مستقبل المقاومة بعد استشهاد قائدها الأبرز

الجولة الحالية من الصراع المسلح مع الاحتلال الإسرائيلي، التي بدأت مع "طوفان الأقصى"، أثبتت أن المقاومة أنجزت خلالها ما عجزت عنه جميع الأنظمة العربية في كل جولات الصراع السابقة.

  • الكيان الصهيوني لم يتمكن من تحقيق أهدافه كاملةً في أي من جبهات القتال.
    الكيان الصهيوني لم يتمكن من تحقيق أهدافه كاملةً في أي من جبهات القتال.

في مشهد مهيب لم يعرف له لبنان مثيلاً في تاريخه، التف طوفان بشري هادر حول عربة حملت نعش رجلين ارتبط اسماهما بمقاومة المشروع الصهيوني للهيمنة على المنطقة، الشهيدين السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين.

لم يقتصر هذا المشهد الوداعي المؤثر على المشاركين فيه، من داخل لبنان وخارجه، وإنما تابعته أيضاً ملايين أخرى كثيرة على امتداد العالمين العربي والإسلامي. ولأن ما جرى يشكل ظاهرة لم نشهد لها مثيلاً في عالمنا العربي إلا عند رحيل جمال عبد الناصر، منذ أكثر من نصف قرن، أظن أنها تستحق أن نتوقف عندها بالتأمل والتحليل، وخصوصاً أن نصر الله لم يستمدّ تعلق الجماهير به من سلطة سياسية تربّع على عرشها، أو من ملك عضود أمده بوسائل القوة والنفوذ، وإنما من مشاعر حب صادقة استحقها عن جدارة.

يُلفَت النظر هنا إلى أن نصر الله كان رجل دين تلقى علومه الفقهية في كل من النجف العراقية وقم الإيرانية، وحرص دوماً على ارتداء العمامة المميزة لرجال الدين الشيعة، ولم يُخفِ يوماً اقتناعه بنظرية ولاية الفقيه، ومع ذلك لم يُعرَف عنه أي شكل من أشكال التعصب قط، ولم يُضبط يوماً متلبسا باستخدام مفردات طائفية أو متطرفة، وإنما ارتبطت حياته كلها بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، وبالدفاع عن القضية الفلسطينية.

لقد بدأ حياته السياسية بالانخراط في حركة "أمل"، التي أصبح مندوباً لها في البقاع، ثم عضواً في مكتبها السياسي المركزي، قبل أن يبلغ الثانية والعشرين من عمره. وحين وقع انشقاق داخل الحركة، بسبب الموقف الذي تعين اتخاذه إزاء "هيئة الإنقاذ الوطني"، آثر الانسحاب منها، احتجاجاً على وجود بشير الجميل المتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، وشارك مع التيار المنشق في تأسيس "حزب الله". ولا شك في أن هذه الواقعة تدل على وعيه المبكّر بأن الكيان الصهيوني هو العدو الأساسي للبنان، وأن كل من يتعاون معه يُعَدّ خارجاً على الإجماع الوطني.

 تمثل الجماهير، التي أحبت نصر الله والتفت حوله في حياته، وحول نعشه في مماته، كل القطاعات الحية، التي أدركت أن المشروع الصهيوني هو مصدر التهديد الرئيس، ثم يجب أن تتصدر مواجهته جدول أعمال النظامين العربي والإسلامي. فحتى القطاعات، التي تباينت مع بعض مواقفه، وفي مقدمتها الموقف الداعم لنظام بشار الأسد، بدت على استعداد لتفهم دوافعه الاستراتيجية والجيوسياسية.

أمّا القطاعات، التي ناصبته العداء، فأسست مواقفها إما استناداً إلى اعتبارات طائفية بحتة، وإما بسبب عدم إدراك كافٍ لخطورة المشروع الصهيوني على العالمين العربي والإسلامي، وإما بسبب الإصرار على تحميل حزب الله وحده عبء جميع الكوارث التي ألمّت بالشعب السوري. لذا، يمكن القول إن هذه القطاعات، التي لا تزال تصر على تشويه صورة نصر الله والتنكر لدوره، وطنياً وقومياً، هي نفسها التي تبدو حريصة، في الوقت نفسه، على شطب حزب الله والمقاومة من معادلات السياسة اللبنانية، وتحميلهما كامل المسؤولية عن تفسخ المجتمع وعجز الدولة عن فرض سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية. وتلك مواقف وادعاءات لا تستند إلى أي أسس أو حقائق تاريخية.

حين تأسس حزب الله عام 1982، كان لبنان يخوض حرباً أهلية مدمرة منذ عام 1975، وكانت أغلبية الأحزاب أو الطوائف اللبنانية تبرّر لنفسها حمل السلاح آنذاك، ولكل منها ميليشيا خاصة بها.

وكانت "إسرائيل" تحتل جنوبي لبنان، بمساعدة عناصر منشقة عن الجيش اللبناني (أسست "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة الرائد سعد حداد، ثم العميد أنطوان لحد)، ثم أقدمت على اجتياح بيروت، وتمكّنت من إخراج منظمة التحرير الفلسطينية ونفيها إلى تونس، وراحت تتطلع بعد ذلك إلى فرض شروطها للتسوية على سائر الأقطار العربية بقوة السلاح، بدءاً بلبنان. ولم تكن الأوضاع على الصعيد الإقليمي أسعد حظاً، وإنما راحت تتدهور بدورها بشدة وبمعدلات سرعة متزايدة. فبعد إبرام السادات معاهدة سلام منفرد مع "إسرائيل" عام 1979، انفرط عقد "جبهة الصمود والتصدي"، عقب دخول العراق في حرب مدمرة ضد إيران استمرت ثمانية أعوام.

وما إن انتهت هذه الحرب حتى قام العراق باجتياح الكويت، الأمر الذي أشعل حرباً دولية أفضت إلى انعقاد مؤتمر مدريد، ثم إلى إبرام "اتفاقية أوسلو" التي كانت بمنزلة أول مسمار في نعش القضية الفلسطينية. وليس لذلك كله سوى معنى واحد، هو أن حزب الله لم يكن مسؤولاً عن تدهور الأوضاع، لا في الساحة اللبنانية ولا في الساحة الإقليمية، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، وخصوصاً أن دخوله فاعلاً في الساحتين اللبنانية والإقليمية دشّن مرحلة صمود ساهمت في وقف التدهور المستمر، وأفضت إلى تحرير جنوبي لبنان وفرار القوات اللبنانية، وساعد على فرض معادلات ردع جديدة ألهمت المقاومة الفلسطينية ومكّنتها من الصمود، وحالت دون تمكين "إسرائيل" من تصفية القضية الفلسطينية.

قرار نصر الله تقديم مساندة عسكرية إلى حركة حماس، ومعها سائر الفصائل الفلسطينية المسلحة، جاء تعبيراً عن إيمان نصر الله الراسخ باستحالة فصل جبهات المقاومة، بعضها عن بعض، وخصوصاً أن أطماع "إسرائيل" لا تقتصر على الأراضي الفلسطينية وحدها، وإنما تشمل أيضاً جميع الدول العربية المجاورة، وفي مقدمتها لبنان. فلا شك في أن هذه المساندة، والتي تواصلت على مدى عام كامل، قدمت مساعدة كبيرة إلى المقاومة الفلسطينية، ومكّنتها من الصمود في وجه آلة الحرب الصهيونية. وبالتالي، حالت دون تمكين الكيان الصهيوني من تحقيق أهدافه من حرب الإبادة الجماعية، التي شنها على الشعب الفلسطيني.

وكما ضحّى نصر الله بابنه هادي فداءً للبنان، ضحّى بنفسه فداءً لفلسطين. غير أن الأصوات المعادية لحزب الله، ولنصر الله شخصياً، وللمقاومة بصورة عامة، تدّعي أن قراره هذا انطوى على مغامرة غير محسوبة العواقب، وأفضى ليس إلى هزيمة حزب الله فحسب، وإنما إلى تدمير لبنان ككل أيضاً، وتعميق أزمته المجتمعية في كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم بدأت تطالبه بإلقاء السلاح، أو بالأحرى تسليم سلاحه إلى الدولة اللبنانية فوراً، وهي دعوة حق يُراد بها باطل.

صحيح أنه لا يمكن لأي دولة تحترم نفسها أن تسمح بوجود السلاح في أيدي المواطنين، وخصوصاً إذا كان من النوع الثقيل، فذلك ينطوي على مخاطر جمّة، ليس بالنسبة إلى الأمن الوطني فحسب، بل بالنسبة إلى أمن المواطن أيضاً.

ومع ذلك، يجب أن نعترف بأنه في مقابل حق الدولة في احتكار حيازة السلاح واستخدامه، يوجد واجب يرتب على عاتقها حماية المواطن أيضاً، ليس من الأخطار الداخلية فحسب، وإنما أيضاً من الأخطار الخارجية، وهو ما لم يكن متاحاً في لبنان في أي وقت من الأوقات، لا عند نشأة حزب الله، ولا في الوقت الراهن.

لذا، يمكن القول إن الدعوة إلى نزع سلاح حزب الله الآن، وبالتالي عدم الاكتفاء بمطالبته بالانسحاب إلى جنوبي نهر الليطاني، كما ينص القرار 1701، أمرٌ ينطوي على خطر جسيم، سواء بالنسبة إلى لبنان الدولة، أو بالنسبة إلى المواطن اللبناني، وبالتالي يهدد الاستقرار ليس على المستوى اللبناني فحسب، وإنما أيضاً على مستوى الإقليم ككل، وخصوصاً أن هذه الدعوة تتوازى وتتواكب مع الدعوة إلى نوع سلاح حركة حماس وسائر الفصائل الفلسطينية في غزة، وترحيل قياداتها إلى الخارج. وللأسف، هي دعوة لا تتبناها "إسرائيل" فحسب، وإنما تتبناها أيضاً، في الوقت نفسه، أنظمة رسمية وقطاعات متعددة من النخب العربية المرتبطة بسياسات هذه الأنظمة ومصالحها.

يدّعي الكيان الصهيوني أنه ألحق هزيمة قاسية بجميع "أذرع المقاومة" في المنطقة، في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا، ولم يبقَ أمامه سوى إيران، التي يرى أنها "رأس الأفعى"، ويعلن قادته، صباح مساء، أنهم باتوا جاهزين لقطعها، وأن ذلك سيتم قريباً بضوء أخضر وبدعم كامل من دونالد ترامب. غير أن هذا الادعاء يُعَدّ في تقديري جزءاً لا يتجزأ من الحرب النفسية.

صحيح أن محور المقاومة تلقى ضربات موجعة، في مختلف الجبهات، وصحيح أيضاً أن سقوط النظام السوري أضعف هذا المحور وحَدّ قدرته على المناورة والمبادرة، لكنّ الادعاء أن المقاومة هُزمت ليس صحيحاً، نتيجة سبب واضح، هو أن الكيان الصهيوني لم يتمكن من تحقيق أهدافه كاملةً في أي من جبهات القتال.

فهو غير قادر على استعادة أسراه المحتجزين في غزة، إلا عبر التفاوض مع حماس، وكان حزب الله لا يزال قادراً على ضرب "تل أبيب" بالصواريخ، في اللحظة التي تم فيها التوصل إلى اتفاق في الجبهة اللبنانية، بل لا تزال كل المستوطنات اليهودية في هذه الجبهة خالية من السكان حتى الآن.

ولأن الأطماع الصهيونية في أراضي الدول العربية المجاورة وغير المجاورة لا تزال حية، وهو ما تبيّن بوضوح في ظل إصرار الكيان على ترحيل الفلسطينيين قسراً إلى كل من مصر والأردن، يمكن القول إن الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة، وخصوصاً سلاح حماس وسلاح حزب الله، لن تؤدي إلا إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وفتح الطريق أمام إقامة "إسرائيل الكبرى" في المنطقة.

أثبتت الجولة الحالية من الصراع المسلح مع الكيان الصهيوني، والتي بدأت مع "طوفان الأقصى"، أن المقاومة أنجزت خلالها ما عجزت كل الأنظمة العربية عن تحقيقه في كل جولات الصراع السابقة. وبالتالي، أصبحت المحافظة عليها هي السبيل الوحيد إلى التصدي للأطماع الصهيونية وحماية المصالح العربية. فمتى ندرك هذه الحقيقة، التي باتت أوضح من سطوع الشمس.

تحية إلى الشهيد البطل نصر الله، وإلى كل الشهداء، الذين سقطوا دفاعاً عن القضية الفلسطينية، ومن أجل حماية مصالح الشعوب العربية.