قراءة في دلالات ونتائج قمة الدوحة
لأنّ القيام بعمل عدواني على هذا القدر من الجرأة قد يتسبّب في تعريض الكيان لمخاطر جمّة، يبدو واضحاً أنه ما كان لنتنياهو أن يقوم بما قام به من دون الحصول على ضوء أخضر أو إذن مسبق من ترامب مباشرة.
-
لم يكتفِ نتنياهو بالإعلان عن أنه اتخذ قرار الهجوم على قطر بنفسه، وإنما تفاخر بذلك أيضاً.
عقدت في الدوحة يوم الاثنين الماضي، الموافق 15 أيلول/سبتمبر 2025، قمة عربية إسلامية طارئة، لبحث العدوان الذي شنّه الكيان الصهيوني على دولة قطر يوم 9/9/2025.
ولأنّ الحدث الذي استدعى التئام هذه القمة لم يكن يتعلّق بأمر اعتيادي، وإنما بهجوم عسكري مباشر على دولة عربية خليجية، تمنّى كثيرون أن يكون الأداء مختلفاً هذه المرّة، وبالتالي أن تتخلّى قمة الدوحة عن نهج اقتصر حتى الآن على تدبيج عبارات الشجب والإدانة، وأن ترتفع إلى مستوى التحدّيات التي تواجه دول وشعوب المنطقة في المرحلة الراهنة.
فخطورة ما جرى هذه المرّة لا تكمن في إقدام الكيان على شنّ هجوم عسكري على دولة عربية مستقلة، فهذا سلوك معتاد من جانبه، ولا في تعقّب قيادات حماس ومحاولة تصفيتهم في أماكن بعيدة عن ساحات القتال، فقد سبق له القيام بعمليات سرية لاغتيال قادة المقاومة الفلسطينية في كلّ مكان تستطيع آلته العسكرية أن تصل إليه، كتلك التي أقدم عليها في تونس عام 1988 وأدّت إلى اغتيال خليل الوزير "أبو جهاد"، أحد كبار قادة فتح، وإنما تكمن في شنّ هجوم عسكري سافر على دولة عربية بعيدة ليست في حالة حرب معه، وتقوم بدور الوسيط في مفاوضات غير مباشرة تجري مع حماس منذ ما يقرب من عامين، وتستضيف على أراضيها قاعدة عسكرية أميركية ضخمة، ما يضفي على هذا الحدث نكهة ودلالات مختلفة وغير مسبوقة.
لم يكتفِ نتنياهو بالإعلان عن أنه اتخذ قرار الهجوم على قطر بنفسه، وإنما تفاخر بذلك أيضاً، معتبراً أنّ ما قام به عمل مشروع ومبرّر، لأنه استهدف القضاء على قيادات جماعة إرهابية، على الرغم من أنه في حقيقة الأمر ليس سوى عدوان سافر على دولة ذات سيادة، عضو في الأمم المتحدة ومجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وتربطها بالولايات المتحدة الأميركية علاقة خاصة قوية.
ولأنّ القيام بعمل عدواني على هذا القدر من الجرأة قد يتسبّب في تعريض الكيان لمخاطر جمّة، خصوصاً وأنه استهدف مبنى سكنياً يجتمع فيه قادة حماس لبحث اقتراح أميركي بوقف إطلاق النار، بل وفي وقف العملية التفاوضية برمّتها، وربما أيضاً في إثارة الشكوك حول طبيعة الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في حرب الإبادة التي تشنّ على قطاع غزة، يبدو واضحاً أنه ما كان لنتنياهو أن يقوم بما قام به من دون الحصول على ضوء أخضر أو إذن مسبق من ترامب مباشرة.
قياس فاعلية النتائج التي أسفرت عنها قمة الدوحة تستدعي الاحتكام إلى معايير واضحة ومحدّدة، أهمها:
1-حجم ما تحقّق من اتفاق بين الدول المشاركة فيها حول تشخيص أسباب ما وقع، ودوافعه، وأهدافه الحقيقية.
2-طبيعة الإجراءات المتخذة، سواء للحيلولة دون تمكين الكيان من تحقيق أهدافه، أو لمعاقبته على ما ارتكبه من جرائم وانتهاكات.
3-فاعلية الآليات المنوط بها ردع العدو ومنعه من تكرار عدوانه، أو معالجة أوجه الخلل والقصور الكامنة في بنية العمل العربي الإسلامي المشترك، والتي سمح وجودها بوقوع العدوان أصلاً.
ولا شكّ أنّ الفحص المدقّق لنصوص الكلمات التي ألقاها رؤساء الوفود في الجلسة الافتتاحية، من ناحية، ولنصّ البيان الختامي الذي صدر بعد اختتام أعمال هذه القمة، يمكن أن يساعد على استخلاص هذه المعايير، وهو ما نأمل أن يتضح من خلال الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: تتعلّق بتشخيص ما حدث وفهم دوافعه وإدراك حقيقة الأهداف المرجوة منه. فقد أجمع رؤساء الوفود، في الكلمات التي ألقوها في الجلسة الافتتاحية للقمة، على أنّ ما قام به الكيان يشكّل عدواناً غير مبرّر على دولة مستقلة، وانتهاكاً صارخاً لقواعد القانون الدولي وللأعراف الدبلوماسية والأخلاقية والإنسانية المستقرة، ويعدّ امتداداً لما يرتكبه في حقّ الشعب الفلسطيني من جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي، وأيضاً لما يرتكبه من جرائم في حقّ الإنسانية ككلّ. لذا فهو سلوك لا يستحقّ الإدانة فحسب وإنما يستوجب العقاب أيضاً.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المصطلحات التي استخدمها القادة العرب والمسلمون في وصف هذا العدوان كانت أقوى من الخطاب المعتاد، ومما درجت عليه الدبلوماسية العربية التقليدية في مناسبات مماثلة، فقد وصف بأنه "همجيّ" و"غادر" و"بربري" و"جبان" و"خسيس".. إلخ. وفيما يتعلّق بدوافع وأهداف هذا العدوان، أجمع الحاضرون على أنّ السلوك العدواني للكيان أمر طبيعي، لأنه كامن في بنية الأيديولوجية الصهيونية نفسها، وأنّ الهدف الرئيسي من الهجوم على قطر هو إفشال المفاوضات وتقويض فرص السلام ومواصلة الحرب إلى أن يتحقّق التهجير القسري للفلسطينيين، وبالتالي إفشال مساعي الوسطاء الرامية إلى إنهاء الحرب والتوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة.
الملاحظة الثانية: تتعلّق بالإجراءات المقترحة لمواجهة العدوان ومعاقبة المعتدي. فجميع الكلمات التي ألقيت في الجلسة الافتتاحية، التي غلب عليها الطابع البلاغي والإنشائي، وكذلك البيان الختامي للمؤتمر، الذي يقع في نحو 8 صفحات ويضمّ 25 فقرة، تخلو من أيّ إشارة إلى إجراءات محدّدة أو ملزمة سواء لمواجهة العدوان أو لمعاقبة المعتدي. وفيما عدا حثّ الوسطاء (مصر وقطر والولايات المتحدة) على مواصلة جهود الوساطة التي يقومون بها للتوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ربما تكون الفقرة الـ 15 من البيان الختامي، رغم ما تتسم به الصياغة من عمومية، هي الوحيدة التي تضمّنت المطالبة باتخاذ إجراءات عقابية ضدّ المعتدي.
فهي تنصّ على "دعوة جميع الدول إلى اتخاذ كافة التدابير القانونية والفعّالة الممكنة لمنع إسرائيل من مواصلة أعمالها ضدّ الشعب الفلسطيني، بما في ذلك دعم الجهود الرامية إلى إفلاتها من العقاب، ومساءلتها عن انتهاكاتها وجرائمها، وفرض العقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالأسلحة والذخائر والمواد العسكرية أو نقلها أو عبورها، بما في ذلك المواد ذات الاستخدام المزدوج، ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها ومباشرة الإجراءات القانونية ضدها".
يلفت الانتباه هنا أنها مجرّد "دعوة"، وليست قراراً أو حتى توصية، وأنّ الهدف المرجو هو "مراجعة العلاقات" وليس قطعها أو تجميدها، وأنها موجّهة إلى "جميع الدول"، وليس فقط إلى الدول العربية والإسلامية المطبّعة للعلاقات مع الكيان. وكان الأجدر اتخاذ قرار يلزم الدول الأعضاء بقطع أو تجميد هذه العلاقات، أو حتى مجرّد التهديد بقطعها أو تجميدها، وهو ما لم يحدث. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الفقرة الـ 16 تدعو جميع الدول الأعضاء إلى "تنسيق الجهود الرامية إلى تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة".
الملاحظة الثالثة: تتعلق بفاعلية الدور الذي يمكن للقمم العربية الإسلامية المشتركة أن تؤدّيه في المستقبل. فالجميع يدرك أنّ هذه الفاعلية تتطلّب إدخال إصلاحات جوهرية على آليات العمل العربي الإسلامي المشترك المعمول بها حالياً، ومع ذلك، وفيما عدا دعوات عامة تطالب بمزيد من "التضامن والتنسيق" بين العالمين العربي والإسلامي، خلت الكلمات التي ألقيت في الجلسة الافتتاحية، كما خلا البيان الختامي، من أيّ قرارات أو توصيات أو مقترحات محدّدة في هذا الشأن.
كان عدد من الكتّاب والمفكّرين في الدول العربية والإسلامية قد اقترح، قبل انعقاد قمة الدوحة، تشكيل نظام أمن إقليمي عربي ـــــ إسلامي تؤدّي فيه مصر والسعودية وتركيا وإيران دور القاطرة، لكن يتضح مما جرى في هذه القمة أنّ الأوضاع الداخلية في الدول العربية والإسلامية، وكذلك الأوضاع الإقليمية والدولية، لم تنضج بعد لتبنّي هذا النوع من الأفكار الراديكالية.
الملاحظة الرابعة: تتعلّق بالموقف من الولايات المتحدة الأميركية. فرغم حدّة العبارات التي استخدمها معظم القادة المشاركين في المؤتمر لإدانة السياسات الإسرائيلية، إلّا أنّ أحداً لم يجرؤ على توجيه أيّ نوع من الانتقادات للسياسات الأميركية، وهو ما حرص البيان الختامي للقمة على تجنّبه أيضاً. وليس لهذا الصمت المريب من تفسير سوى أنّ العلاقات التي تربط معظم الأنظمة الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي بالولايات المتحدة تبدو أقوى بكثير مما يبدو على السطح، رغم انحياز الأخيرة المطلق لـ "إسرائيل". وما لم تتمكّن هذه الأنظمة من إعادة النظر في هذا العلاقات، والتي تندرج في إطار التبعية وليس الشراكة، فلن يكون بمقدورها إفشال المحاولات المبذولة حالياً لتصفية القضية الفلسطينية أو التصدّي بأيّ قدر من الفاعلية للجهود الرامية لتمكين "إسرائيل" من الهيمنة على مقدّرات المنطقة.
لفت أنظار المراقبين ما تضمّنته الكلمة التي ألقاها الرئيس عبد الفتاح السيسي في الجلسة الافتتاحية من كلمات وعبارات غير مألوفة في الخطاب السياسي المصري. فللمرة الأولى منذ تولّيه رئاسة الدولة، استخدم السيسي كلمة "العدو" للدلالة على ما تقوم به "إسرائيل"، ما يعكس تغيّراً نوعياً في مزاج القيادة المصرية هذه الأيام، وقلقاً لا حدود له من ممارسات إسرائيلية لم تتردّد هذه القيادة في التأكيد أنها "تجاوزت أيّ منطق سياسي أو عسكري وكلّ الخطوط الحمر" واستدعت منها التوجّه بالخطاب إلى "الشعب الإسرائيلي" مباشرة، محذّرة إياه من أنّ "ما يجري حالياً يقوّض مستقبل السلام ويهدّد أمنكم وأمن جميع الشعوب في المنطقة ويضع العراقيل أمام فرص أيّ اتفاقات سلام جديدة، بل ويجهض اتفاقات السلام القائمة، وحينها ستكون العواقب وخيمة".
ولأنها المرة الأولى منذ التوقيع على معاهدة "السلام" مع "إسرائيل"، أي منذ أكثر من 46 عاماً، التي يتحدث فيها رئيس دولة مصري، وفي خطاب رسمي وعلني، عن أنّ هذه المعاهدة معرّضة للانهيار، يخشى أن تكون المنطقة حبلى بتغييرات كبرى خلال المرحلة المقبلة، في وقت يبدو فيه العالم العربي والإسلامي في أضعف حالاته.