"الغارديان": هل نشهد موت القانون الدولي؟

يفقد عدد متزايد من الباحثين والمحامين ثقتهم بالنظام الحالي، في حين يقول آخرون إنّ القانون ليس المسؤول، بل الدول التي يُفترض أن تُحافظ عليه.

  • رسم توضيحي يشير إلى خرق الحروب للقانون الدولي (المصدر: فورين أفيرز)
    رسم توضيحي يشير إلى خرق الحروب للقانون الدولي (المصدر: فورين أفيرز)

صحيفة "الغارديان" البريطانية  تقريراً يتناول أزمة تراجع فعالية القانون الدولي. ومن خلال أمثلة متعددة كأزمة كشمير، والقضية الفلسطينية، والحرب على غزّة، يُبرز النص كيف أصبحت المؤسسات القانونية الدولية، كمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، عاجزة عن فرض أحكامها أو تحقيق العدالة، ولا سيما في وجه القوى الكبرى التي ترفض الخضوع لها.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في أواخر نيسان/أبريل، قتل إرهابيون 26 مدنياً في بلدة باهالغام الهندية، الواقعة في منطقة كشمير الحدودية الجبلية. فسارعت الهند إلى تحميل باكستان مسؤولية الهجوم، وشنت ضربات صاروخية باتجاهها، وأعلنت تعليق معاهدة مياه نهر السند؛ ما يهدد فعلياً بقطع ثلاثة أرباع إمدادات المياه عن باكستان.

وكان أحمد عرفان أسلم، المحامي الدولي المخضرم الذي كان حتى العام الماضي وزيراً للقانون والعدل والمياه والموارد الطبيعية وتغير المناخ والاستثمارات في باكستان، يتابع الأخبار بتوجّس. فقد أثارت الهند احتمالية قطع المياه عن 250 مليون شخص. وهذا انتهاك صارخ ليس للمعاهدة فحسب، بل للقوانين الدولية المتعلقة بالاستخدام العادل لموارد المياه أيضاً. فتوجه الزملاء والأصدقاء إلى أسلم طلباً للإرشاد بشأن ما يمكن فعله. وقال لي: "أدركتُ بشكل مخيف أنه لا يوجد الكثير مما يُمكن فعله اليوم. لقد شهدنا تآكلاً مفاجئاً للمؤسسات متعددة الأطراف وللمعايير المؤسسية. ويبدو كل شيء مبهماً". وحتى لو تقدمت باكستان بشكوى إلى إحدى المؤسسات التي أُنشئت لتسوية النزاعات بين الدول، مثل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة أو محكمة العدل الدولية أو المحكمة الدائمة للتحكيم، فإن القرار الذي ستسفر عنه هذه الشكوى لن يُحترَم على الأرجح. وأضاف أسلم: "لطالما اعتمد القانون الدولي على حُسن نية الدول القومية. إلا أن هذه النية الحسنة قد تبخرت".  

في عام 2024، واجه أسلم شعوراً مماثلاً بالقلق في لاهاي، حيث مثّل باكستان أمام محكمة العدل الدولية، في دعوى تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. وقال للمحكمة: "إنّ الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني، ولا بد أن يكون لعدم قانونيته عواقب". لقد شاركت 52 دولة في هذه الجلسات، وعندما تحدث أسلم مع عدد من زملائه، "كان هناك إدراكٌ قويٌّ بأن كل هذا لن يُغيّر شيئاً على أرض الواقع". ولعل الذي قالوه للقضاة يحمل أهمية للمؤرخين في المستقبل، إلا أنّ كلماتهم لن تُسهم في منع المعاناة المباشرة للفلسطينيين. وأضاف: "مهما كانت المحكمة التي تلجأ إليها، فلن تنال العدالة. والمدنيون عالقون في فخ هذه الشبكة الجيوسياسية التي ليست من صنع أيديهم". 

وعلى مدار العقد الماضي، تعرّضت المؤسسات الرئيسة الداعمة للنظام الدولي للضعف أو الشلل أو الاختراق. وقد ألحق الانسحاب الأميركي الأخير من مجموعة واسعة من المنظمات والاتفاقيات الدولية، بما في ذلك اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، المزيد من الضرر بهذا النظام. كما أدت العقوبات الأميركية المفروضة على  المحكمة الجنائية الدولية إلى تقويض مصداقية المحكمة وخلق عقبات مالية خطيرة أمام تحقيقاتها في جرائم الحرب الحاصلة في أوكرانيا وغزة. كما بقي مجلس الأمن الدولي في حالة جمود لأكثر من عقد، وذلك بسبب حق النقض الذي يتمتع به أعضاؤه الدائمون.

إضافة إلى ذلك، أدت تهديدات ترامب باحتلال غرينلاند وكندا والاستيلاء على قناة بنما إلى تقويض الصرح القانوني الدولي المتهالك أصلاً. وفي هذا السياق، قالت أونا هاثاواي، أستاذة القانون الدولي بجامعة ييل (Yale): "إن مجرد إثارة إمكانية وقوع هذه الأعمال غير القانونية بشكل واضح يضر بالقاعدة القانونية، لأنه يجعلها قابلة للتصور". وبعد أيام من قيام الولايات المتحدة باتباع "إسرائيل" في تنفيذ غارات جوية غير قانونية على مواقع نووية في إيران، أشارت هاثاواي إلى أن تصرفات ترامب تهدد "بإعادة تشكيل النظام القانوني العالمي، وتحويله من نظام يحكمه القانون إلى نظام تحكمه القوة".

لكن تآكل القانون الدولي بدأ قبل وقت طويل من تولي ترامب السلطة لأول مرة في عام 2017. فقد كانت أهميته موضع نقاش منذ اللحظة التي ظهر فيها قبل قرنين من الزمن تقريباً. ويقول أنصاره أنه حصن منيع ضد حربٍ كبرى أخرى، ومانع للجريمة والعنف الجماعي. في حين يرى منتقدوه أنه عمل على حماية الدول من خلال تزويدها بلغةٍ لتبرير أخطائها بدلاً من حماية العالم من أسوأ الجرائم. كما أنّ المحامين الدوليين منقسمون حول ما إذا كان نظامهم حياً وبخير، أو في حالة سبات أو احتضار، أو مات منذ زمن طويل وبات "شبحاً أخلاقياً" يحوم فوق خريطة العالم.

عند التجول في مدينة لاهاي، قد تشعر بأنها ليست مدينةً بل مجموعة من الرموز. فالسير في شوارعها يُعيدك مراراً إلى أنقاض محاولات سابقة لإرساء السلام العالمي. يقع المبنى الذي كان يضم سابقاً المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أمام المركز الدولي لمحاكمة جرائم العدوان ضد أوكرانيا. وتقع محكمة تحكيم الدعاوى الإيرانية - الأميركية، التي أُنشئت في أعقاب أزمة الرهائن في طهران عام 1979 ولا تزال قائمة، على مسافة 10 دقائق سيراً على الأقدام على الطريق، في حين يقع مقر منظمة حظر الأسلحة الكيميائية على بعد أمتار قليلة فقط. لا تربط هذه المؤسسات أي صلة قانونية تُذكر، لكن وجودها معاً في لاهاي يمنحها "مظهراً من الشرعية"، كما أخبرني محامٍ دولي. وتقع المحكمة الجنائية الدولية في الركن الشمالي الشرقي من المدينة، على مقربة من مركز الاحتجاز الذي يُحتجز فيه المتهمون. وكلما اقتربنا من قصر السلام، مقر محكمة العدل الدولية، أصبحت المدينة أكثر هدوءاً وخضرة.

وتشكل هذه المؤسسات تجسيدات مادية لتخصص يُعرف باسم "القانون الدولي"، على الرغم من أن الباحثين يميلون إلى الاختلاف حول ماهيته الحقيقية. وبدلاً من الحصول على إجابة واضحة، تُواجَه بسلسلة من الاستعارات: أخبرني أحد المحامين أنه "كالجاذبية: لا تراها، لكنها موجودة". وشبّهه آخرون بالتهجئة في اللغة الإنكليزية (قد تبدو القواعد مُختلقة)؛ أو بالإباحية (تعرفها بمجرد رؤيتها)؛ أو بمسطح مائي (لا يهدأ)؛ أو بالكوميديا ​​(قد تتحدى المنطق)؛ أو بالمأساة (الجميع يخسر في أغلب الأحيان). في حين وصفته الروائية شيرلي هازارد بأنه "مُجرد خدعة". وتتضمن المواد المكونة له، وفقاً لنظام محكمة العدل الدولية، المعاهدات والاتفاقيات والأعراف والقضايا، فضلاً عن "المبادئ العامة للقانون التي تعترف بها الأمم المتحضرة" و"تعاليم الخبراء الأكثر تأهيلاً".

إنّ الحديث عن القانون الدولي باعتباره مجرد مجموعة من القواعد والاتفاقيات هو تجاهل لوظيفته باعتباره "اللغة المشتركة للنظام الدولي"، ووسيلة للتعبير عن الاعتقاد بوجوب معاقبة مرتكبي الجرائم العالمية كما يُعاقب مرتكبو الجرائم المحلية؛ وفي أغلب الأحيان، وسيلة للتعبير عن عدم التصديق عندما لا يعاقبون. لقد أصبح القانون الدولي لغة "الطبقات المتوسطة المتعلمة"، على حد تعبير جيري سيمبسون، أستاذ القانون في كلية لندن للاقتصاد. وخلال مقابلة معه، قال: "عندما أذهب إلى حفلات العشاء، يتحدث الناس معي عن القانون الدولي طوال الوقت". إن الحديث عن القانون الدولي يستحضر مجموعة معينة من الصور: القيادة العليا الألمانية تنتظر الحكم في نورمبرغ؛ ومجرمو الحرب ومرتكبو جرائم الإبادة الجماعية يحاكمون في لاهاي. وهذه حلقات من القانون الجنائي الدولي، أحدث فروع القانون الدولي وأكثره هشاشةً، وهو الفرع الأكثر جدلاً بين الساسة ووسائل الإعلام والجمهور.

ويسود اليوم شعور متزايد في هذا المجال بأن القانون الجنائي الدولي مشروع فاشل، وكأنه "رجل ميت يمشي على الأرض". ومن بين المحامين الذين تحدثتُ معهم، كان عدد قليل منهم مستعداً للدفاع عنه من دون أيّ تحفظ. ويقول عادل حق، أستاذ القانون بجامعة روتجرز: "إنّ الهوّة بين طموحات القانون الجنائي الدولي وواقع الناس الفعلي تتسع أكثر فأكثر. وهذه مشكلة تواجه القانون، لأنه من المفترض أن يُحقق أهدافاً في العالم الحقيقي". 

لقد كان إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في عام 1998 بمثابة تحقيق لأروع طموحات القانون الدولي، المتمثلة في محاسبة مرتكبي الجرائم الكبرى كلما فشلت دولهم في القيام بذلك. وقد فتحت المحكمة أبوابها في لحظة استثنائية، وربما لن تتكرر، في العلاقات الدولية عندما كانت القوى العالمية لا تزال تعيش أجواء نهاية الحرب الباردة. وفي هذا الصدد، قال ديفيد بوسكو، الصحافي والأكاديمي الذي أمضى عقوداً في تغطية شؤون المحكمة: "بالنظر إلى الماضي، كانت تلك فترة تاريخية غريبة شهدت تراجعاً ملحوظاً في الكثير من المخاوف المتعلقة بالسيادة والأمن لدى القوى الكبرى. وقد سمح ذلك لمشروع مثل المحكمة الجنائية الدولية بالانطلاق بطريقة لم تكن لتتحقق في أي فترة أخرى".  

وقد تبيّن أن تلك الفترة كانت قصيرة الأجل. فالمحكمة الجنائية الدولية، التي تبلغ ميزانيتها التشغيلية السنوية حوالى 200 مليون يورو، لم تتمكن قط من تحقيق التطلعات التي قادتها إلى الوجود. فعلى مدى تاريخها الممتد لـ23 عاماً، لم تُصدر سوى 11 إدانة، جميعها تتعلق بجرائم ارتُكبت في القارة الأفريقية. (نظراً لتركيز المحكمة المُفترض على محاكمة المتهمين الأفارقة، هددت الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي مراراً بالانسحاب من نظام روما الأساسي، وهو المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية). وفي هذا الإطار، قال مارتي كوسكينيمي، الباحث القانوني الفنلندي والدبلوماسي السابق: "هناك هالة استعمارية جديدة تحيط بالمحكمة الجنائية الدولية يصعب التخلص منها". وهو يرى أنّ المحكمة كانت نتاجاً لـ"الغرور الليبرالي" في التسعينيات ونتيجة لنظام أغوته مثاليته الخاصة.

منذ تأسيسها، اتُهمت المحكمة الجنائية الدولية بأنها أداة لتحقيق عدالة المنتصر، أي "محكمة زائفة" في نظر منتقديها. وعلى الرغم من أن مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تشكل لفتات مهمة، فإن فرصة أن تؤدي أي من التهمتين إلى محاكمة معدومة تقريباً. لقد انضمت روسيا و"إسرائيل" إلى كل من الولايات المتحدة وسوريا والصين في رفض الانضمام إلى نظام روما الأساسي، ما يعني فعلياً حرمان المحكمة من سلطة محاكمة مواطنيها. وفي وقت سابق من هذا العام، أبلغت المجر الأمم المتحدة أنها ستنضم إلى هذه الدول، من خلال الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية واستضافتها نتنياهو في بودابست.

إن التزام الولايات المتحدة بتقويض المحكمة راسخ الجذور. فبعد شهر من تأسيس المحكمة رسمياً، أقرّ الكونغرس قانوناً يُعرف باسم "قانون غزو لاهاي"، يمنح الرئيس سلطة استخدام "جميع الوسائل اللازمة" للإفراج عن مسؤول حكومي أميركي محتجز لدى المحكمة الجنائية الدولية. وعندما حاولت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا في عام 2017 فتح تحقيق في الفظائع التي يُقال إن أفراداً أميركيين ارتكبوها في أفغانستان، رُفض منحها تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، وتم تهديد المحكمة بفرض عقوبات اقتصادية. وأُسقط التحقيق في نهاية المطاف نتيجةً لضغوط من إدارة ترامب. وكُلِّفت بنسودا مؤخراً بالتحقيق في ادعاءات ارتكاب إبادة جماعية في فلسطين، وهي مهمةٌ واجهت بسببها تهديداتٍ مباشرة لشخصها وعائلتها.

قد تكون مذكرات الاعتقال البارزة التي صدرت بحق بوتين ونتنياهو قد رفعت من مكانة المحكمة، إلا أنها أكدت أيضاً عجزها واجتذبت إجراءات مضادة قد تكون كارثية من جانب الولايات المتحدة. "ومن المفارقات،" كما أخبرتني المحامية الدولية شانتال ميلوني، "أن اللحظة التي تثبت فيها المحكمة أنها قوية قد تكون نهايتها".

إنّ الانتقادات الموجهة للقانون الدولي مألوفة، بل يستحيل إنكارها إلى حد ما؛ فهو ضعيف للغاية، ويُطبق بشكل انتقائي، كما أنه مجرد امتداد لسلطة الدولة. وفي هذا السياق، قالت يسرى سويدي، المحاضرة في جامعة مانشستر: "جميعنا أسرى هذا النظام الأفقي، حيث يتعين على الدول أن يراقب بعضها بعضاً، وهذا سيخضع حتماً للتسييس". إنه في الأساس نظام تقييد اختياري: فالدول الضعيفة التي تتجاهل توجيهاته تسمى منبوذة أو مارقة؛ أما الدول القوية التي تفعل ذلك، فتسمى مُهيمنة.

بالنسبة لمنتقدي هذا النظام، لا تكمن المشكلة في أن القانون لا يوقف الحروب أو يحمي المدنيين فحسب، بل في أنه يوفر مفرداتٍ للدول لتبرير الاستخدام غير المقيد للقوة أيضاً. والخروقات ليست استثناءً، بل هي القاعدة. فعلى سبيل المثال، يُقيّد القانون الإنساني الدولي استخدام أنواع معينة من الأسلحة، مثل القنابل العنقودية التي تُعدّ "عشوائية بطبيعتها، وقادرة على إلحاق الضرر من دون تمييز بين المقاتلين والمدنيين". وهذا الأمر لم يمنع "إسرائيل"، التي صادقت لأول مرة على اتفاقية حظر أو تقييد استعمال بعض الأسلحة التقليدية عام 1995، من استخدام القنابل العنقودية ضد المدنيين عام 2006 خلال حربها على لبنان. وقد تسببت هذه القنابل بمقتل ما يزيد على 1000 شخص، ثلثهم تقريباً من الأطفال. وزعم "الجيش" الإسرائيلي أن استخدام القنابل العنقودية لم يكن انتهاكاً للقانون الدولي، لأنها كانت تركز على أهداف عسكرية، وأنه تم تحذير سكان الضاحية الجنوبية لبيروت من الهجوم في وقت سابق. 

وخلال ذلك الصراع، طورت القوات الإسرائيلية ما يُعرف الآن باسم "عقيدة الضاحية"، التي تسمح باستخدام القوة "غير المتناسبة" ضد المراكز السكانية المدنية في ظروف معينة. وكان الهجوم على الضاحية انتهاكاً صارخاً لما يعرف بـ"مبدأ التناسب" في القانون الدولي، والذي ينص على أنه لا يجوز مهاجمة المدنيين في حال كانت النتيجة "مفرطة مقارنة بالميزة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة". وقد شكل مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لجنة للتحقيق في هذا الأمر خلصت إلى أنه "لم يكن هناك مبرر" لاستخدام القنابل العنقودية.

كل باحث يأسف على تراجع القانون الدولي سيواجه لحظته الخاصة التي بدأ فيها الفساد. فمن وجهة نظر كوسكينيمي، حدث ذلك في الستينات عندما جرى استبدال أهدافه الأصلية المتمثلة في إحلال السلام وتحقيق العدالة بالضروريات الإدارية والتنظيمية للعولمة. وبالنسبة للباحث القانوني الإسرائيلي إيتامار مان، بدا أن قضية الضاحية تُمثل بداية نهاية القانون الدولي كنظام موثوق لمنع ارتكاب المجازر. وقال: "لم يتجاهلوا القانون فحسب، بل استندوا إليه للأغراض ذاتها التي كان من المفترض أن تحد منها أو تضبطها". وبمحاولتها تبرير إجراء غير مبرر قانونياً بلغة القانون الدولي، استهزأت "إسرائيل" بروح القانون ونصه. وخلال حديثنا عن وضع القانون الدولي بشكل عام، قال مان: "لقد كان وسيلة لتحدي الاستخدامات الغاشمة للقوة، وهذا لم يعد موجوداً الآن".

لقد أسهم التذرع بالقانون الدولي كغطاء لانتهاك نظامه الخاص في ترسيخ انطباعات بأن هذا النظام آخذ في التراجع. فعلى سبيل المثال، بذلت روسيا جهوداً حثيثة لتقديم حجج قانونية لغزوها أوكرانيا عام 2014. وفي وثيقة تسعى لتبرير هجومها على "إسرائيل" في الـ7 من تشرين الأول/ أكتوبر، أشارت حماس إلى رأي محكمة العدل الدولية بشأن بناء جدار على الأراضي الفلسطينية المحتلة ودعت الدول إلى "تحمل مسؤولياتها تجاه القانون الدولي". في المقابل، لجأ الساسة الإسرائيليون في كثير من الأحيان إلى القانون الدولي كدرع وذريعة لاستمرار الحرب في غزة. وهذه إما إشارة إلى أن هناك خطأ عميقاً في النظام الدولي، أو إشارة إلى أن هذا النظام يعمل كما ينبغي له.

لقد بدأ جيري سيمبسون مسيرته المهنية مؤمناً بالقانون الدولي وقوته، وكتب مقالاتٍ تُقدّم مقترحاتٍ مؤسسية لإنشاء لجانٍ جديدة وما شابه ذلك. والآن يرى أن هذا النهج مُضلِّل، وأن جزءاً من مشكلة هذا النظام هو أن القانون الدولي، مثل أي نظام عقائدي، هو في جوهره مجرد مجموعة من الكلمات، وأن هذه الكلمات فقدت صلتها بالحقائق التي من المفترض أن تصفها. 

بدورها قالت مونيكا حكيمي، المحامية السابقة في وزارة الخارجية الأميركية وأستاذة القانون الدولي في جامعة كولومبيا: "يحاول الكثيرون التمسك بالنظام القانوني الذي أصبح متاحاً لنا بشكل أقل. لا نريد أن نستسلم ونتخلى عن القواعد القانونية الدولية التي منعت الحروب الكبرى وحمت الحقوق الفردية. لكنني أعتقد بأننا لم نفكر ملياً في أنواع التنازلات التي سنضطر للقيام بها إذا أردنا وقف أخطر التوجهات التي نشهدها".

وبالنسبة للمؤمنين الحقيقيين بهذا النظام، لا توجد أزمة في القانون الدولي. فقد أكد دير تلادي، وهو باحث قانوني جنوب أفريقي يحظى باحترام واسع عُيّن قاضياً في محكمة العدل الدولية العام الماضي، أن القانون الدولي لم يتراجع. بل ظل قائماً باعتباره "مجموعة من القواعد المحايدة التي من المفترض أن تنطبق على العلاقات بين الدول، وأن تطبّق من دون خوف أو محاباة". 

يتسم تلادي برؤية واضحة لحدود عمله، وقد اتخذ في آرائه القانونية نهجاً واقعياً صارخاً. ففي أيار/ مايو الماضي، وفي بيانٍ له بشأن الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" بسبب انتهاكات لاتفاقية الإبادة الجماعية، كتب أنه "لم تعد هناك كلمات لوصف الأهوال في غزة"، وأوضح أن المحكمة أمرت "إسرائيل" بوقف عملياتها العسكرية وطالبت حماس بإطلاق سراح الرهائن. وختم بيانه بالقول: "لكن المحكمة ليست سوى محكمة!". فكلماته وكلمات زملائه لم يكن لها أي تأثير يذكر. فقد كان القانون يُصدر توجيهاتٍ وأحكاماً، لكنها لم تلقَ آذاناً صاغية. ولا يُمكن لأي رأي استشاري أن يُجبر دبابة على التراجع عن مسارها.

ويرى تلادي أنّ ما نشهده اليوم ليس فشل القانون الدولي بل فشل السياسة الدولية، موضحاً أنّ "القانون موجود، لكن الثغرات الموجودة في القانون الدولي استُخدمت في كثير من الأحيان كأساس لعدم المساءلة". وحتى في الحالات التي لا توجد فيها ثغرات، يقول تلادي إنه "لا جدال في حقيقة أنه لا يجوز لك ارتكاب إبادة جماعية. إنّ السياسة والقوة الدولية أضعفتا قوة القانون الدولي، ولا يُمكن تجاهل تأثير السلطة على عملية التشريع". 

وعندما تحدثت مع المحامي راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، الذي فر من غزة مع عائلته بعد تفجير منزلهم في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قدم دفاعاً حاداً مماثلاً عن القانون الدولي، مستعرضاً قائمة من الانتصارات؛ من ضمنها أن محكمة العدل الدولية اعترفت بأن إبادة جماعية محتملة كانت تتكشف في غزة، وأصدرت 6 تدابير مؤقتة تأمر "إسرائيل" بتقييد استخدامها للقوة والالتزام باتفاقية الإبادة الجماعية. كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت؛ ويجري التحقيق مع ما يقرب من 100 جندي إسرائيلي بتهمة ارتكاب جرائم حرب في 14 دولة على الأقل بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية. وقال الصوراني إنّ "المشكلة لا تكمن في القانون الدولي. فقد استخدمناه على أكمل وجه من أجل سيادة القانون وكرامة الإنسان وحماية المدنيين. بل تكمن في الدول التي ترى أن القانون الدولي ينبغي عدم تطبيقه بشكل متسق". وقد أخبرني الصوراني أنه مع زملائه الفلسطينيين "كانوا في غاية السعادة عندما تحدثوا عن حق أوكرانيا في تقرير المصير والاستقلال". واعتبر أنّ هذه المعايير نفسها يجب أن تُطبق في كل مكان. فـ"لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطيات حقيقية عندما تكون انتقائية في تحديد من ينطبق عليه القانون الدولي".

من جهتها، ترى ليلى السادات، المستشارة الخاصة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية والباحثة غزيرة الإنتاج، أنّ منتقدي القانون الدولي يتحملون بعض المسؤولية عن الوضع المتردي الذي يشهده هذا النظام. فمن خلال إثارتهم المستمرة لمسألة أهميته، بل وحتى وجوده، فتحوا الباب أمام السخرية والهجوم والتلاعب. وعندما بدأت العمل في المحكمة الجنائية الدولية، كانت ترغب بشدة في جعلها أكثر فعالية. لكنها قالت: "لم يخطر ببالي قط أن أتحدى المفهوم الكامل الذي ينص على وجوب محاسبة الأفراد على ارتكاب الأعمال الوحشية الجماعية".

بالنسبة للصوراني، فإنّ النقاشات حول القانون الدولي أبعد ما تكون عن العمق الأكاديمي. وقال: "نحن نؤمن بالعدالة، وكرامة الإنسان، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان. وهذه ليست مجرد كلمات. إنها حياة الناس، ودماؤهم، وآلامهم، ومعاناتهم". وفي وقت سابق من ذلك اليوم، تمكن من الاتصال بصديق لا يزال في غزة، فأخبره بأنه لم يعد يستطيع النظر في عيون زوجته وأطفاله، لأنه لم يعد يجد ما يُطعمهم. "قال لي: راجي، أتمنى أن أموت". 

فإلى أين يتجه القانون الدولي؟ تقول يسرى سويدي إنّ هذا النظام دوريّ. فـ"أحياناً، يتطلب الأمر حصول أحداث مروعة لإيقاظ البشرية من غفلتها، ودفعها إلى التأمل، وتصحيح مسارها، والعودة إلى قيمنا الأساسية." نحن نشهد اليوم فترة تراجع؛ والقانون الدولي لن يختفي، لكن مؤسساته ستواصل على الأرجح فقدان مصداقيتها، وستفقد أحكامها وزنها. إضافة إلى ذلك، سيصاحب تدهور القانون الدولي تآكل موازٍ لسيادة القانون داخل الدول. وفي هذا الصدد، قالت ليلى السادات: "من السهل انتقاد القانون الدولي، والقول إنّ كل أحكامه غير قابلة للتنفيذ، وإنّ كل هذا مجرد مزحة. ونحن نرى ما يحدث عندما يهاجم ترامب القانون المحلي. كل قانون يعتمد على نظام حسن النية، بما في ذلك القانون الوطني". 

لقد بدأت الصين تدريجياً في الاضطلاع بالدور الذي كانت تلعبه الولايات المتحدة سابقاً في المؤسسات الدولية، مُعيدةً صياغة القانون بالشكل الذي يتناسب معها. وفي الوقت الذي ابتعدت الولايات المتحدة عن المنتديات متعددة الأطراف، بدأت الصين تتجه نحوها. وأشارت السادات إلى أن "الصينيين يحضرون جميع اجتماعات المحكمة الجنائية الدولية، ويشاركون في النظام". وتوقعت أنه في غياب مشاركة الولايات المتحدة، "فإن ما سنحصل عليه على الأرجح هو نظام قانوني دولي تقوده الصين".

ومن المحتمل أن يكون القانون الدولي الذي تقوده الصين قانوناً يُقلل من أهمية حماية حقوق الإنسان وتوزيع المساعدات، ويرفع مستوى احترام حدود الدول. وفي هذا الصدد، قال جوليان كو، أستاذ القانون بجامعة "هوفسترا"، إن "الحماية الغيورة لسيادة الدولة" تجسّد المبدأ الذي تدور حوله السياسة الخارجية الصينية. و"الأمم المتحدة هي المنتدى الذي يستخدمونه لتسويق هذه الرؤية لدى الدول النامية الأخرى؛ فهم يريدون إقامة قضية مشتركة مع الدول التي سئمت من تلقي المحاضرات من الأوروبيين والأميركيين والمنظمات غير الحكومية". 

ولكن حتى الآن يبدو أن النظام الدولي الذي تقوده الصين لن يكون أكثر اتساقاً من النسخة السابقة. وأشار كو إلى أن "الجميع يسير في اتجاهات مختلفة؛ فالصين مهتمة جداً بالسيادة وسلامة الأراضي، لكنها لا تبذل أي جهد يُذكر لمساعدة أوكرانيا. وتركيا تحتل قبرص منذ نحو 60 عاماً، وقد اعتاد الناس على ذلك نوعاً ما". ومؤخراً، قال المبعوث الصيني للأمم المتحدة إن الضربات الأميركية على إيران أضرت بمصداقية البلاد في المفاوضات الدولية، كما انتقدت وسائل الإعلام الرسمية الصينية الولايات المتحدة بسبب ممارستها "سياسة القوة" على حساب القانون الدولي.

وعلى مدى السنوات القليلة المقبلة، قد يستمر تآكل الطبقة السميكة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي حكمت العقود الماضية. ففي أواخر حزيران/ يونيو، أعلن وزير الداخلية الهندي أميت شاه أن بلاده لن "تعيد أبداً" العمل بمعاهدة مياه نهر السند، وأن "باكستان ستُحرم من المياه التي تحصل عليها بشكل غير مبرر".

ومع ذلك، أخبرني أحمد، الوزير الباكستاني السابق، أنه على الرغم من الوضع الراهن، إلا أنه لا يزال متفائلاً إلى حد اليأس، على الأقل على المدى البعيد. وقال: "لكل قوةٍ قوة مضادة. ولكل إبادة جماعية تحدث، ستكون هناك دعاوى قضائية مضادة لمحاسبة مرتكبيها". وكل إجراء يجب أن يُفضي إلى حكم. "فهل ستُنفَّذ هذه الأحكام؟ لا. وهل يعني ذلك انهيار النظام؟ لا. قد تكون هذه الأحكام غير مهمة وغير منطقية اليوم، لكنها ستظهر مجدداً". 

ويعتقد أحمد أن الأزمة وحدها هي التي ستجبر البشرية على التكاتف وإعادة تطوير المؤسسات العالمية والالتزام من جديد بالقانون الدولي. وأنّ الأزمة التي قد تُعيد إحياء القانون الدولي ليست الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، أو الصراع الروسي - الأوكراني، أو التهديد بضم غرينلاند، أو تآكل المؤسسات متعددة الأطراف. بل تغير المناخ. فـ"على مدى السنوات الـ7 المقبلة، سيستجيب القانون الدولي لتغير المناخ، وسينتقل إلى جوانب أخرى من هذا النظام، من الاستثمار التجاري أولاً إلى السلامة الإقليمية وإجراءات المحكمة الجنائية الدولية".

خلال العام الماضي، شارك عدد غير مسبوق من الدول في إجراءات أزمة المناخ في محكمة العدل الدولية، ويعمل القضاة حالياً على إعداد رأي استشاري بشأن التزامات الدول بحماية البيئة. وقال تلادي: "إذا اطلعنا على التقارير العلمية، فسنجدها تُخبرنا بوضوح أننا لا نحقق أي تقدّم في مكافحة الانهيار المناخي. إما أن القانون غير كافٍ، أو أنه لا يُطبّق كما يجب". 

لطالما كان ميدان القانون الدولي بمنزلة نظام ديناميكي، وعليه أن يتطور في موازاة العالم الذي يسعى إلى التحكم فيه. وأشار تلادي إلى أن  "القانون الدولي سيكون بخير، لكنه سيعكس حالة العالم الذي سيحكمه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف سيكون شكل هذا العالم؟"

نقلته إلى العربية: زينب منعم.