انتصار تمّوز 2006.. الحرب التي بلورت "محور المقاومة"

الانتصار الكبير والمحوري لحزب الله في حرب تمّوز 2006، مثّل إيذاناً مفصلياً لمرحلةٍ جديدةٍ من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، فكيف أسّس بدء "زمن الانتصارات" الذي أرادته المقاومة؟

  • انتصار تمّوز 2006.. الحرب التي أسّست لزمن المقاومة
    انتصار تمّوز 2006.. الحرب التي بلورت "محور المقاومة"

"عندما كانت عناقيد الغضب عام 1996، أو تصفية الحسابات عام 1993، في البداية كانت يده (الإسرائيلي) أعلى وكانت ظروفنا أصعب، أما اليوم فالوضع مغاير، وثقوا بي تماماً بأن الوضع مغاير. ما هو مطلوب فقط أن نصبر، وأن نصمد، وأن نواجه، وأن نتوحد. كما كنت أعدكم بالنصر دائماً، أعدكم بالنصر مجدّداً".

كان هذا مقتطفاً من الحديث الأول للأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في الرابع عشر من تمّوز/يوليو 2006، بعد بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان.

في الحديث الأول، الذي وجّه السيد نصر الله رسائله إلى الشعب اللبناني، ومجاهدي المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله)، وإلى العدو الصهيوني، أشار بصورة واضحة إلى مفصلية الحرب، التي كانت بدأت حينها، والتي ستؤسّس مرحلة جديدة كلياً في تاريخ الصراع مع العدو، والتي ستكون مفاعيلها حاضرةً مع مستقبل وجود المقاومة في المنطقة بأكملها.

هنا، محاولةٌ للحديث سياسياً عن الإشعاع الكبير الذي أنار المنطقة عبر انتصار تمّوز 2006، وكيف قاد الانتصار القوي والمدوّي للمقاومة في الحرب الأصعب، إلى بداية مسار بناءٍ واعد، وتحقيق إنجازاتٍ بحجم نتيجة الحرب، وتحقيق انتشارٍ لفواعل مقاومةٍ تدخل في صناعة المعادلات السياسية وتثبيتها إقليمياً.

تمّوز 2006.. تأريخ زمن المقاومة

كانت المرحلة، التي أعقبت ثِقل عقد التسعينيات تأخذ في التشكّل، وهو العقد الذي غلب فيه صدى توقيع "اتفاق أوسلو"، وما حمله من موجةٍ من اللهاث العربي الرسمي خلف سراب "السلام" مع العدو، والإمعان في توجيه الانتقادات إلى المقاومة وجدواها، ليدشّن انتصار تمّوز المرحلة، ويملأ صدى المقاومة الأسماع.

أتى انتصار المقاومة في الحرب، التي خاضتها باقتدارٍ كبير منذ البداية، مُثبِّتاً خيار المواجهة وجدوى المقاومة رقماً لا يُكسر في المعادلات في لبنان والمنطقة.

كما ساهم انتصار تمّوز – عبر تكريس استحضاره وتراكم الإنجازات التي بُنيت على قراءةٍ معمّقةٍ ترتبط به - في إطلاقٍ رسمي مدوٍّ لزمن الانتصارات الذي أرادته المقاومة، وهو الذي جاء سريعاً بعد الإنجاز الكبير الذي بدأ في القرن الحالي، ونقصد هنا تحرير جنوبي لبنان، في أيّار/مايو عام 2000؛ وهو الحدث الذي أثبت أنّ المقاومة قادرة، وتستطيع، ويجب أن يُنصَت إليها.

تحرّر جنوبي لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، في مشهد انسحابٍ إسرائيلي فوضوي مُذلٍ للجيش الذي كان بالأمس القريب يتفاخر بأنّه "لا يُهزَم"، لتبدأ بعده بنحو أربعة أشهرٍ فقط انتفاضة الأقصى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو ما عُرِف بالانتفاضة الثانية، والتي فشل الاحتلال الإسرائيلي في تطويقها - فضلاً عن إيقافها -، وتستمر في التصاعد الذي تسيّد المشهد، حتى ارتسمت صورةٌ مشرقة أحدثُ فلسطينياً، من خلال الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، بعد اشتداد خسائره أمام عمليات المقاومة وإصرارها هناك.

حتى دخل تمّوز/يوليو 2006 بثِقل ما حمله على الاحتلال، وهو ثقلٌ في مختلف المستويات في الكيان، رسمياً وشعبياً، مُحقّقاً الحدث القنبلة: "إسرائيل" هُزمت.

يُقرَأ النصر بصورة أولية سياسياً، عند التذكير بالكسر المباشِر والحاسم لإرادة الهيمنة الأميركية المُعلَنة في الهدف من الحرب، والداعي إلى تقديم الدعم الأميركي المُطلق إلى الاحتلال. فالمسؤولة الأولى للدبلوماسية الأميركية حينها، كوندوليزا رايس، كشفت بوقاحةٍ إمبريالية معهودة حقيقةَ الصراع، عبر قولها إن "ما نراه هنا، على نحو ما يتصاعد، هو آلام مخاض ولادة شرقٍ أوسط جديد. ومهما فعلنا، فعلينا أن نكون على يقينٍ من أنّنا نتقدم وندفع في اتجاه شرقٍ أوسط جديد، وليس العودة إلى القديم".

فشلت حرب أميركا و"إسرائيل"، وانقلبت هزيمةً مُرّةً على مُختلف مؤسّسات كيان الاحتلال، وكُسِر معها مشروع الإمبريالية الجديد للشرق الأوسط، وتثبّتت المقاومة فاعلاً سياسياً وأمنياً أساسياً في لبنان والمنطقة، وانطلقت في اتجاه أداء دورٍ إقليمي، تسعى اليوم عدّة محاولاتٍ لفهمه ومقاربته أكاديمياً، نزولاً عند أهميته.

بل إنّ المقاومة وصلت إلى المرحلة التي يتمّ فيها الحديث والنقاش بصورة جادة بشأن السيناريوهات التي ستؤدي إلى نتائج كارثية على قيادة كيان الاحتلال ومؤسّساته وجبهته الداخلية وصورة جيشه، وذلك عند تمكّن مقاتلي حزب الله من السيطرة على مستوطنات وتجمعات للاحتلال شمالي فلسطين المحتلة، وهو الحديث الذي أخذ في التصاعد مؤخراً بصورة كبيرة في الأوساط الإسرائيلية.

حربٌ تراكمت مفاعيلها محوراً للمقاومة

"الحرب أداةٌ للسياسة، هي ليست ظاهرةً مستقلة، لكنّها امتدادٌ للسياسة عبر وسائل أخرى".

هكذا وصف الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي، كارل فون كلاوزفيتز ‏ (1780 - 1831)، الحربَ في كتابه الشهير: "عن الحرب". وهو الكتاب الذي يُعَدّ أساسياً في الدراسات العسكرية العالمية.

ترتبط السياسة ارتباطاً وثيقاً بالحرب، تتحكم فيها، ثمّ تُوظَّف الحرب بعد النصر سياسياً، وهو الأمر الذي نجحت حرب تمّوز ونتائجها، في المُحصّلة العملانية، وعبر مواظبة البناء على الإنجاز الذي حدث، في إيضاحه جيداً، وإحالته نموذجاً واقعاً في منطقتنا وطبيعة الصراع فيها.

لم تنتهِ الحرب وتسجّل المقاومة انتصارها الكبير، حتى بدأت حركةٌ نشطة وواسعة، مهمتها بناء قدرة المقاومة وتعزيزها، داخلياً في لبنان، عبر ترميم القدرات وتطوير القوة، وخارجياً، من خلال تحقيق ضرورة فرضها الواقع الجديد، وهو تعميق العلاقات العابرة للحدود بفواعل المقاومة في المنطقة، ومدّ جسور التنسيق والعمل لتكريس الإنجاز.

ترسّخ ثبات المقاومة اللبنانية على خيارها بعد إنجاز النصر وما تلاه، نزولاً عند اعتبار أنّ الاحتلال ما زال يحتل مساحاتٍ من أرضٍ لبنانية في كل من مزارع شبعا وبلدة الغجر، وأنّه مُستمر في محاولة السيطرة على أيّ موارد ومقدّراتٍ في المنطقة، وهو ما يستوجب منها تكريس الإعداد والتجهيز والتطوير في القوة النارية ومختلف القدرات والخبرات، فكانت ضرورة توسيع المقاومة.

يُسجَّل لانتصار تمّوز أنّه نقل الوعي العربي والوعي الإسلامي نقلةً نوعية في اتجاه التفكير في انتصارٍ لاحق على "إسرائيل"، وبثِّ نَفَسٍ عارمٍ في المنطقة، يؤمن بالقدرة على مهاجمة الاحتلال بصورة أوضح وأقوى وأشدّ جرأة، وتثبيت مقولةٍ بدلاً من أخرى: "إسرائيل" هذه أوهن من بيت العنكبوت، بديلة من "الجيش الذي لا يُهزَم".

تحقّقَ أبرز المفاعيل مباشرةً في فلسطين: النموذج المقاوم اللبناني محطّ إعجاب واعتزاز كبيرين، وضرورةٌ غدا من الواجب أنّ تنتقل تفاصيل تحقيقها إلى المقاومة الفلسطينية، لتتسارع جهود الدعم والتطوير ونقل الخبرات والقدرات لإمداد أجنحة المقاومة العسكرية، أساساً في قطاع غزة، لتشترك مرحلياً في حراكٍ أوسع وتنسيقٍ أشمل يشتركان في الهدف الرئيس المقدس: إزالة "إسرائيل" من الوجود.

اقرأ أيضاً: الميادين نت تحاور قوى محور المقاومة: اقتربت لحظات النصر و"إسرائيل" إلى زوال

مِن تمّوز إلى "سيف القدس" حتى معادلة الحرب الإقليمية

مرّت 17 عاماً على تمّوز/يوليو 2006، قرابة العقدين من الزمان، دخلت خلالها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عدّة مواجهاتٍ عسكرية مؤثّرة ومفصلية، لا تنفصل قراءتها عن قراءةٍ في التنسيق الذي لم يتوقف بين الفصائل المقاوِمة في فلسطين وحزب الله؛ بدأت بالمواجهة الأولى، "معركة الفرقان" (كانون الأول/ديسمبر 2008 – كانون الثاني/يناير 2009)، مروراً بمعارك "حجارة السجيل" عام 2012، و"العصف المأكول" عام 2014، و"سيف القدس" المفصلية عام 2021.

يؤكّد مراقبون ومختصون أنّ تطور أداء المقاومة في مختلف مستوياته، سواءٌ من حيث القوة والقدرات واستخدام التكتيكات العسكرية، وتفعيل مدى كثافة النيران، أو من حيث التحكم في العمل الميداني وترتيبه، بالإضافة إلى العمل المُتقدّم، بصورة ملحوظة، استخبارياً وأمنياً، مُرتبطٌ بصورة وثيقة بأحد أهم ما تمّ العمل عليه بعد انتصار تمّوز/يوليو، وهو ضرورة نقل خبرة حزب الله  وتجربته إلى المقاومة الفلسطينية لتحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل بإحاطة كيان الاحتلال بوجودٍ مقاومٍ قادرٍ على المواجهة وتحقيق النصر.

كما أنّ تضافر التنسيق بين مكونات المقاومة، بناءً على ضوررة تثبيت إنجاز تمّوز/يوليو، أسّس لاحقاً ظهور محور المقاومة، ثمّ تناميه وتوسعه وترسّخه في تفاعلات الصراع السياسية، وخصوصاً مع ما حقّقته التحولات الاستراتيجية التي عكستها معركة "سيف القدس" في أيّار/مايو 2021.

نخلص إلى أنّ تثبيت المعادلات، ووضع قواعد للاشتباك مع العدو الإسرائيلي، وإقامة توازنٍ للردع – بالإضافة إلى المحافظة عليه -، هي أبرز الأهداف التي نقيس من خلالها مدى الإنجاز والتطوير المنجَزَين كمقاومةٍ تسعى لمواجهة الاحتلال وإشغاله، وصولاً إلى طرده وإزالة وجوده الطارئ.

لقد نجح "محور المقاومة"، أو "حلف القدس"، في أنّ يُثبِّت المعادلات ويعكس تنسيقه وتفاهمه واقعاً عملياً، ويزداد صلابةً وتماسكاً، عبر استحضار معاركه وانتصاراته، والمراكمة على الإنجازات، من أجل المحافظة عليها.

في 25 أيّار/مايو 2021، وفي خطاب الذكرى الحادية والعشرين لعيد المقاومة والتحرير، أطلق السيد نصر الله المعادلة التي يجب الوصول إليها، وهي ما أكّده في قوله إن "المساس بالقدس يعني حرباً إقليمية"، موضحاً أنه "حين يدرك الإسرائيلي أنّه أمام هذه المعادلة فسيعرف أن أي خطوة ستكون نتيجتها زوال كيانه".

ولتأكيد مستوى الانتقال المتقدِّم في خطاب المقاومة المدروس ومستواه، نستذكر حديثاً وجّهه القائد العام لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، محمد الضيف، إلى الاحتلال الإسرائيلي، في 29 تمّوز/يوليو 2014، في أثناء معركة "العصف المأكول"، بحيث قال "إنّ ما عجزت عن إنجازه الطائرات والمدفعية والزوارق الحربية (الإسرائيلية)، لن تُحقّقه القوات المهزومة على الأرض، والتي باتت بفضل الله تعالى صيداً لبنادق المجاهدين وكمائنهم"، مؤكّداً، في البيان نفسه، أنّ العدو "أوقع جيشه المهزوم في ورطة ما يسمى العملية البرية".

كما يحضر بقوة حديث السيد نصر الله في خطابٍ له، في أيّار/مايو 2019، ومفاده أنّ "الفِرق والألوية الإسرائيلية، التي ستفكر في الدخول لجنوبي لبنان، ستُدمر وتُحطم وأمام شاشات التلفزة العالمية".

ختاماً، نستحضر أنّ الاحتلال عندما بدأ عدوانه في تمّوز/يونيو 2006، أعلن أنّه ذاهب إلى هزيمة حزب الله وتدميره، لنسمع اليوم بكلٍ وضوحٍ أنّه يعلن على ألسنة مسؤوليه أنّ "حزب الله يردعنا".

اقرأ أيضاً: إعلام إسرائيلي: حزب الله يدرك أننا بلا قيادة وهدّدنا عبر "رسالة" بأنه مستعدّ للحرب

اخترنا لك