"ذا تلغراف": أطفال السودان تحوّلوا جلداً وعظاماً بسبب المجاعة المنسية
كلّ كِسرة خبز تُعدّ مهمة بالنسبة لملايين الأشخاص الذين يعيشون على حافة المجاعة في السودان.
-
"ذا تلغراف": أطفال السودان تحوّلوا جلداً وعظاماً بسبب المجاعة المنسية
مجلة "ذا تلغراف" البريطانية تنشر تقريراً تتحدّث فيه عن المجاعة في السودان، التي تفتك بحياة السودانيين وخاصة الأطفال منهم.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية بتصرف:
الجوع الحقيقي يجعل الناس يائسين. على مدرج ترابي في جبال النوبة بالسودان، تغربل النساء الرمال بحثاً عن بقايا الحبوب. ففي وقت سابق، أُلقيت مئات الأكياس المحشوة بالذرة والفاصوليا والملح من باب الشحن الخاص بطائرة نقل عسكرية سابقة تحلّق على ارتفاع منخفض، وانشقّ بعضها عندما ارتطمت بالأرض. تُعدّ عمليات الإنزال الجوي هذه بمثابة شريان حياة رفيع في منطقة وعرة وقاسية سبق أن أُعلن فيها تفشّي المجاعة. إلّا أنها لا تكفي لتلبية احتياجات سكانها الأصليين ومئات الآلاف من النازحين من المناطق المحيطة بسبب الحرب الأهلية في البلاد.
وقد حصلت صحيفة "التلغراف" على فرصة نادرة لزيارة جبال النوبة، وهي منطقة نائية في السودان تسيطر عليها جماعة متمرّدة من السكان الأصليين تعرف باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال (SPLM-N)، ويعيش فيها حالياً نحو 4 ملايين شخص يحاصرهم الجوع من كلّ مكان. وتقول منى عبد الله، التي فرّت من الحرب بحثاً عن الأمان النسبي في المنطقة والتي تقوم بجمع الحبوب التي وقعت من الأكياس: "نكنس طوال اليوم بهذه الأعواد تحت الشمس"، في حين يقول السكان المحليون إنّ الأسوأ لم يأتِ بعد.
خلال الأسبوع المقبل، ستتوقّف عمليات الإنزال الجوي، التي لم يكن الهدف منها أن تكون حلاً دائماً، ما يجعل الناس معتمدين على ما يمكن تأمينه من طعام بالشاحنات. وفي شهر أيار/مايو، ستؤدي الأمطار الموسمية إلى جعل الطرق الترابية غير صالحة للعبور، ما يؤدّي إلى عزلها عن العالم الخارجي تماماً.
تنتشر نحو 50 امرأة على طول المدرج، يقمن بالتنظيف وغربلة الرمال بحثاً عن الطعام. أصغرهن تبلغ من العمر 15 عاماً فقط. ومع ذلك، فإنّ الوظيفة تعتبر امتيازاً يمكن أن يعني الفرق بين تناول الطعام أو عدمه. وتقول إحدى المتطوّعات المحليات: "إن معيار العمل هنا هو الضعف، فهؤلاء النساء هنّ المعيلات الوحيدات لأسرهنّ".
-
نساء سودانيات يغربلن الرمال بحثاً عن بقايا الحبوب
تدور رحى الحرب الأهلية في السودان منذ نيسان/أبريل 2023، عندما اندلعت أعمال العنف بين رئيس الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان ونائبه السابق محمد حمدان، القائد العسكري المعروف باسم حميدتي، الذي يقود المجموعة شبه العسكرية لقوات الدعم السريع. ومع تدفّق الأموال والأسلحة إلى كلا الجانبين من قبل القوى المختلفة، تفجّرت أعمال العنف وقُتل نحو 150 ألف شخص وفرّ 12 مليون شخص من منازلهم في ما وصفته الأمم المتحدة بـ "أسوأ أزمة إنسانية في العالم".
وفي كانون الثاني/يناير، اتهمت الولايات المتحدة قوات الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية، لكن وفق الخبراء، فإنّ الجوع هو الذي يوشك اليوم على التسبّب في موت العدد الأكبر من الضحايا، حيث يواجه 638 ألف شخص "خطر المجاعة الوشيك".
وفي منطقة النوبة، تتكشّف الأدلة على سوء التغذية الحادّ في كلّ مكان، ولا سيما لدى الأطفال. صلاح، الطفل البالغ من العمر عامين، يرقد في منشأة تقع غرب المنطقة وتبرز ترقوته وعظام وجنتيه وجلده متعلّق في ثنايا أطرافه الرفيعة. ويشكّ الأطباء في أنّ حالته تتفاقم بسبب مرض السل، وهو مرض يجعلك سوء التغذية أكثر عرضة له وغير قادر على مكافحته.
ويقول الدكتور الأمين عثمان، المدير الطبي لمستشفى "توجور" في مقاطعة دلامي الواقعة على الأطراف الغربية لجبال النوبة، إنّ كلّ طفل تقريباً يراه يعاني من سوء التغذية الحادّ. وفي حديثه إلى صحيفة "التلغراف"، قال: "معظم الأطفال يأتون في مراحل متأخّرة تترافق مع قيء وإسهال، ولا تتوافر الكثير من المساعدة المتخصصة. ولم يتمّ تنفيذ برامج سوء التغذية لدى الأطفال منذ وقت طويل".
وتشتدّ حدّة المجاعة في مخيم "حجر الجواد" في جبال النوبة الغربية، حيث يعيش نحو 2800 شخص في أكواخ من القش تعرف باسم "التوكول" التي تملأ المكان وتُعدّ الوسيلة الوحيدة للاحتماء من أشعة الشمس الحارقة. لم يكن هناك أطفال يلعبون، فالعائلات احتشدت في الظل وكانت تفتقر إلى الطاقة اللازمة حتى لطرد الذباب. وكانت تتغذى ببعض الأعشاب المسلوقة لإسكات جوعها. معظم البالغين في هذا المخيم هم من النساء، فقد قُتل الكثير من الرجال وتمّ استهدافهم عمداً من قبل القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على حدّ سواء في محاولة لإضعاف جيش المتمرّدين المحلي.
وقالت هالة فادولاما، وهي امرأة تبلغ من العمر 35 عاماً وحامل في شهرها التاسع لكن بطنها لا يكاد يكون بحجم كرة قدم صغيرة: أشعر بالضعف الشديد"، مضيفةً أنّ أطفالها الأربعة الآخرين يضطرون إلى القيام برحلة يومية مدتها 3 ساعات ذهاباً وإياباً لجلب المياه لها. وأشار أرنو نغوتولو لودي، السكرتير الأول للإدارة المدنية في المنطقة، إلى أنّ الجوع يتسبّب بآثار نفسية قاسية على الناس في المخيم، وقال: "يفكّر الناس في الطعام الحقيقي، إلا أنّهم يأكلون اليوم أوراق الشجر. إنه أمر صعب للغاية". وقد أشارت بعض التقارير إلى وفاة أطفال صغار بعد تناولهم عن طريق الخطأ أعشاباً برية سامّة لسدّ رمقهم.
من جهته، قال جيسمالا ديغوجو، نائب رئيس المخيم، وهو يشير إلى نحو 15 طفلاً هزيلاً، لا تتعدّى أعمارهم الـ5 سنوات، مستلقين على حصيرة من القشّ، وهم أضعف من أن يتحرّكوا: "هؤلاء هم الأطفال الأكثر معاناة من سوء التغذية". وتحفر الدموع مسارات عبر الغبار الذي يغطي وجوههم ورؤوسهم التي تبدو أكبر من حجم أجسادهم، وهذه علامة على الضرر الناجم عن سوء التغذية. وقد نبت لدى بعضهم خصلات هشّة من الشعر المحمر، وتبرز بطونهم الشبيهة بالكرة من تحت ملابسهم المتسخة، وهذه هي أعراض مرض "كواشيوركور"، حيث يؤدي نقص البروتين إلى احتباس السوائل وتضخّم بطونهم.
-
وجوه ورؤوس الأطفال تبدو أكبر من حجم أجسادهم وهذه علامة على الضرر الناجم عن سوء التغذية
وقال السيد ديغوجو إنهم تلقّوا وعوداً كثيرة بشأن تأمين الطعام، لكنهم لم يتلقّوا أيّ شيء، وإنّ آخر عملية توزيع للمساعدات كانت عبارة عن علبتين من الذرة لكلّ أسرة وكان ذلك في أيلول/سبتمبر. "لم يبقَ لنا سوى التضرّع إلى الله".
هناك الكثير من العوامل التي تؤدّي دوراً في المجاعة الحاصلة في السودان، منها قلّة المحاصيل والتعطيل الواسع النطاق للزراعة وتوصيل المساعدات وتفشّي الجراد، وكلّها عوامل أضرّت بالإمدادات الغذائية بشدّة.
هذا ولا يتمّ الإعلان عن المجاعات مثل تلك التي تشهدها جبال النوبة إلا في ظروف استثنائية، وقد حدثت 4 مرات فقط في هذا القرن. ولكي يتمّ تصنيف أزمة الجوع على أنها مجاعة، يجب أن يموت شخصان على الأقل من كلّ 10 آلاف شخص بسبب المجاعة المباشرة أو التفاعل بين سوء التغذية والمرض، وفقاً للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، وهو جهاز رصد عالمي للجوع تدعمه الأمم المتحدة ويصنّف المناطق التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي الحادّ وفق مقياس من خمسة مستويات.
وبحسب التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، فإن المجاعة "هي المظهر الأكثر تطرّفاً للمعاناة الإنسانية [...] فهي ليست مجرّد نقص في الغذاء بل انهيار عميق في الصحة وسبل العيش والهياكل الاجتماعية يترك مجتمعات بأكملها في حالة من الإحباط واليأس". وتكمن الخطوة الأولى نحو معالجة هذه الأزمة الحادّة في تقبّل الحكومة المُضيفة هذا الإعلان. ومع ذلك، قد تكون الحكومات متردّدة في القيام بذلك؛ فقبول الإعلان هو اعتراف بالفشل، وهذا هو الحال في السودان حتى الآن.
وفي كانون الأول/ديسمبر، أكدت لجنة مراجعة المجاعة التابعة للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أنّ جبال النوبة الغربية كانت أحدث منطقة تدخل في "أزمة مجاعة متفاقمة" في السودان. وأشارت إلى وجود مخيمين آخرين للنازحين في الفاشر، عاصمة شمال دارفور المحاصرة، يواجهان السيناريو نفسه. كما وجدت أنّ المجاعة، التي تمّ رصدها للمرّة الأولى في آب/أغسطس، لا تزال مستمرة في مخيم "زمزم" بشمال دارفور.
ووفقاً للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، يواجه ما لا يقلّ عن 638 ألف شخص حالياً في السودان أعلى فئة من انعدام الأمن الغذائي. ويواجه 24.6 مليون شخص، أي نحو نصف السكان، انعدام الأمن الغذائي الحادّ منذ كانون الأول/ديسمبر 2024 ويُتوقّع أن يستمرّ حتى أيار/مايو 2025.
ويعدّ بُعد المنطقة أحد أكبر التحدّيات التي تواجه جهود الإغاثة. وفي محاولة لتفادي حدوث مجاعة أكثر حدّة، تسعى جماعات الإغاثة جاهدة لإيصال الغذاء إلى المنطقة قبل هطول الأمطار. وقد مُنحت إحدى المنظّمات غير الحكومية الدولية الإذن بإرسال المواد الغذائية إلى منطقة الجبل الغربي عن طريق البر، إلا أنّ هذا لا يمثّل سوى قدر ضئيل مقارنة بما تحتاجه المنطقة. وقال يوهانس بليت، الرئيس التنفيذي لوحدة تنسيق جنوب كردفان (SKCU)، التي تنظّم المساعدات في النوبة، إنّ الوقت هو العامل الأكثر أهمية في الوقت الحالي، مضيفاً أنه يتوقّع وصول ذروة المجاعة خلال الشهرين المقبلين.
بالإضافة إلى ذلك، يشكّل تعليق المساعدات الأميركية تهديداً لجهود الإغاثة. وفي هذا الإطار، قال بليت: لا يسعنا إلا أن نأمل في أن تتدخّل الدول الأخرى لتقديم المساعدة المطلوبة بشكل عاجل لسكان جبال النوبة والمناطق المتضررة الأخرى في السودان". ولا يُظهر الصراع بين الحكومة وقوات الدعم السريع أيّ علامات على التراجع. فقد استعادت القوات المسلحة السودانية زخمها في الصراع وتدّعي أنها على وشك استعادة العاصمة الخرطوم، إلا أنّ نهاية هذه الحرب ليس لها أفق. في المقابل، عرقلت روسيا، التي تتوق إلى إنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر بالقرب من مدينة بورتسودان التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية، مشروع قرار مجلس الأمن الأخير الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار.
ويدفع القتال الدائر في شمال البلاد المزيد من الناس إلى ترك منازلهم ويزيد من وتيرة النزوح داخلياً نحو جبال النوبة. كما أنّ العنف المتزايد يدفع الناس إلى ترك منازلهم داخل المنطقة نفسها؛ فقد اندلعت اشتباكات عنيفة في مدينة كادوقلي جنوبي كردفان الأسبوع الماضي، ما أسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن 80 مدنياً وإصابة العشرات، وفقاً للأمم المتحدة.
وبالعودة إلى مخيم "حجر الجواد" في الجبل الغربي، الذي لا يزال يعاني من الهجمات على مستودعات المساعدات التابعة له، يستعدّ المسؤولون لإجلاء سكانه إلى مدينة كولندي، على بعد نحو 200 كيلومتر. وقال ديغوجو، نائب رئيس المخيم: "في العام الماضي، توفي 9 أشخاص بسبب الجوع". وفي هذا العام، يُخشى أن يصل العدد إلى عدة آلاف.
نقلته إلى العربية: زينب منعم