هل يتجه نتنياهو نحو نصر مطلق أم نحو هزيمة مؤكدة؟
الطريق أمام نتنياهو لتحقيق "النصر المطلق" ما زال طويلاً، والأرجح أن حكومته ستتفكّك وسيدخل هو السجن قبل أن يتمكّن من تحقيق هذا الهدف!
-
نتنياهو استغل "طوفان الأقصى" كذريعة لتحقيق برنامجه السياسي.
في خطاب ألقاه يوم السبت الماضي (19/4/2025)، هاجم نتنياهو كلّ من يطالبه بعقد صفقة لاستعادة الأسرى المحتجزين لدى حماس دفعة واحدة، حتى لو كان الثمن وقف الحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزة.
وقد استند في هجومه إلى قناعته بأنّ الاستجابة لهذه المطالب يصبّ لصالح حركة حماس، ويساعدها على تحقيق جميع الأهداف التي سعت إليها عقب إقدامها على شنّ عملية "طوفان الأقصى"، وبالتالي يمكّنها ليس من إعادة إحكام سيطرتها على قطاع غزة فحسب، وإنما أيضاً من إعادة إعماره بطريقة تسمح لها بتكرار ما جرى يوم 7/10/2023 ووضع "إسرائيل" تحت تهديد دائم.
لم يقصد نتنياهو الاكتفاء بتخويف الجمهور الإسرائيلي من عواقب معارضة نهجه في إدارة الحرب التي يشنّها على قطاع غزة منذ أكثر من عام ونصف العام، ولكنه أراد أيضاً إقناعه بأنّ "جيش" الكيان ما زال قادراً على تحقيق "النصر المطلق"، وهو مفهوم غامض يقصد به على الأرجح تحقيق أهداف البرنامج السياسي لحكومته الحالية بقوة السلاح، ما يفسّر قيامه باستدعاء أعداد إضافية من قوات الاحتياط، في مؤشّر جديد على أنه بات مستعداً للذهاب إلى أقصى مدى تتيحه آلة الحرب الإسرائيلية، حتى لو اضطر لإصدار الأمر باجتياح قطاع غزة بالكامل وإعادة احتلاله من جديد.
لمناقشة مصداقيّة الحجج التي تضمّنها خطاب نتنياهو، ربما يكون من المفيد هنا أن نعيد تذكير القارئ بأهمية التمييز بين أمور ثلاثة: الأهداف المعلنة للحرب الحالية، والتي يدّعي نتنياهو أنها لم تكن لتحدث لولا "طوفان الأقصى"، والأهداف الحقيقية لهذه الحرب، والتي يعتقد أنّ "طوفان الأقصى" وفّر لها الذرائع والمبرّرات كافة التي تضفي عليها المشروعيّة، والمنجزات التي استطاع تحقيقها على أرض الواقع، مقارنة بأهداف الحرب المعلنة والخفية على السواء.
ويتطلّب الربط المحكم بين هذه الأمور الثلاثة تذكير القارئ أولاً وقبل كلّ شيء بحقيقة أساسية مفادها أنّ حكومة نتنياهو الحالية، وهي الأكثر تطرّفاً في تاريخ "إسرائيل"، تسلّمت السلطة في كانون الأول/ديسمبر 2022، أي قبل عام كامل من عملية "طوفان الأقصى"، وأنّ برنامجها السياسي تضمّن تكثيف الاستيطان، وضمّ الضفة الغربية، والسماح لليهود بممارسة طقوسهم الدينية في باحة المسجد الأقصى، في خطوة بدا واضحاً أنها تمهّد لتدميره وبناء الهيكل الثالث على أنقاضه.
لو كان هدف نتنياهو من الحرب التي يصرّ على استمرارها هو استعادة الرهائن، لتمكّن من تحقيق هذا الهدف عبر التفاوض غير المباشر مع حماس، حيث أتيحت أمامه فرصتان على هذا الصعيد، الأولى في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2023، حين تمّ التوصّل إلى هدنة لمدة أربعة أيام قابلة للتجديد، والثانية في 15 كانون الثاني/يناير، حين تمّ التوصّل إلى اتفاق من ثلاث مراحل، يفضي في بداية مرحلته الثانية إلى وقف الحرب وفي مرحلته الثالثة إلى البدء في إعادة الإعمار، لكنه نقضهما وأصرّ على استئناف الحرب في كلّ مرة عقب استعادته لمجموعة من الرهائن.
ولو كان هدف نتنياهو هو حرمان حماس من حكم قطاع غزة بعد توقّف القتال، لتمكّن من تحقيقه بقبول الخطة المصرية للإعمار (التي تحوّلت إلى خطة عربية إسلامية بعد تبنّيها من جانب الجامعة العربية ومنظّمة التعاون الإسلامي)، حيث تضمّنت هذه الخطة مقترحاً بإسناد إدارة القطاع إلى لجنة من التكنوقراط تعمل تحت إشراف السلطة الفلسطينية، لكنّ نتنياهو رفض هذه الخطة أيضاً ورفع شعار "لا لحماسستان ولا لفتحستان". ولو كان هدف نتنياهو هو الحيلولة دون اتساع نطاق الحرب وتمدّدها إلى جبهات أخرى غير الجبهة الفلسطينية في الجنوب، لتمكّن من تحقيقه بمجرّد قبوله لوقف دائم لإطلاق النار، وهو ما رفضه بإصرار.
لذا يمكن القول بيقين تامّ إنّ حكومة نتنياهو استغلّت "طوفان الأقصى" كذريعة لتحقيق برنامجها السياسي الذي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وتهجير الفلسطينيين ليس من قطاع غزة فحسب وإنما من الضفة الغربية أيضاً. ولأنه لا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بإلحاق الهزيمة بمحور المقاومة ككلّ، وليس بحماس وحدها، فقد بدا نتنياهو سعيداً بتوسيع نطاق الحرب، وهو ما يفسّر إصراره على خوضها على كلّ الجبهات التي قرّرت مساندة حماس، ومحاولاته المستميتة للتحرّش بإيران أيضاً، أملاً في جرّ الولايات المتحدة للمشاركة معه في حرب مباشرة ضدّها.
يظهر الفحص المدقّق لما جرى في المنطقة عقب "طوفان الأقصى"، أنّ نتنياهو تمكّن من تحقيق منجزات عسكرية كبيرة على مختلف الجبهات. فعلى الجبهة الفلسطينية، تمكّن من تدمير قطاع غزة بالكامل ومن تحويله إلى منطقة غير قابلة للحياة، بعد أن قام بقتل وجرح وإخفاء ما يقرب من ربع مليون مواطن، واغتيال أهمّ الرموز السياسية والعسكرية الفلسطينية، في مقدّمتهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف، ناهيك عن تجريف عشرات المخيمات في الضفة الغربية وتدمير آلاف المنازل فيها وتشريد واعتقال مئات الآلاف منها.
وعلى الجبهة اللبنانية، تمكّن نتنياهو من توجيه ضربات موجعة لحزب الله واغتيال المئات من أهمّ قياداته السياسية والعسكرية، بمن فيهم أمينه العامّ نفسه، ما أجبر الحزب على قبول وقف إطلاق النار وخروجه من حلبة المساندة العسكرية لغزة، بل وتمكّن "الجيش" الإسرائيلي من الاحتفاظ بنقاط حصينة على الحدود ومن مواصلة عمليات الاغتيال وانتهاك اتفاق وقف إطلاق النار من دون رادع.
وعلى الجبهة السورية، تمكّن من توجيه ضربات قوية عجّلت بسقوط نظام بشار الداعم لمحور المقاومة، ومن قطع طريق الإمدادات العسكرية لحزب الله، بل ومن تدمير مقدّرات الجيش السوري كافة واحتلال مناطق شاسعة جديدة. وعلى بقية الجبهات الأخرى تمكّن نتنياهو من توجيه ضربات عسكرية مباشرة إلى جماعة أنصار الله في اليمن، بل وإلى إيران نفسها التي يعتبرها نتنياهو "رأس الأفعى" وقائد محور المقاومة وعموده الفقري.
لذلك يعتقد نتنياهو أنه بات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق "نصر مطلق" يتيح له إعادة احتلال قطاع غزة وتهجير أهله، طوعاً أو كرهاً، وضمّ الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها وتهجير أهلها، طوعاً أو كرهاً، والهيمنة على جنوب لبنان، بعد نزع سلاح حزب الله، واحتلال مساحات واسعة من سوريا التي يعتقد أنه بات من السهل تفكيكها إلى دويلات طائفية.
غير أنّ الفحص المدقّق لما جرى ولآفاقه المستقبلية، يظهر في الوقت نفسه أنّ حسابات نتنياهو على هذا الصعيد ليست دقيقة، وأنّ طموحاته هي مجرّد أضغاث أحلام لأنه عاجز عن تحويل منجزاته العسكرية الضخمة إلى مكاسب سياسية واستراتيجية، بل أعتقد أنني لا أبالغ إن قلت إنّ نتنياهو سيخسر الحرب في النهاية وستلحق به على الأرجح هزيمة سياسية واستراتيجية كبيرة رغم ما حقّقه من منجزات عسكرية لا يستهان بها.
فالجبهة الفلسطينية لا تزال صامدة على نحو أسطوري، يكاد يصل إلى درجة الإعجاز، وفصائلها لا تزال قادرة ليس على القتال وإلحاق خسائر كبيرة بقوات الاحتلال فحسب، وإنما أيضاً على الاحتفاظ بالعديد من الأسرى الذين يستحيل استعادتهم أحياء بقوة السلاح. صحيح أنّ نتنياهو يراهن على أنّ المزيد من الضغط العسكري ومن التجويع وقطع سبل الحياة سيؤدّي إلى تركيع الشعب الفلسطيني، وإلى استسلام ونزع سلاح فصائل المقاومة، لكنّ ذلك بات أمراً مستحيلاً.
فلم يعد أمام الشعب الفلسطيني ما يخشى أن يخسره بعد كلّ ما جرى له، وبالتالي فسوف يواصل الصمود حتى آخر طفل يتنفّس في القطاع. ومع استمرار الضغط العسكري، وانكشاف فشل آلة الحرب الإسرائيلية في القضاء على حماس أو في استعادة الاسرى أحياء، وتواصل مشاهد موت الأطفال الفلسطينيين جوعاً، في واحد من أكبر مشاهد الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية في التاريخ الحديث، سيتزايد الضغط المزدوج على حكومة نتنياهو، داخلياً وخارجياً، وسينتهي الأمر على الأرجح بسقوطها.
أظن أنه لن يمرّ وقت طويل أيضاً قبل أن يكتشف نتنياهو أنّ المنجزات التي حقّقها على صعيد الجبهات الأخرى هي أكثر هشاشة مما يعتقد، وبالتالي لن تمكّنه مطلقاً من تحقيق هدفه في إعادة رسم معالم الشرق الأوسط على هواه. فرهان نتنياهو على قدرة حلفائه في الداخل اللبناني على الضغط من أجل نزع سلاح حزب الله هو مجرّد سراب خادع، وبالتالي سرعان ما سيكتشف أنّ لبنان سيخرج من الأزمة الحالية أقوى مما كان عليه، بل وليس من المستبعد أن يتحوّل على المدى المنظور إلى دولة مواجهة حقيقية قادرة على الدفاع عن أرضها وعن كرامة شعبها.
ورهان نتنياهو على بقاء سوريا ضعيفة، وبالتالي على احتمال تفكّكها وخضوعها للإرادة الإسرائيلية، غير قابل للتحقّق، خصوصاً وأنّ قدرة أيّ نظام سياسي على الصمود مرهون بقدرته على استعادة الأرض السورية التي احتلّت قبل وبعد سقوط نظام بشار. ورهان نتنياهو على سقوط النظام الإيراني، سواء عبر تفكيك برنامجه النووي وإجباره على وقف برنامجه الصاروخي والانكفاء على ذاته أو عبر توجيه ضربة عسكرية قاصمة، هي مجرّد أحلام يقظة غير قابلة للتحقيق، خصوصاً بعد أن قرّر ترامب الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إيران للتوصّل إلى اتفاق جديد حول برنامجها النووي.
بعبارة أخرى، إنّ الطريق أمام نتنياهو لتحقيق "النصر المطلق" ما زال طويلاً، والأرجح أن حكومته ستتفكّك وسيدخل هو السجن قبل أن يتمكّن من تحقيق هذا الهدف، وحينها سيبدأ المجتمع الإسرائيلي في الدخول في صراع متنامٍ قد يفضي إلى حرب أهلية.
ما حقّقه نتنياهو من "منجزات" في هذه الجولة من الصراع المسلّح لا يعود إلى قوة الكيان العنصري الذي يقوده، ولكن إلى تخاذل النظام الرسمي العربي وعدم توفّر إرادة المواجهة لديه، لكن ذلك لن يستمرّ طويلاً. فاستمرار هذا التخاذل ضدّ منطق التاريخ!!