التونسيون "فهموا" قبل أن "يفهمهم" بن علي
في 14 كانون الثاني/يناير 2011، سَمِعَ العالم صوتَ رجل ٍأشيَب. كان يقول بلهجته التونسية رافعاً يديه "بن علي هرب ... بن علي هرب".
لكن يبدو أن عملية الرصد هذه لن تُفضي إلى تكوين صورة مُكتملة التفاصيل. العوائق أمام هذا عديدة. ولذلك فإن جزءاً من التونسيين لا يزال يقيم في ذاكرته. تحديداً أولئك الذين قدّموا ما استطاعوا خلال الثورة، وكانوا اختبروا قبلها كل صنوف العذاب في مُعتقلات بن علي. هؤلاء وكأنهم ينتظرون بعيونٍ ساهمة أن يتحقّق ما سعوا إليه، وهم يعاينون مدهوشين ما أصبحت عليه حال البلاد بعد ست سنوات.
في ذلك التاريخ استطاعت الكاميرات أن توثّق لوجوه تقتحم المُخيّلة كلما أتى الحديث عن الثورة. لكن ثمة وجوه أخرى كان لها الدور نفسه وشاءت الصُدَف أن العدسات لم تصل إليها.
لكن على الرغم من ذلك، فإن البداية الرسمية لكل مَن وثّق الثورة التونسية هي 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010. حين قامت الشرطية فايدة حمدي بصَفع محمّد البوعزيزي الذي حاول الاستعانة على سوء وضعه الاقتصادي ببيع الخضار جائلاً بعربته.
وسواء كان هذا حصل فعلاً أم لا، لإنكار حمدي هذا الأمر واتّهامها نظام بن علي باستخدامها كبش فداء، فقد حاول البوعزيزي الاحتجاج لكنه رُدّ خائباً. لا قيمة للمسحوقين ليحتجّوا أمام السُلطة. عليهم القبول بما هم عليه. لكن البوعزيزي قرّر حرق جسده أمام مبنى محافظة سيدي بو زيد. في احتراق الجسد ألف لسان صارِخ. هذا ما فعله الشاب العشريني، وإن يصعب التكهّن بما أراده حقاً من الناس بإحراقه لنفسه. لكن ما حدث بعد ذلك كان عظيماً.
فقد انتظم مئات الشبّان ممَن يشتركون مع البوعزيزي في البطالة المُعلنة والمُقنّعة، في تظاهرات واحتجاجات أمام المقار الرسمية في سيدي بو زيد. لم يتوقّف الأمر هنا، فمع تزايد قمع الشرطة للمُحتجّين، وغياب أية تغطية من الإعلام الرسمي، كان التونسيون يتداولون ما يحصل لحظة بلحظة.
وتم ذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ومن خلال الأساليب التقليدية أيضاً، أي الهواتف الثابتة والرسائل النصيّة الجوّالة، فضلاً عن الإنباء مشافهة.
هكذا، امتدّت رُقعة الاحتجاجات إلى المُعتمديات، أي المدن الصغيرة التابعة للمحافظة، ومنها مُعتمديات منزل بوزيان ومكناسي وجلمة والمزونة جنوب تونس، التي نزل أهلها إلى الشوارع تضامناً مع شبّان سيدي بو زيد.
في الفترة القلقة التي امتدّت لنحو أسبوع قبل اتّساع رُقعة الاحتجاجات، حاول الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إيجاد تسوية ما. فزار البوعزيزي في المستشفى واقترح إرساله للعلاج في الخارج. لكن الأخير مات، وكانت أخبار الانتفاضة الشعبية قد عمّت أرجاء تونس.
وفي الخامس والعشرين من الشهر نفسه، وصلت تحرّكات التونسيين إلى العاصمة، في حين لم تكن قد وطأت محافظات أخرى. نفذ نقابيّون وحقوقيون وقفة تضامنية مع أهالي سيدي بو زيد احتجاجاً على قمع القوات الأمنية لهم واستخدام الأخيرة للرصاص الحيّ. ثم في صباح اليوم التالي، كانت صفاقس والقيراون والقصرين وغيرها على موعد مع تحرّكات احتجاجية على البطالة وإعلان مؤازرة أهالي سيدي بو زيد.
وإذ تواصلَ تجاهُل الإعلام الرسمي لما يحدُث في البلاد، لم يكن أمام التونسيين إلا حمل هواتفهم لنقل ما يجري. صوتيّة من هنا، ومقطع فيديو من هناك، ومنشورات على فيسبوك وتويتر، كلها ساهمت في معرفة الناس بما يحصل.
محاولة نظام بن علي الالتفاف على ما يجري، دفعته إلى بثّ خطاب مُتلفز على القناة السابعة 7، دان فيه ما قيل إنها " أعمال شغب"، مُتعهداً بالتطبيق الحازِم للقانون "ضدّ المأجورين والمُتطرّفين".
لكن هذا الخطاب كان من شأنه تسعير ردود الفعل، واعتبار كلمة بن علي إعلاناً صريحاً للمضيّ في سياسة القمع. قُتِل ثلاثة أشخاص وجُرِح آخرون في مواجهات مع قوات الأمن في بنزرت بتاريخ 3 كانون الثاني/يونيو 2011. وعلى الرغم من محاولة بن علي استخدام بعض المسؤولين كبش فداء، كإقالته لوزير الداخلية، إلا أن القمع كان لا يزال مستمراً واستطاع العديد من التونسيين ضخّ الصوَر ومقاطع الفيديو لما سعوا فيه إلى كشف تسويف بن علي للحقائق.