع بدون الفلسطينيين لن يجلب الاستقرار إلى الشرق الأوسط؟

  • إعلان تطبيع العلاقات بين البحرين والإمارات و
    إعلان تطبيع العلاقات بين البحرين والإمارات و"إسرائيل" بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب

صحيفة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب والباحث خالد الجندي، تحدث فيه عن مغالطة اتفاقيات "أبراهام"، ويقول إنّه تم بناؤها على أساس تجاهل القضية الفلسطينية، لكن بعد 7 أكتوبر، تبيّن أنّ هذا الاعتقاد خاطئ بشكل كبير.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

كانت جهود الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتعزيز إرثه في الشرق الأوسط جارية على قدم وساق حتى قبل استعادته البيت الأبيض. قال جيسون غرينبلات، مبعوث ترامب السابق إلى الشرق الأوسط، لآلاف المندوبين الدوليين في منتدى الدوحة في قطر في كانون الأول/ديسمبر، إنّه "لا توجد طريقة تجعل الرئيس ترامب غير مهتم بمحاولة توسيع اتفاقيات إبراهام".

الواقع أن بايدن لم يكتف باحتضان اتفاقيات إبراهام بكل إخلاص، بل سعى إلى البناء عليها من خلال تأمين صفقة تاريخية مع السعودية، الدولة العربية الأكثر قوة ونفوذاً. وكان عرض بايدن أن يحصل السعوديون في مقابل التطبيع مع "إسرائيل"،  على ترقية رئيسية في الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.

بيد أنّ هذا النهج في صنع السلام العربي- الإسرائيلي مشروط بتجاهل القضية الفلسطينية. فحتى عام 2020، كان إجماع  الدول العربية على أنّ التطبيع مع "إسرائيل" لن يأتي إلا بعد إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. وبالتالي، فإن قرار البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة بالانشقاق حرم الفلسطينيين فعلياً من مصدر مهم للنفوذ ضد "إسرائيل". ومنذ ذلك الحين، أدّى هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على "إسرائيل"، والحرب المدمرة التي شنتها "إسرائيل" على غزة، إلى إخراج النهج السعودي- الإسرائيلي عن مساره بشكل فعّال، في تذكير صريح بأنّ القضية الفلسطينية لا يمكن تجاهلها أو إخضاعها للتطبيع العربي- الإسرائيلي.

وعلى الرغم من هذه العقبات، يحرص ترامب على إنهاء المهمة التي بدأها في ولايته الأولى، والتي واصل بايدن تنفيذها، من خلال إبرام صفقة ضخمة بين الولايات المتحدة والسعودية و"إسرائيل" في العودة إلى الرؤية الأصلية لاتفاقيات إبراهام، والتي تنطوي على ترقية "إسرائيل" وتخفيض مكانة الفلسطينيين. وتشير كل الدلائل إلى أنّ ترامب لا يزال يعتقد أن اندماج "إسرائيل" في المنطقة أكثر أهمية بالنسبة إلى القادة العرب من القضية الفلسطينية. ووفقاً لغرينبلات، فمن الخطأ "الاعتقاد بأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني هو كل شيء ونهاية المطاف، وإذا تم حل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، فسيكون كل شيء رائعاً في الشرق الأوسط".

ولكن منتقدي اتفاقيات إبراهام لم يزعموا قط أنّ حل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من شأنه أن ينهي جميع النزاعات الأخرى في المنطقة، بل زعموا العكس: أنّ السلام والأمن الإقليميين غير ممكنين من دون حل للقضية الفلسطينية. والواقع أنّ الفرضية المركزية لاتفاقيات أبراهام أنّ السلام والاستقرار الإقليميين يمكن أن يتحققا مع تهميش الفلسطينيين، قد انقلبت تماماً بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر، وكل ما حدث منذ ذلك الحين.

ويؤكد اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ هذا الأسبوع على مركزية الفلسطينيين في الأمن والاستقرار الإقليميين، ولكنه يخلق أيضاً مساحة دبلوماسية محتملة لتجديد المشاركة السعودية- الإسرائيلية تحت قيادة ترامب. وتمثل اتفاقيات أبراهام نقطة استمرارية كاشفة بين ترامب وبايدن. وقد تختلف أسبابهما وتكتيكاتهما، لكن كلا الرئيسين روجا لوهم خطير مفاده أنّ السلام والاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط الأوسع نطاقاً يمكن أن يتعايش مع الحرب والفوضى والتشريد في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

السلام على الورق
على الرغم من الإشادة باتفاقات أبراهام باعتبارها انتصاراً دبلوماسياً، فإنها كانت مبنية على عدد من الافتراضات الخاطئة. والواقع أنّ قدراً كبيراً من الإثارة المحيطة بصفقات التطبيع في عام 2020 لم يكن له علاقة بقيمتها الجوهرية بقدر ما كان له علاقة بالحاجة شبه التلقائية، وخاصة في واشنطن وغيرها من العواصم الغربية، إلى التجمع حول شيء كان من الواضح أنه في مصلحة "إسرائيل"، بغض النظر عن توافقه الفعلي مع أهداف السياسة الأميركية، مثل حل الدولتين أو الاستقرار الإقليمي. إنّ هذا الميل إلى خلط "الجيّد لإسرائيل" مع "الجيّد للسلام" هو في الواقع سمة قياسية للعملية الدبلوماسية التي تقودها الولايات المتحدة، وسبب رئيسي لفشلها على مدى العقود العديدة الماضية.

ورغم أنّ كثيرين حاولوا أن يحشروا الوتد المربع للتطبيع في الثقب الدائري المتمثل في حل الدولتين، فإنّ الحقيقة تظل أنّ اتفاقيات أبراهام كانت في الأصل مصممة كوسيلة لتجاوز القضية الفلسطينية وقمع الوكالة الفلسطينية على أمل ألا يكون أمام الفلسطينيين خيار سوى قبول أي ترتيب طويل الأجل تفرضه عليهم الولايات المتحدة و"إسرائيل" والمنطقة. والواقع أنّ اتفاقيات أبراهام كانت في حد ذاتها واحدة من الاتجاهات العديدة التي تعمل ضد حل الدولتين، وهي علامة على أنّ بعض الدول العربية قد مضت قدماً، ولم تعد راغبة في إخضاع مصالحها الثنائية أو الجيوسياسية تجاه "إسرائيل" وفقاً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

وعلاوة على ذلك، أزالت اتفاقيات أبراهام أحد المصادر القليلة للنفوذ الذي كان يتمتع به الفلسطينيون في صراعهم غير المتكافئ بالفعل مع "إسرائيل": الضغط من الدول العربية المجاورة التي لا تزال جماهيرها متعاطفة بشكل كبير مع القضية الفلسطينية. وبذلك، أزالت أيضاً بعض الحوافز المتبقية الأخيرة التي كانت لدى "إسرائيل" لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية أو الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. لقد ترك غياب القيود المفروضة على "إسرائيل" الفلسطينيين أكثر عرضة لأهواء الاحتلال الإسرائيلي المتزايد العنف والتطرف، والذي شهد توسعاً استيطانياً غير مسبوق، وعنف المستوطنين، وقمع "الجيش" الإسرائيلي للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، فضلاً عن المزيد من الحروب الروتينية في غزة في عامي 2021 و2022. وقد تفاقمت هذه القضايا في عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي كانت عودته في أواخر عام 2022 بمنزلة وصول الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ "إسرائيل".

وفي الوقت نفسه، لم تتحقق أبداً الادعاءات بأنّ الدول العربية يمكن أن تستفيد من علاقاتها الناشئة مع "إسرائيل" لتعزيز قضية الفلسطينيين أو قضية حل الدولتين. ولم تسعَ البحرين أو المغرب أو الإمارات العربية المتحدة إلى التدخل لمنع "إسرائيل" هدم المنازل أو إخلاء الفلسطينيين من منازلهم في القدس الشرقية، أو لمعالجة التوسع الاستيطاني غير المسبوق وعنف المستوطنين في جميع أنحاء الضفة الغربية. ولم تستخدم نفوذها المفترض للتدخل في ما يتعلق بالهجوم الإسرائيلي على غزة، وهو الهجوم الذي أسفر بالفعل عن مقتل أكثر من 47 ألف فلسطيني وتدمير معظم بنيتها التحتية المدنية. من ناحية أخرى، أبدى المسؤولون الإماراتيون القليل من التحفظ بشأن التعامل مع المستوطنين الإسرائيليين أو الاستثمار في البنية التحتية للاحتلال مثل نقاط التفتيش الإسرائيلية. وفي حين بذل بايدن والديمقراطيون في الكونغرس جهداً كبيراً لتجاهل هذه التناقضات، فإن ترامب وزملاءه الجمهوريين، الذين تخلى معظمهم بالفعل حتى عن التظاهر بدعم حل الدولتين، يمكنهم ببساطة تجاهل هذه التناقضات تماماً.

أعمال غير مكتملة
ومع ذلك، حتى مع الانفتاح الطفيف الذي أتاحه وقف إطلاق النار، فإنّ إشراك السعوديين في اتفاقيات أبراهام سيظل معركة شاقة لإدارة ترامب. وإذا كانت احتمالات التوصل إلى اتفاق سعودي- إسرائيلي تبدو بعيدة قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإنّ البيئة اليوم أقل ترحيباً إلى حد كبير. فقد ألهبت المشاهد المروعة للموت والدمار والمجاعة القادمة من غزة على مدى الأشهر الخمسة عشر الماضية الرأي العام في مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي ومزقت مصداقية "إسرائيل" والولايات المتحدة في مختلف أنحاء الجنوب العالمي. كما بدأ بعض الحلفاء الغربيين التقليديين في الشمال العالمي، مثل أيرلندا والنرويج وإسبانيا، في إبعاد أنفسهم عن "إسرائيل". وحتى الإمارات العربية المتحدة، التي كانت ذات يوم رمزاً للتطبيع العربي- الإسرائيلي، اضطرت إلى التقليل من شأن علاقاتها بـ "إسرائيل"؛ فلم تعد الشركات الإماراتية تتفاخر بعلاقاتها مع "إسرائيل"، كما بردت العلاقة الدافئة التي كانت تربط قادة الإمارات بنتنياهو. وبعبارة أخرى، ربما لم تنجح حرب غزة في تمزيق اتفاقيات أبراهام ولكنها جمّدتها فعلياً.

بالنسبة إلى السعوديين، ارتفع ثمن التطبيع مع "إسرائيل" بشكل كبير منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول والهجوم الذي أعقبه على غزة. ففي حين سعى الزعيم الفعلي للبلاد، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في السابق إلى الحصول على التزام خطابي فقط من "إسرائيل" تجاه الدولة الفلسطينية، تطالب الرياض الآن بخطوات ملموسة نحو إقامة الدولة. وبعد أن يئسوا من الوساطة الأميركية، تعاون السعوديون مع فرنسا لإطلاق مبادرة جديدة تهدف إلى إنقاذ ما قد يكون متبقياً من حل الدولتين. وفي كل الأحوال، سيكون من الصعب على ابن سلمان، الذي لا يُعرف بعاطفيته تجاه فلسطين، أن يطبع العلاقات مع دولة اتهمها هو وحكومته بارتكاب "إبادة جماعية" و"تطهير عرقي". وتشكل لائحة الاتهام التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عائقاً آخر أمام الرياض. ولعل أفضل تعبير عن موقف المملكة العربية السعودية الحالي هو البيان الذي تبنته القمة العربية الإسلامية التي عقدت في الرياض الشهر الماضي، والذي لم يكرر تهمة الإبادة الجماعية فحسب، بل دعا أيضاً إلى طرد "إسرائيل" من الأمم المتحدة، وهذا هو بالضبط عكس التطبيع.

وعلاوة على ذلك، مع ارتفاع تكاليف المشاركة الإقليمية مع "إسرائيل"، انخفضت العائدات المتوقعة فقط. والشيء الوحيد الذي يقدره القادة السعوديون وغيرهم من قادة الخليج فوق كل شيء هو الاستقرار. لكن الأشهر الخمسة عشر الماضية - التي شهدت إبادة إسرائيل لغزة، وحربًا واسعة النطاق مع لبنان واحتلاله، وضربات متبادلة مع إيران، وغزو واستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد - كانت بعيدة كل البعد عن الاستقرار. إذا كان وعد اتفاقيات إبراهيم هو السلام والاستقرار، فإن واقع ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد لنتنياهو كان إراقة دماء لا نهاية لها وعدم استقرار. ما يُعرض اليوم ليس رؤية تنطوي على التكامل السلمي لإسرائيل في المنطقة بل رؤية تستند إلى هيمنة إسرائيل العنيفة عليها.

لم تجلب اتفاقيات أبراهام السلام والأمن إلى الشرق الأوسط فحسب، بل ساعدت في الواقع في إنتاج العكس من خلال تشجيع وترسيخ التطرف الإسرائيلي، وضمان إفلات "إسرائيل" من العقاب. كان الاعتقاد بأنّ التطبيع العربي الإسرائيلي قد يتم على حساب الفلسطينيين اعتقاداً مضللاً وخطيراً في أسوأ الأحوال، كما توضح الأحداث الأخيرة بوضوح. لقد استغرق الأمر ما يقرب من ثلاث سنوات وأكثر أعمال عنف دموية في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حتى تتقبل إدارة بايدن هذا الواقع أخيراً؛ ومن الأفضل لإدارة ترامب أن تتعلم الدرس نفسه.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.