"ساحة المولد".. كيف تتجلّى ملامح احتفال السودانيين بولادة النبي الأكرم؟
يحرص الشعب السوداني على جعل المولد النبوي الشريف "أيامَ عيد" من خلال احتفالات وفعاليات تضمّها "ساحة المولد" في كلّ مدينة وقرية سودانية. هذه الاحتفالات تظهر جانباً من ثقافة المجتمع السوداني.
من اليوم الأوّل لشهر ربيع الأوّل ولغاية اليوم الأخير منه، يحتفل السودان بالمولد النبوي الشريف ضمن أجواء تتميّز بها مدنه وقراه عن غيرها، ربما ليس بين الدول الأفريقية والعربية والمجتمعات الإسلامية فحسب، إنما أيضاً مقارنة بأيّ أجواء أخرى في مختلف القارات والدول.
نجد في كلّ مدينة سوادنية ما يُعرف بـ"ساحة المولد" التي يخصّصها أهلها لهذه المناسبة من كلّ عام. تبدأ الترتيبات قبل النصف الثاني من شهر صفر الهجري، ومن خلال نصب الخيام وتجهيزها للحدث، لتستقبل المحتفلين ليلاً نهاراً على مدار الأيام.
تنطلق مواكب "الزّفة" من الميادين العامة قبل يوم من دخول شهر ربيع الأوّل، معلنةً بدأ المراسم الاحتفالية، ويتخلّلها رفع الرايات والأعلام، والهتاف بالأناشيد، وعزف الموسيقى، وقرع "النُّوبَات"، وهي طبول كبير جداً تعد من الآلات الموسيقية الشعبية في البلاد.
تجول "الزّفة" الأزقة والشوارع، ناشرةً معها كلّ الحماسة، ومستقطبة الكبير والصغير، قبل أن تصل إلى "ساحة المولد" في المدينة. وهناك، عقب صلاة العصر، يُرفع العلم السوداني على السارية على وقع النشيد الوطني إيذاناً بافتتاح الفعاليات في الساحة.
تزدحم "ساحة المولد" بالنّاس ضمن حلقات وتجمّعات، وتتوسطها الدائرة الأكبر. تبدأ المدائح النبوية والتواشيح والقصائد والأناشيد الدينية التي تتضمّن سيرة النبي محمد وتمجّده، والتي يتفاعل معها الناس ضمن حركات ابتهاجية.
وفي بعض الاحتفالات، يصطف عشرات الرجال بشكل دائري، ويتمايلون على وقع ضربات "الطّار" المصنوع من الجلد الناعم، ويردّدون بين الحين والآخر "حيّ قيُّوم"، إلى حين موعد صلاة الفجر، وتشتعل بينهم "نار التقابة" في رمزية للكرم و"قيام الليل"، بحسب المعتقدات السودانية.
كذلك، يتعرّف الناس وصغارهم إلى الأحاديث والسيرة النبوية، ويرتلون القرآن الكريم. وتُقدّم في هذه الأجواء الولائم والملابس للفقراء والمحتاجين.
يحرص الشعب السوداني على جعل هذه الأيام "أيامَ عيد"، على غرار عيدي الفطر والأضحى (في المناسبات الإسلامية). وإضافة إلى الأجواء الدينية، فإنّ الساحة تكتظّ بالباعة، ومنها محال الحلويات المشهورة في هذه المناسبة، فللكبار "الفولية والسمسية"، وللصبية حصان مصنوع من الحلوى عليه فارس، وللبنات "عروس المولد" المزيّنة.
تشتري العائلات السودانية أيضاً الملابس الجديدة والهدايا، بما يطبع صورة وذكرى جميلة في أذهان الأطفال، تساهم في حفظ هذه الأجواء الاحتفالية جيلاً بعد جيل، باعتبارها "سُنّة حسنة"، رغم تبدّل أنماط الحياة على مدار العقود.
تمثل "ساحة المولد" التي تحضر فيها جميع أطياف الشعب السوداني المهتمّ بالذكرى النبوية تقاليد شعبية تساهم كلّ عام في لمّ الشّمل وشدّ أواصر الروابط والعلاقات الاجتماعية في البلد. وقد حملت هذه الأجواء وما يُتلى فيها دعوة إلى ضرورة التسامح بين الجماعات المختلفة، ولا سيّما الإسلامية، ونبذ العنف والتطرف.
تستمر الفعاليات في ساحات المولد مدة 12 يوماً متواصلاً، فيكون يوم 12 ربيع الأوّل المعروف بـ"وقفة المولد" ذروة الاحتفال والفعاليات، فمن لم يحضر بعدُ، لن يفوّت على الأقلّ الفرصة الأخيرة. ومساءً، تشهد "ساحة المولد" الليلة الختامية التي تعرف بـ"القفلة"، إلا أنّ الاحتفالات لا تنتهي في مختلف الأماكن الكبيرة والمساجد وفي المنازل، وحتى في الأحياء والطرقات.
صرح فكري وأدبي
تتسع فعاليات "ساحة المولد" للخطب التي تتطرق إلى حال المسلمين في البلاد وواقعهم. وتشمل الخطب الدعوات للإصلاح وتحسين الأوضاع في البلاد، وتشكل فرصة لمناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية. وقد حملت خلال العقود قضايا تناهض الاستعمار وتاريخه.
من بين أشهر القصائد السودانية في ذكرى المولد النبوي، قصيدة للشاعر الراحل الشاعر محمد المهدي المجذوب، وفي أبياتها: " ليلة المولد يا سر الليالي والجمال... في ظلام بشر الآفاق بالصبح الجديد والوعود".
فرصة لدفع القطاعات الاقتصادية
من ناحية أخرى، تحرّك "ساحة المولد" وفعالياتها عجلة السوق الاقتصادي في البلاد، من خلال دفع سلسلة من القطاعات، إذ تمثّل المناسبة موسماً تجارياً للعديد من المحال، وفرصةً لعرض بضائعهم ومنتجاتهم في ساحات المولد، بما يساهم في تحقيق دخل إضافي.
وتستفيد من الحدث أيضاً أسواق الطباعة بكل أنواعها، وخدمات المناسبات العامة، وتجهيزات الصوتيات وغيرها مما يرتبط بلوجستيات الحدث، وتنشط حركة المواصلات على مدار اليوم حتّى أوقات متأخّرة من الليل، فيما توفر هذه المناسبة لآخرين فرصة عمل بذاتها.
على مستوى الدولة، فإنّها تحصّل الإيرادات من التصاريح التي تمنحها للمحال التجارية كي تتمكّن من فتح "كشك" لها في ساحات المولد، وتستفيد من الضرائب في العديد من النواحي.
حافظ الشعب السوداني على حيويّة "ساحة المولد" ورمزيتها كلّ عام في هذه الذكرى، وبقي يشدّد على التزام الجميع بالمشاركة، فهل تكون احتفالات المولد النبوي هذا العام؛ عام 1445 للهجرة، على الرغم من تقليصها بسبب الظروف الأمنية، فسحة أمل تدخل البهجة إلى قلب شعب يرزح منذ نيسان/أبريل الماضي تحت تداعيات الحرب التي أدخلت الملايين من أبنائه في أزمة إنسانية حادّة؟