"عالثوب مطرَّز غزال".. الثوب الفلسطيني: فن وحكاية

"وعرفت يا ستّي ليش شالك عليكِ غالي".. تعالوا نتعرف إلى الثوب الفلسطيني وحكايته جمالاً وفناً وتراثاً.

لم تفعل أداة من أدوات التُراث في حياة الفلسطيني، مثلما فعل فنّ التطريز. لقد تعدّى كونه مظهراً جمالياً يُزيِّن اللباس؛ إلى أيقونة عالمية، حيث أدرجته منظمة "اليونسكو" ضمن قائمة التُراث الثقافي غير المادي، في كانون الأول/ديسمبر 2021.

لطالما كان التطريز مكوِّناً هاماً في حياة المرأة الفلسطينية في طول البلاد وعرضها.  وهو جزء من الفلكلور الشعبي الفلسطيني  الذي ورَّثتهُ المرأة إلى بناتها وحفيداتها منذ عصر الكنعانيين وحتى يومنا هذا، استخدمته بشكلٍ رئيسي في تزيين أثوابها، إلى جانب عدد من حاجات البيت كالمَفارِش والوسائد والمحافِظ وغيرها.

من خلال الثوب تمكَّنت كل منطقة في فلسطين من التعبير عن طبيعتها وجغرافيّتها ببراعةٍ، فالتُراث في المناطق الجبلية يختلف عنه في الساحلية؛ ففي الأولى كان يخلو الثوب من التطريز بسبب انشغال النسوة في أعمال الزراعة وجَلْب الماء، أما في الأخيرة فكان خليطاً من فنون التطريز التي عرفها أهل فلسطين من اختلاطهم بشعوب بلاد أخرى، بينما تواجد التطريز بغزارةٍ في أثواب منطقتي بئر السبع ووسط فلسطين، بسبب توافر الوقت لدى النساء.

لم تكن مصادفة أن يطغى اللونان القرمزي والأرجواني على القِطَع المُطرَّزة حتى يومنا هذا؛ فاللونان اتصلا مباشرة بالكنعانيين ومنسوجاتهم، كما ظلّت النقلات والزخارف تعكس البيئة المحيطة من أشجارٍ وجبالٍ ومُعتقدات، تماماً كما تقول أغنية "ثوب ستّي": "ستّي إلها ثوب وشال، عالثوب مطرَّز غزال، جنبه ورود وسنابل، من حواليها سبع جبال". لقد عَرفنا الثوب من جدَّاتنا اللواتي طرَّزنه بكفوفهنّ المُجعَّدة واجْتَهَدن عليه في الصباحات المُبْكِرَة.

تقول إسراء المدلّل، وهي لاجئة من قرية البطاني الغربي، في حوار مع "الميادين الثقافية": "جدَّتي هي صاحبة الفضل في تعريفي على الثوب وحبّي له؛ لقد كانت بالنسبة لي الراوية الأولى للتغريبة الفلسطينية، هي مَن سردت لي الحياة قبل النكبة وكان ثوبها جزءاً من الحكاية".

الجدَّة سارة كانت تُحيك أثوابها بنفسها،امتلكت 12 ثوباً لكل موسم ومناسبة بشكلٍ مختلف، كما تضيف إليه قماشة من الحرير تُثْبِتها عند منطقة الخَصْر، ما يضفي جمالاً على قوام جسدها والثوب معاً، "تُخصِّص للصباح ثوباً مختلفاً عن المساء، ووقت الفرح ترتدي الأبيض بالدَرْزَة الزرقاء، أما في الفرح الشديد فتلبس القطيفي"، صوت إسراء يُشعرك أن جدَّتها الراحلة ما زالت ماثلة أمامها، تتخيَّر من دولابها أيّ ثوب سترتدي لهذا اليوم.

وبحسب إسراء، لم تخلُ الأثواب من الزخارف المتنوِّعة، كالزهرة، الحصان، الدجاجة، السرو. ترجم الثوب مظاهر الحياة وطبيعتها، وتعبّر بامتنانٍ واضح: " لقد عرفت بلادي فلسطين وطبيعتها من دون أن أراها".

بدأت الحفيدة إسراء بارتداء الثوب في سنٍّ مبكرة. كانت تُفضّله على الفساتين في المناسبات، ما أثار استغراب البعض، وحين أصبحت مُقدِّمة للبرامج التلفزيونية، وجدته الإطلالة الأنسب لها، حيث تقول: "تلفتني تفاصيل التطريز وألوانه، يشبهني، يمنحني الإحساس بالوطن"، لذا جعلت إسراء من بيتها في إسطنبول وطناً صغيراً، فالتطريز موجود في ملابسها ومرافق بيتها أيضاً.

"الهوية هي ما نُوَرِّث لا ما نرِث" هكذا قال الشاعر الراحل محمود درويش؛ وحبّ التطريز يُورَّث أيضاً. فهذه علا سيسالم من غزَّة، كان يسحرها بيت جدَّتها المَقْدسية، المُزَّين بالمُقتنيات المُطرَّزة وقِطَع الأثاث والمفارش المتنوِّعة.

وتقول علا لــ "الميادين الثقافية":"لاحظت أمّي شغفي بالتطريز ورغبتي بتعلّمه، فطلبت من زوجة خالي أن تعملّني"، بصبرٍ وحبٍ استقبلت الأخيرة الطفلة ذات ال 8 أعوام، وبدأت بتعليمها غَرْزات التطريز، ثم أعطتها نقلة مُطرَّزة –شكل جاهز - وكانت لوردة، وتمكّنت الطفلة من صنع أخرى مشابهة لها.

"أهدتني جدّتي أغراضها الخاصة بالتطريز، من خيوط وطارة وقماش، وفي ما بعد أصبحت أمّي تحضِّر لي مُستلزمات العمل من السوق"، عملت علا طويلاً على صنع مَفْرَشٍ للطاولة، وحين انتهت أهدته إلى أمّها.

كَبُرَت الطفلة علا وأصبحت أمّاً، وما زال شغفها بالتطريز الفلسطيني متوهّجاً. هكذا صنعت العديد من حاجيات وكماليات بيتها بنفسها، عدا عن حرصها الشديد على ارتداء القِطَع المُطرَّزة في المناسبات السعيدة، مع طفلتيها هند ولبنى أيضاً، لكل واحدة منهن ثوب مُطرَّز.

وكما يبدو فإن فنّ التطريز لا يقتصر على كونه شيئاً مادياً بالنسبة إليها؛ إنه روح تكبر وتطمح. فقد أنشأت متجراً إلكترونياً تستقبل فيه علا طلبات الزبائن المتنوِّعة، سواء كانت لباساً أو وسائد وحقائب، أدوات استقبال وغيرها.

يحتاج صنع القِطَع وقتاً كافياً نظراً إلى الدقّة في العمل، وبعض القِطَع تتطلَّب وقتاً أطول قد يمتد لأشهر، لذا فإن أسعارها مرتفعة، ولا تقتصر زبائنها على قطاع غزَّة فقط، بل ترسل القِطَع المُطرَّزة إلى مدن الضفّة الغربية وخارج فلسطين.

في مواسم قطاف الزيتون، كانت النساء يرتدين ثوبهن المطرز ويتجهن إلى الحقل في جو احتفالي مبهج. إنه ميراثٌ لا يفنى ولا يموت، لأن الخيوط تستمد الحياة من روح صانعها، فتضخّ الدماء في شريان الذاكرة. ربما  هذا ما يدفع "إسرائيل" إلى محاولة سرقته ونسبته إليها. فقد حاولت مؤخّراً توظيف الثوب والتطريز الفلسطيني كتراثٍ "إسرائيلي" في المسابقات والمحافل الدولية، إلى جانب محاولة تقليده في عروض الأزياء الخاصة بها.

وفي تصريحٍ سابقٍ له، قال وزير الثقافة عاطف أبو سيف إن "قرار اليونسكو هو انتصار للرواية الفلسطينية القائمة على حقّ الشعب الفلسطيني في أرضه، وجزء من مهمة أكبر يجب الاستمرار فيها لصون وحماية تراثنا والدفاع عنه وتمريره للأجيال".

وأوضح أن وزارة الثقافة عملت منذ أكثر من عامين على تسجيل التطريز ضمن القائمة التمثيلية من خلال تجهيز الملفّات والمرفقات المطلوبة، التي تُدلِّل على أن التطريز تراث فلسطيني خالص يمارسه الشعب الفلسطيني منذ آلاف السنين.

ربما كان التطريز قبل النكبة يُعبِّرعن الحضارة والذوق الرفيعين، التباهي بالألوان والنَقْلات ورَغْد الأرض الخصبة التي منحت الفلسطيني خيراتها، لكن بعد النكبة أصبح مقاومة من أجل البقاء.

وفي ختام أغنية "ثوب ستّي" التي كتب كلماتها الشاعر خالد جمعة، يغنّي الطفلان "وعرفت يا ستّي ليش شالك عليكِ غالي، وصاروا شالك مع ثوبك أغلى عليّي من حالي".