تقرير: مدينة قابس التونسية التي كانت مكاناً مثالياً أصبحت "كابوساً بيئياً"
مدينة قابس المعروفة بأنها "جوهرة بيئية" من الواحات الخضراء، أصبحت اليوم مليئة بالسرطان والأمراض بسبب التلوّث الكيميائي.
-
مشهد للشاطئ قرب مجمع الفوسفات التابع للمجموعة الكيميائية التونسية بمدينة قابس في تونس (رويترز)
تحت سماءٍ مُغطاة بالضباب الدخاني، تكتسي مياه قابس، التي كانت لامعةً في السابق، في جنوب تونس بلونٍ صدئٍ داكن. الأشجار تموت، والأسماك تختفي، وتفوح رائحةٌ خانقةٌ في الهواء. وكانت المدينة معروفة منذ جيل من الزمان بأنها "جوهرة بيئية" من الواحات الخضراء، لكنها اليوم أصبحت أرضاً قاحلة سامة مليئة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي وأمراض العظام.
ووفقاً لوكالة "رويترز"، يقول السكان والمدافعون عن البيئة والمسؤولون إن "المتّهم هو مصنع لمعالجة الفوسفات تديره المجموعة الكيميائية التونسية المملوكة للدولة (CGT) والتي تطل مداخنها على الشواطئ المليئة بالقمامة".
وفي هذا الشهر، انفجر الغضب تجاه المصنع ليصبح أحد أكبر التحديات التي يواجهها الرئيس، قيس سعيد، منذ توليه السلطة في 2019. وأطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين الذين اقتحموا المجمع، وعاد الآلاف إلى الشوارع يوم الأربعاء الماضي. ووصف الرئيس الأوضاع في قابس بأنها "اغتيال بيئي"، لكنه ألقى باللوم على حكومة سابقة ودعا الوزارات إلى إصلاح التسريبات الكيميائية.
وعلى النقيض من الاحتجاجات الأخيرة ، فإن المتظاهرين في قابس لا يطالبون بالحريات المدنية، بل بإنهاء الظروف التي يجدونها لا تطاق. حيث قال صفوان كبيبيه، وهو ناشط بيئي محلي، لـ"رويترز"، إن "مصنع معالجة الفوسفات سمّم كل شيء - الأشجار والبحر والناس. حتى رمان قابس أصبح طعمه الآن كطعم الدخان".
دعونا نتنفس
شُيّد مجمع قابس قبل نصف قرن، وهو أكبر مصنع لمعالجة الفوسفات في تونس، ويُشكّل أكثر من نصف إنتاجها. تُوفّر هذه الصناعة إيرادات حيوية للحكومة التي تُعاني من ارتفاع الديون وضعف النمو. لكن السكان يصفون التكلفة بالباهظة. ففي بلدتي غنوش وشط السلام الواقعتين على أطراف المحطة، يصعب العثور على عائلات لم تتأثر حياتها بالمرض والفقد.
ووصفت ريميل الحاجي، 45 عاماً، كيف بدأت ابنتها البالغة من العمر تسع سنوات تلهث وتمشي ببطء منذ حوالى شهر، إلى جانب العشرات من الطلاب الآخرين الذين تأثروا على ما يبدو بالانبعاثات السامة. وتعتمد الفتاة اليوم على والدتها لمساعدتها حتى في الحركات البسيطة - نتيجة لضرر عصبي، كما قالت الحاجي، بسبب الاختناق.
على بُعد كيلومترين تقريباً، تعيش أمينة منصور، البالغة من العمر 53 عاماً، في منزل متواضع من الطوب، يملؤه الغبار وبقايا المواد الكيميائية. في الداخل، تمتلئ رفوفها بأدوية لعلاج هشاشة العظام وسرطان الحلق الذي اكتشفته قبل ست سنوات.
قالت: "أخبرني الأطباء أنني بحاجة لمغادرة هذه المدينة للبقاء على قيد الحياة. لكن إلى أين نذهب؟ هذا وطننا". وأضافت أن ستة من أقاربها في العائلة تم تشخيص إصابتهم بالسرطان، وقالت: "هذا التلوث يقتلنا ببطء".
ويُلقي السكان باللوم أيضاً على المصنع بشأن انهيار مخزون الصيد. وصرّح أحد الصيادين، ساسي عليا، لـ"رويترز" بأن صيده اليومي كان يُدرّ عليه ما يصل إلى 700 دينار تونسي (240 دولاراً أميركياً).
"مثل منطقة حرب"
ووجدت مراجعة أجراها خبراء للمصنع في شهر تموز/يوليو 2025 بتكليف من CGT "مخالفات خطرة في ما يتعلق بالمعايير الوطنية والمتطلبات الدولية"، وفقاً لنسخة اطلعت عليها "رويترز".
وأفاد التدقيق بأن "المجمع ألقى ما بين 14,000 و15,000 طن من الجبس الفوسفوري (يحتوي على الراديوم المشع) في البحر وعلى طول الساحل يومياً، إلى جانب انبعاثات عالية من الأمونيا وأكاسيد النيتروجين والكبريتات. وقد ألحقت هذه المخلفات أضراراً بالغة بأحواض الأعشاب البحرية، وأدت إلى تصحر مساحات بحرية واسعة".
وأشارت "رويترز" إلى أنه بين الاضطرابات وتراجع المالية العامة، تعهدت السلطات بإعادة تأهيل المحطة. لكن هذه الخطط لم تُهدئ النشطاء والسكان الذين يقولون إنهم على حافة الانهيار.
وقال كبيبية، الناشط البيئي: "مقابل كل طن من الفوسفات المُعالَج، تُزهق روح. لكننا لن نتخلى عن أرضنا. سنواصل النضال حتى تستعيد قابس أنفاسها".