"حمّام العبد" في طرابلس اللبنانية: حفاظ على التراث رغم الحداثة
يفضي باب الحمّام الخارجي إلى صالة واسعة، تتوسطها بركة ماء، وتحفّ بباحته أركان مرتفعة عن أرضيته الأساس، مغطاة بالفرش العربي، والسجادات الملونة بما يتناسب مع إضاءته بواسطة أشعة الشمس تتسرب إلى داخله عبر فتحات في السقف وهي منقوشة بعبوات زجاج زاهية الأشكال.
-
الأركان المبنية بطريقة "الأرابيسك" والأجران الحجرية تستضيف المستحمين بعد الحمام
منذ العصر الوسيط، يعمل "حمّام العبد" في مدينة طرابلس اللبنانية من دون توقف، رغم تطورات الحداثة التي أدخلت تقنيات النظافة، ومعالجات استرخاء، ورغم التطورات الأمنية التي مرّت على البلاد، خصوصاً في حقبة الحداثة الراهنة التي لم تتوقف فيها التطورات والتوترات الأمنية.
يقع الحمّام في قلب مدينة طرابلس المملوكية، في نهاية زاروب متفرع من سوق البازركان، العامر بالمحلات الشعبية، وله مدخل آخر جنوبي مفتوح على سوق الصاغة- سوق الذهب التراثي التاريخي في طرابلس، وخصوصاً للتواصل مع الخان، الذي تحوّل مع الوقت من خان لاستضافة النزلاء الوافدين من الخارج كالتجار، والقناصل، إلى خان "الصابون".
ارتبط الحمّام القديم بالخانات لتقديم خدمات النظافة والراحة والاسترخاء خصوصاً لقاصدي المدينة من تجار وسائحين، حيث كانت الخانات هي الأمكنة التي حلت الفنادق العصرية محلها، وكانت غالباً من طبقتين، تحتوي على العديد من الغرف، وباحة داخلية مقفلة، وأمكنة سفلية لخدمة الدواب والخيول التي كانت تقلّ الوافدين من بلادهم.
حمامات تاريخية قديمة
و "حمّام العبد" هو واحد من عدة حمّامات لا تزال قائمة في مدينة طرابلس القديمة، غالبها توقّف عن العمل، وأُهمل، بينما جرى ترميم بعض كـ "حمّام عزالدين" القريب من سوق النحاسين، وقربهما خانا الخياطين والمصريين، بينما ارتبط "حمّام النوري" الجاري ترميمه حالياً بخان الصابون أيضاً.
عدة حمّامات أخرى أزيلت مع مرور الزمن في المدينة وجوارها، خصوصاً من خلال عمليات التوسيع لمجرى نهر أبوعلي عقب طوفان 1955، منها حمام "النزهة"، والثاني هو حمام "القاضي" (القرمي)، ولا يعرف تاريخ إزالته، والثالث هو حمام "العطار".
وهناك حمّام "الحاجب" لا يزال بعض منه قائماً على الضفة الشرقية لنهر أبو علي، بناه "أسندمر الكرجي" بين سنتي 1322 و1331 م بحسب مؤرخ طرابلس الدكتور عمر تدمري. كما لا تزال بقايا لحمّام "الدوادار" المهجور الذي بني سنة 1700 م.
أما الحمّام الجديد، الذي يعمل بصورة موسمية متقطعة، وهو مملوكي عثماني يقع في محلة باب الرمل بجوار عدة منشآت تعود للحقبة العثمانية، مثل الجامع المعلّق وقصر و "قبر الزعيم"، ويرجّح إنه كان يخدم أحد ولاة طرابلس العثمانيين محمود بك الزعيم، وحاشيته، إضافة لمقيمي "الخانقاه" (مبنى أثري يعود تاريخه إلى عصر المماليك)، وتشبه الخان شكلاً ودوراً، لكنها لم تكن ذات وجهة سياحية.
هوية تاريخية
من زاروب ضيّق في السوق القديم في محلة تعرف بـ "الرمانة" بجوار "البازركان"، يقوم حمّام العبد، ويبدو أن مُشَغِّليه اعتمدوا هذه الوجهة كمدخل رئيسي له، لذلك ينتهي الممر بمدخل الحمّام وعليه لافتة تحمل اسمه، تؤكد أولوية هذا المدخل، مع تاريخ بنائه سنة 1700م، ما يؤشر إلى هويته العثمانية.
يفضي باب الحمّام الخارجي إلى داخله، عبر ممر داخلي قصير، ينفتح على صالة واسعة، تتوسطها بركة ماء، وتحفّ بباحته أركان مرتفعة عن أرضيته الأساس، مغطاة بالفرش العربي، وسجادات ملونة بما يتناسب مع إضاءته بواسطة أشعة الشمس التي تتسرب إلى داخله عبر فتحات في السقف منقوشة بعبوات زجاج، وتكون عادة على شكل نجوم، أو مرتبة بتناسق هندسي معين، إضافة لفتحات أخرى تحوط، من مختلف الجهات، القبة التي تعلو الباحة، ونافذة مفتوحة على الخارج من جهة الجنوب.
-
زاوية في حمّام العبد
الأركان المبنية من الحجر المزركش بطريقة "الأرابيسك" تستضيف المستحمين بعد الانتهاء من الحمّام، في فترة راحة واسترخاء، بعد أن يكون المستحّم قد نال عملية نظافة بالليفة، أو كيس الشعر، والتدليك إذا رغب بذلك.
بيئة اجتماعية: مواعيد ومناسبات
وربما تعتبر فترة الاستراحة ما بعد الحمام هي الأكثر تفضيلاً لدى الروّاد، حيث يتلقون خلالها ما يُقَدَّم من مشروبات كالزهورات والشاي والقهوة، مع النرجيلة غالباً.
وتتيح الأقسام التابعة للمكان تشكيل بيئة اجتماعية، وتعارف، ويصبح الحمّام، إضافة إلى خدماته التنظيفية، والاسترخاء، مكاناً يلتقي فيه المتعارفون، جدداً، وقدماء.
الأركان مع الباحة، تستخدم من قبل عشاق الحمام القديم لإقامة المواعيد، والسهرات، والمناسبات، وحفلات الطرب، والخطوبة، والزواج، وغالباً ما يرتاده الرجال، دون النساء.
-
الزاروب الشرقي القديم للحمّام المؤسس عام 1700م
أما النساء اللواتي يقصدن الحمّام، فقد اعتدن على ربطه بموعد مسبق، يخصص لهن دون الرجال، ويمضين فيه نهاراً كاملاً، وربما يكون لقاؤهن على مناسبة ميلاد، أو خطوبة، أو حفلات مختلفة، وبينما يتولى رجالٌ خدمات الاستحمام للرجال، تتولى نسوة من القيِّمين على الحمام خدمة النساء.
من هنا ولدت فكرة "السونا"!
مثله مثل مختلف الحمامات على الطراز القديم، يتكوّن داخل الحمام من صالات متعددة، متسلسلة باتجاه عمقه، وكلما كانت الصالة الداخلية عميقة، كانت حرارتها أعلى، بلوغاً للنهاية حيث تعبق الغرفة بالبخار، ولا يستطيع تحمّل حرارتها، وجوّها العابق بالحار والحرارة، إلّا من اعتاد عليها مع مرور الزمن، وهذه الغرفة أوحت لمهندسي الحمامات الحديثة بفكرة "السونا".
داخل الحمام إجمالاً، 3 مستويات من الحرارة، وبحسب الحرارة اتّخذت الصالات تسمياتها، فالأقل دفئاً هو "البراني" من كلمة "برّا"، أي الخارج، ثم "الوسطاني" حيث الحرارة المتراوحة بين الأعلى والأقل، وأخيراً "الجوّاني" حيث غرفة البخار.
يختار المستحم الحرارة التي يريد الاستحمام عليها، وفي كل ردهة أكثر من غرفة استحمام، في كل منها جرن حجر للمياه، مزوّد بالصابون البلدي غالباً، أو البلدي المعطّر، تفصل بينها جدران، ويمكن للمستحم أن يستحم بنفسه، أو أن يستعين بعامل متخصص للغاية.
-
جرن حجري قديم للاستحمام
بين ردهات الاستحمام، صالة عليها بلاطة حجر تُقدّم عليها خدمة التدليك للراغبين بذلك، حيث يتولى تقنيّو تدليكٍ خدمة الزبون، يستخدمون خلالها بعض المستحضرات العطرية، غالباً بلدية الصنع، التي تساعد على التنظيف، والتدليك بلوغاً لمستوى نظافة كامل.
كيفية تسخين المياه؟
بدأت عملية تسخين الماء في غرفة مخصصة تحتوي على مستوعب نحاسي ضخم، يجري تسخينه بواسطة الخطب من فتحة في الخارج، وتمتد من المستوعب أقنية نقل الماء الساخن، والأبخرة، تعبر ممرات تحت أرضية الحمام، فتعطي مزيداً من الدفء، وتقدم متعة السير حفاةً، على بلاطه الرخام، إلّا إذا رغب المستحم استخدام القبقاب الخشب للتنقل داخل الحمام.
وفي العصر الحديث، ومنذ أن بات الحصول على الحطب أكثر صعوبة، يمكن تسخين الماء بوسائل التسخين الحديثة البترولية المنشأ، كالغاز والمازوت.