"محور المقاومة" في مرآة "طوفان الأقصى"
"محور المقاومة" في المنطقة ارتبط عضوياً، نشأة وتطوراً، بالقضية الفلسطينية، وراح يتسع ليشمل، إلى جانب نواته الصلبة المشكلة من التحالف السوري-الإيراني كلاً من حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة.
يدرك الكيان الصهيوني أنه يخوض حرباً حقيقية متعددة الجبهات، وبطريقة غير مسبوقة في صراعه الطويل مع العالم العربي.
ظهر مصطلح "محور المقاومة" كنقيض لمصطلح "محور الشر" الذي صكه الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الابن عقب أحداث سبتمبر، للدلالة على السياسات المعادية للولايات المتحدة التي كانت تنتهجها إيران والعراق وكوريا الشمالية في ذلك الوقت.
ولأن مصطلح "محور الشر" حمل إيحاءات أيديولوجية وقيمية سلبية، فقد كان من الطبيعي أن يتعرض لانتقادات لاذعة. وقد نشرت مجلة "الزحف الأخضر" الليبية مقالاً عام 2002 جاء فيه أن رفض الهيمنة الأميركية على العالم هو القاسم المشترك بين سياسات الدول الثلاث التي تسمى "محور الشر"، ومن ثم فالأجدر أن تسمى "محور المقاومة".
وفي الوقت الحالي، يستخدم مصطلح "محور المقاومة" في منطقة الشرق الأوسط للدلالة على القوى التي تشارك معاً في تقديم الدعم العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، سواء كانت هذه القوى دولاً ذات سيادة، مثل إيران وسوريا، أو فاعلين من غير الدول، مثل حزب الله اللبناني وجماعة أنصار الله اليمنية، وبعض الفصائل العراقية.
والواقع أن هذا "المحور" لم يظهر فجأة إلى حيز الوجود، وإنما تعود جذوره الحقيقية إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي التي شهدت حدثين على جانب كبير من الأهمية: خروج مصر من المعادلة العسكرية للصراع مع الكيان الصهيوني عقب توقيعها على اتفاقيتَي "كامب ديفيد" في سبتمبر عام 1978، واندلاع ثورة إيران الإسلامية في يناير عام 1979.
ولأن سوريا هي الدولة العربية الوحيدة التي أيدت الثورة الإيرانية، ورأت في نجاحها عمقاً استراتيجياً للقوى الرافضة لفرض تسوية بالشروط الإسرائيلية على دول المنطقة، فقد شكل تحالفهما منذ تلك اللحظة النواة الأساسية للمحور المقاوم للمخططات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، والرافض لتصفية القضية الفلسطينية.
صحيح أن اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية، من ناحية، ثم إقدام العراق على غزو الكويت عقب انتهاء هذه الحرب، من ناحية أخرى، ساعدا على إعادة خلط الأوراق في المنطقة، وبالتالي مهدا الطريق نحو إقدام منظمة التحرير الفلسطينية على التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993 والأردن على التوقيع على اتفاقية "وادي عربة"، غير أن صمود التحالف الإيراني -السوري أدى إلى إفشال المخططات الرامية إلى فرض تسوية بالشروط الإسرائيلية على لبنان، وساعد في الوقت نفسه على دعم أقدام الفصائل الفلسطينية الرافضة لاتفاقية أوسلو وتثبيتها، وهو ما يفسر ظهور ثم صعود حزب الله ونجاحه في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، كما يفسر تصاعد المقاومة الفلسطينية المسلحة منذ ذلك الوقت، خصوصاً في قطاع غزة.
لذا يمكن القول إن "محور المقاومة" في المنطقة ارتبط عضوياً، نشأة وتطوراً، بالقضية الفلسطينية، وراح يتسع ليشمل، إلى جانب نواته الصلبة المشكلة من التحالف السوري-الإيراني كلاً من حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، غير أن الرياح لم تهب دائماً بما تشتهي سفن هذا "المحور".
ففي نهاية عام 2010 وبداية عام 2011 هبّت رياح "الربيع العربي" حاملة في طيّاتها تناقضات كثيرة أعادت خلط الأوراق في المنطقة مرة أخرى. فإلى جانب ما بشّرت به من نسائم الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، فجّرت في الوقت نفسه صراعات قبلية وطائفية وعرقية ودينية، أدت إلى اندلاع حروب أهلية وصراعات إقليمية ما زال العالم العربي يعاني منها حتى الآن.
وفي أتون هذه الصراعات، تعرضت سوريا لتدخلات إقليمية ودولية، خصوصاً من جانب دول الخليج العربي وتركيا والكيان الصهيوني والولايات المتحدة. ولولا الدعم العسكري الذي حصلت عليه من إيران وحزب الله وروسيا الاتحادية لتفككت وانهارت الدولة السورية ومعها "محور المقاومة". كما نشبت في الوقت نفسه خلافات عميقة بين حماس والنظام السوري أدت إلى إغلاق مكاتب الأولى في دمشق عام 2012، وانعكست سلباً على "محور المقاومة" الذي كاد يفقد خصوصيته كمحور مناهض للمخططات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، ولم تلتئم الجراح بين الطرفين إلا في نهاية عام 2022.
وخلال هذه الحقبة المضطربة، تمكن الكيان الصهيوني من شن سلسلة من الحروب الوحشية على قطاع غزة، خاضتها الفصائل الفلسطينية منفردة ومن دون جبهة إسناد من خارج القطاع. لذا، يمكن القول من دون أي مبالغة إن تنقية الأجواء بين حماس وسوريا كان عاملاً أساسياً ليس لتمهيد الطريق نحو إطلاق "طوفان الأقصى" فحسب، وإنما أيضاً في توحيد صفوف "محور المقاومة" ودفع مكوناته إلى المشاركة الفعلية في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي شنها الكيان على قطاع غزة.
من الثابت الآن أن حماس لم تتشاور مسبقاً مع أي من مكونات هذا "المحور" قبل أن تقرر منفردة القيام بعملية "طوفان الأقصى"، غير أن حجم الإنجاز الذي حققه "الطوفان" على الصعيد الاستراتيجي، ورد الفعل الإسرائيلي عليه، والذي اتسم بوحشية متناهية وبرغبة شريرة في الانتقام من الشعب الفلسطيني، ومحاولة انتهاز الفرصة لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، ساهما معاً في تعميق الوعي بأن حماس ليست وحدها المستهدفة، وأن هزيمتها ستمهد الطريق حتماً لإغراء الكيان بالانقضاض على باقي مكونات المحور.
ولأن حزب الله كان أول من أدرك هذه الحقيقة، فقد كان أول المبادرين إلى تقديم مساندة عسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة على الفور، ابتداء من يوم 8 تشرين الأول، أي من اليوم التالي للطوفان مباشرة، وتبعته جماعة أنصار الله اليمنية يوم 19 ثم الفصائل العراقية يوم 30 من الشهر نفسه، ما أدى إلى تحوّل الجولة الحالية من الصراع المسلح مع المشروع الصهيوني إلى صراع بين الكيان الصهيوني ومحور المقاومة الذي حدد لنفسه هدفاً واضحاً كل الوضوح، ألا وهو عدم السماح بهزيمة حماس تحت أي ظرف من الظروف.
لذا، يتوقع أن تكون لهذه المشاركة نتائج بعيدة المدى على موازين القوى في المنطقة ككل، خصوصاً وأنها تجري في ظل أوضاع يبدو فيها النظام العربي الرسمي ليس مشلولاً فحسب، وإنما يكاد يكون منحازاً إلى الكيان الصهيوني نفسه، ومتخوفاً من احتمال خروج محور المقاومة من هذه الجولة منتصراً ومرفوع الرأس.
لا شك في أن الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة في قطاع غزة تحمّلا العبء الأساسي في هذه الجولة من الصراع المسلح، وإليهما يعود الفضل الأكبر في الصمود الذي تحقق حتى الآن. فالشعب الفلسطيني قدم ما يقرب من خمسين ألف شهيد ومئة ألف جريح وحرم من الماء والطعام والدواء، لكنه ظل رغم ذلك متمسكاً بأرضه ورفض التهجير والرحيل القسري مهما بلغت تضحياته، أما فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وعلى رأسها حماس، فقد حققت صموداً أسطورياً يبلغ حد الإعجاز، إذ تمكنت من خوض حرب استنزاف ناجحة لمدة عام كامل في مواجهة آلة حرب جهنمية مزودة بأحدث وأكثر التقنيات تطوراً في العالم.
ومع ذلك، يجب عدم التقليل من الدور الذي لعبته، وما تزال، بقية مكونات محور المقاومة. فقد قدم حزب الله تضحيات هائلة في الأرواح والمعدات، ونجح في إجبار الكيان الصهيوني على حشد عدة فرق عسكرية على الحدود اللبنانية، مسهماً بذلك في تخفيف العبء العسكري على الفصائل في القطاع، وفي إجبار ما يقرب من مئة ألف مستوطن على إخلاء المناطق المتاخمة، بكل ما يمثله ذلك من عبء اقتصادي على الكيان.
أما جماعة أنصار الله اليمن، والتي أذهلت الجميع بتصميمها وقدراتها، فقد نجحت في خنق ميناء "إيلات" وشل الحركة التجارية فيه، عبر إغلاق باب المندب في وجه السفن المتجهة إليه، بكل ما يمثله ذلك من خسائر للكيان، وعبر السيطرة على أعالي البحار في هذه المنطقة، بكل ما يمثله ذلك من تحد لهيبة الولايات المتحدة ومكانتها، بل ونجحت كذلك في الوصول إلى قلب "تل أبيب" بالمسيرات والصواريخ الباليستية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تأثيرات نفسية ومعنوية بالنسبة إلى كل سكان الكيان، كما نجحت فصائل المقاومة العراقية في توجيه ضربات مؤثرة لا يجوز التقليل من شأنها أو من أهميتها.
يدرك الكيان الصهيوني أنه يخوض حرباً حقيقية متعددة الجبهات، وبطريقة غير مسبوقة في صراعه الطويل مع العالم العربي، كما يدرك في الوقت نفسه أن زمن الحروب الخاطفة والانتصارات السريعة قد ولى إلى غير رجعة، وبالتالي فلن يستطيع تحقيق الانتصار في الحرب الحالية إلا إذا تمكن من إلحاق الهزيمة بكل مكونات محور المقاومة، وليس بحماس وحدها، وهو أمر خارج نطاق قدراته وإمكانياته الفعلية، خصوصاً في ظل حالة الاستنزاف التي يمر بها حالياً. صحيح أن بإمكانه القيام بعمليات مبهرة، تؤكد تفوّقه على الصعيدين الاستخباري والتكنولوجي، مثلما نجح في اغتيال قادة لبنانيين وفلسطينيين كبار، من أمثال فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية وإسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية، ونجاحه مؤخراً في تفخيخ أجهزة نداء آلي "البيجر" تسببت في سقوط عدد من الشهداء وجرح ما يقرب من ثلاثة آلاف مواطن لبناني. غير أنني أعتقد أن هذه العمليات الاستعراضية لن تحقق نصراً استراتيجياً للكيان، بل وتؤكد عجزه عن شن حرب شاملة ومفتوحة على حزب الله، وبالتالي لن تنجح في إجباره على الخروج من حلبة الصراع.
لذا، فليس أمامه سوى الاختيار بين بديلين: القبول بوقف إطلاق النار بشروط حماس أو خوض حرب إقليمية قد تكون هي بداية النهاية بالنسبة إليه. أظن أن الأسابيع القليلة القادمة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل المنطقة.