ترميم حمام "النوري": أفخم حمامات طرابلس ينتظر العودة إلى الحياة
بعض الدراسات تخلص إلى أن قوة بناء الحمام، والحرفيّة العالية لمعلمي عصره، أبقتاه قوياً، متماسكاً، محافظاً على شكله العام، ولم تحدث فيه أي انهيارات، ولا يزال بنيانه بصورة جيدة إجمالاً، ما يجعل عملية الترميم واعدة.
-
حمام النوري من الداخل
يشهد حمام النوري الأثري في مدينة طرابلس شمال لبنان ورشة ترميم وتجديد كبيرة بإشراف المديرية العامة للآثار في وزارة الثقافة اللبنانية، ويتولى الترميم المعهد الأوروبي للتعاون والتنمية وجمعية خادمي الغد بالشراكة مع دائرة أوقاف طرابلس التي تعتبر الكتلة الأثرية المملوكية في عهدتها.
يجري تنفيذ المشروع في إطار دورة تدريب أثناء العمل على الترميم التقني، ولم تُحدَّد وجهة الحمام بعد إنجاز الورشة، وهل سيعود تشغيله كحمام، أم سيتحوّل إلى وجهة سياحية نموذجية، أم إلى متحف، ومن المبكر تحديد الوجهة بحسب مصادر الهيئات العاملة في الترميم.
المدخل إلى الحمام
داخل سوق الذهب في طرابلس، أحد أحياء المدينة القديمة المملوكية، باب خفيض يخبّئ في خلفيته مُنْشأةً ضخمة هي الحمام الأكبر، والأكثر أهمية بين بقية حمامات المدينة الأثرية مثل حمام العبد الذي لا يزال يعمل، ويؤدي وظيفته التقليدية، وحمام عز الدين الذي جرى ترميمه مؤخراً، والحمام الجديد، وحمام العطّار، علماً أن بعض الحمامات الأخرى قد أزيلت بأعمال ومشاريع عمرانية حديثة، خصوصاً مشروع توسعة مجرى نهر أبو علي في إثر الفيضان الذي تسبب بكارثة إنسانية أواسط خمسينات القرن الماضي.
لا تزال المنشأة قائمة بكل عناصرها البنيانية، وتراكيبها الوظيفية، رغم ما أصابها من تآكل، ورغم الطحالب والفطريات الخضرية التي نمت على جنباتها، وفي سقفها المتعدد القبب المختلفة الأحجام.
باحة الحمام تشير إلى فخامة، وازدهار تاريخي عفا عليهما الزمن، ولا تزال المنشآت والتجاويف، والطاقات، وبركة المياه التي تتوسطه، تتحدى الزمن مؤكدة أهمية المَعْلَم.
توقف الحمام عن العمل في السبعين من القرن الماضي، وهو يتكون من عدة أقسام، بدءاً من الجواني، فالأوسط، فالبرّاني، ولكل منها حرارة، وأبخرة معينة يوم كان يعمل.
مؤثرات سلبية وتحذير
الأبحاث التي وضعها "معهد الترميم والحفاظ على الأوابد التاريخية" التابع لمعهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، تذكر أن من أهم المؤثرات على الحمام هي الممارسات المباشرة للإنسان، وغياب الصيانة، وتعرض مخططات المحافظة عليه، مُحذّرةً من إزالة داخونه، الـ chimney، الأساسي، ومقترحةً معالجة سقفه بالإسمنت مع إضافات على قببه، في القسمين "الجواني" و"الوسطاني".
لاحظت الدراسات أيضاً تسرّب مياه الأمطار والمياه التي يفترض أن تُصَرِّفها أقنية التصريف (المزاريب)، إلى سقفه، فتفاقم واقعها، وزاد المشكلة تراكم الردم والرمال على سطحه بصورة عشوائية، ولمدة طويلة. هذه الأمور تشكل الأرضية الخصبة لتنامي الفطريات الخضرية، والأعشاب، كما نموّ نباتات بسبب وجود مواد ملائمة لها في الحجارة والطين. وتبدو جذور نباتات تخترق القبة مُخلِّفةً شقوقاً، وتكسرات، ومُهدّدة القبب بالتفسخ، وتغيير تركيبة وشكل الأسقف.
الإهمال، وعناصر أخرى، أدّت أيضاً إلى فقدان العديد من أقداح السطح التي كانت تستخدم تاريخياً للإنارة، وإلى أضرار في مصارف المياه تحت أرضية الحمام.
عملية الترميم واعدة
وفي داخله، ونظراً لانعدام العناية، تراكمت على أرضيته، وفي جنباته، الأوساخ لمدة طويلة، ونجم عن ذلك تخمّر مواد حمضية تهدد بنيانه وحجارته.
بعض الدراسات يخلص إلى أن قوة بناء الحمام، والحرفيّة العالية لمعلمي عصره، أسهمتا في بقائه قوياً، متماسكاً، محافظاً على شكله العام، ولم تحدث فيه أي انهيارات، ولا يزال بنيانه بصورة جيدة إجمالاً، ما يجعل عملية الترميم واعدة.
وفي دراسات المعهد، أن بانيه هو الأمير سنكر نوري بين 1305 و1310 ميلادية. بينما يتحدث عنه المؤرخ الطرابلسي عم تدمري ذاكراً أنه يعود إلى عصر المماليك، ولكنه معطل، وتملكه دائرة الأوقاف الإسلامية، وهو من موقوفات "محمود بك السنجق" صاحب الجامع المعروف باسمه في باب التبانة.
ويفيد تدمري أن "النوري" الذي يُنسب إليه الحمام غير معروف، ومن المرجح أنه لقب لأحد الأثرياء الملقبين بـ"نور الدين"، وهذا اللقب اشتهر في عصر المماليك لمن اسمه "علي".
وصف الحمام
للحمام مدخلان، الأول يطلّ على مدخل سوق الذهب، تقابله المدرسة الناصرية الأثرية، وعلى يسرة المدخل سبيل ماء عام، والثاني يطل على الشارع المفضي إلى المدرسة القرطاوية الشهيرة، والجامع المنصورري الكبير.
المدخلان يفضيان إلى باحة الحمام التقليدية، فسحة واسعة تعلوها قبة ضخمة تتوسطها قبة أصغر حجماً مع أقداح إنارة، والفسحة محاطةٌ بمجلس حجري مرتفع يُستخدم لاستراحة الزبائن بعد الانتهاء من الاستحمام.
أسفل المجلس طاقات كل واحدة تُخَصّص لحفظ أغراض الزبون المستحم، ولها أشكال محفورة حفراً فنياً جميلاً، وقد لحق ببعضها التكسير والتشوّهات.
من الباحة الكبرى، يتوزع مدخلان إلى داخل الحمام، ما يدل على ضخامته، إذ يفضي كل مدخل إلى سلسلة من الغرف المتعاقبة، غايتها انتقال المستحم من حرارة دافئة في الغرفة الأولى، وترتفع الحرارة كلما أوغل الزائر في الغرف الداخلية التي تنتهي بغرفة البخار، أمّ فكرة "السونا"، حيث يتلقّى المستحم حرارة عالية جداً تساعد على فقدان الوزن.
الخروج الصحي من الحمام
كما يسهم تدرّج الحرارة في الخروج الصحي من الحمام إلى الباحة، من دون التعرض لفارق كبير في الحرارة بين الداخل والخارج، ولا بد للمستحم من المكوث فترة زمنية بعد نهاية الحمام لكي يتأقلم مع حرارة الخارج ذات الفارق الكبير، وهي فترة استجمام تخصص لتناول القهوة، أو المشروبات الدافئة.
قبل الخروج، يتولى معلمو الحمام مساعدة الزبون على التليّف بالصابون البلدي، وإذا رغب تلقى تدليكاً لطيفاً يساعده على الراحة والاسترخاء.
عدة غرف حمام تتراصف داخل الحمام، وقد أصيبت بأضرار واهتراء قشرة الجدران بسبب الإهمال، وكلّها مُنارةٌ بمئات الأقداح المغروزة في سقوفها المُقَبّبة، ولا تزال فيها أجران الماء الحجرية.
على السطح، تجري أعمال ترميم للقبب التي فقدت العديد من الأقداح بمرور الزمن، كما يجري ترميم خاص للقبة الرئيسية التي تعلو الباحة الداخلية.
شروط قاسية
تجري الأعمال في ظل شروط قاسية وضعتها المديرية العامة للآثار، تشمل إزالة الزوائد غير المتلائمة مع بنية الحمام التقليدية، وإعادة النواقص، والحفاظ على الأساسيات، ومنها: الحفاظ على بركة الماء التي تتوسط الباحة من دون غطاء، ومنع تحويلها إلى ما يشبه الطاولة، وتبديل الديوان الإسمنتي المستحدث بآخر خشبي، وعدم استحداث إنارة في سقف الغرفة الباردة، ومنع إزالة الجدران أو توسعة الفتحات في الجزء الساخن، والحفاظ على الأبواب بصيغتها القديمة، وشروط أخرى مشابهة.