هل سيرتدي صغيري ملابس العيد؟

شيرين العكة، ابنة غزة والأم لطفل لم يتجاوز السنتين، تروي لنا ما تعيشه عائلتها في ظل التوحش الإسرائيلي.. وهذا ما كتبته.

  • هل سيرتدي صغيري ملابس العيد؟
    هل سيرتدي صغيري ملابس العيد؟

ليلة أخرى من القصف العنيف على قطاع غزَّة. أصوات انفجارات قريبة ومُتتالية، يهتزّ معها البيت كأنه بلا قواعد. أهرع إلى سرير طفلي النائم كالملاك. كم كان يستحقّ حياة تشبهه! فجأة أتنبه إلى الجُدران التي مازالت ثابتة من حولي. "لقد نجونا" أقول لنفسي، ولا أعلم لمَن كان الاستهداف هذه المرة. أسمع أصوات سيارات الإسعاف.أحاول تهدئة طفلي وعيني على الأخبار أبحث عن إجابات. لا أظنّ أن الأخبار قادرة على تغطية كل هذا الدمار.

عدوان إسرائيلي في رمضان! يا لها من نسخه قبيحة عن عدوان عام 2014. اليوم غادرنا سُفرة الإفطار أكثر من مرة بسبب القصف القريب لأحد الأبراج المجاورة. وهذا ما كان يحدث في النسخه الأولى. نلوك الخبز على وَقْعِ الانفجارات ومشاهد النيران التي تُلوِّن النوافذ، ليس لأننا جوعى، بل لأننا نريد أن نقوم بأية ردّة فعل تُعيد لنا التوازن.

أنباء عن قصف أماكن مُتعدِّدة في القطاع، وقصف مُتكرِّر للحيّ الذي تقيم فيه عائلتي، أودّ الاطمئنان على أبي وأمّي وإخوتي، إلا أنني أخشى الاتصال بهم والسؤال عنهم. أخشى من إجابتهم، ومن عدم إجابتهم على اتصالي أيضاً، لكنني في النهاية تمكَّنت من الاتصال بأمّي عبر "واتسآب". رأيت وجهها عبر الشاشة. تبتسم لي. تحاول أن تبدو قوية مُتماسكة. تسألني "كيف إبنك؟ ماذا ستعدّين اليوم على الإفطار؟"، فتقاطعها سحابة دخان سوداء اقتحمت نافذتها المزروعة بالريحان والندى!

 نعم لقد حدث قصف مجاور لهم واقتحم سرب من الغربان السوداء النوافذ.

لم أتوقف كثيراً عند أمّي. فبعد أن انتهى الاتصال بيننا، انتقلتُ إلى نافذة بيتي لمُشاهدة القصف وتجمهر الأطفال الذين يُطلقون التكبيرات في الشارع ويركضون خلف المسحراتي الذي أتى مُبكراً لأخذ العيديّة.أتخيّلهم بلباس العيد يركضون بعيداً من هذه الأجواء الساخِنة التي لا يستحقّونها. أفكِّر في أبناء إخوتي الذين اقتنوا ملابس العيد منذ أسبوع، وقد حظيت بمشاهدة بروفة لهم وهم يرتدونها لأخذ رأيي فيها. إنهم يبكون الآن، هكذا أخبرتني أمّي. تقطع تفكيري رائحة الكعك المنبعثة من المنازل المجاورة! شقيقتي أيضاً أخبرتني أن حماتها تصنع الكعك في هذه الأثناء.

لا تصدّقوا أن غزَّة تحب أن ترتمي في أحضان الموت. فهذه المدينة قبل 48 ساعة كانت تتجهَّز لاستقبال عيد الفطر، غير أنها قطعت التجهيزات لأن نداء استغاثة صدح من الأقصى "يا غزَّة يلا مشان الله".إنها القدس ونحن أبناء غزَّة الذين لم يحظ معظمنا بزيارتها والصلاة في أقصاها بسبب سياسة الاحتلال الإسرائيلي التي تتحكَّم بنا وبحريّتنا في التنقّل، لكنها هذه المرة بالغت في قهرها للمقدسيين. اقتحمت قوات الاحتلال المسجد الأقصى وألقت القنابل داخله، أحرقت المصاحف وأصابت 331 مقدسياً واعتقلت غيرهم. كل هذه العنجهية في ساحة هي الأقدس والأطهر بالنسبة إلينا كفلسطينيين. هذه المواجهات تأتي على خلفية مخطّط إسرائيلي لتهجير عائلات فلسطينية مقدسية من حيّ الشيخ الجراح.

لكن الحرب الإسرائيلية مسروعه؛ ففور بدئها وضعت يدها على أطفال عائلة المصري، لا يفارقني مشهد والدهم وهو يرتّب جثث أطفاله الداميه بجانب بعضها. أُغلق الأخباروالتصق أكثر بطفلي وأبكي. أتسائل كما تسائل دوستويفسكي قائلاً: "لماذا لا يرفع الله الأطفال إلى السماء مؤقتاً ريثما تنتهي الحرب، ثم يعيدهم إلى بيوتهم آمنين؟". يالله أبنائنا هم اليد التي تُوجعنا وتقصم ظهرنا.

الحرب المسعورة بدأت بما انتهت به نسخة 2014. قصف الأبراج من أجل ليّ عُنق الغزّيين والمقاومة. الأبراج تعني شققاً سكنية ومؤسّسات وشباناً يعملون على مشاريعهم. تعني أبواب رزق وقصص وحكاياتنا نحن.

في هذه الأثناء وبينما أكتب هذه السطور ولا أقوى على أيّ فعل آخر؛ يهزّ بيتنا قصف عنيف لبرج "الجوهرة" في مدينة غزَّة.إنه يعني لي الكثير. فيه بدأت أولى خطواتي في مجال الصحافة. فقد تدرّبت في"صحيفة فلسطين" الكائنة في نفس البرج. دخلت إليها بقلمي وأوراقي البيضاء يدفعني طموحي لارتقاء السلّم والوصول إلى مقرّ الصحيفة، ومنه خرجت أحمل بين يديّ الصحيفة وهي تحمل إسمي الموقّع على قصة لي أو تقرير ما سمح بنشره، فيه حصلت على أول راتب لي .. كم كان طيّب المذاق رغم بساطته.

حين تمّ قصفه لم أتمكّن من البكاء أو التفوّه بكلمة. أخذت ألوّح بيدي في الهواء وبقيت صامتة. لكن طفلي النائم استقيظ صارخاً مذعوراً. تراه كان يشعر بأمّه وبما يحشرج في صدرها؟

القصف مستمر الآن وأنا وزوجي نلعب دور المهرِّج كي نشغل طفلنا عن أصوات الانفجارات. نخبره بأن هذه الأصوات "مُفرقعات العيد"، لكنه يحدِّق فينا أكثر كلما سمع صوتاً جديداً. يا إلهي. هل أصبح هذا الصغير إبن ال 15 شهراً يميّز الأصوات ويتأثّر بها؟ الحرب تجعلنا نشيخ وأطفالنا يكبرون بسرعة.

في آخر ليلة من ليالي الاعتكاف في رمضان، اشتعلت فلسطين كلها. القدس، اللدّ، الناصرة، أمّ الفحم، حيفا، دير حنا، بئر السبع؛ وكرة اللهب تتسارع وقوات الاحتلال لا تستطيع السيطرة على هذه الجماهير المُنْتَفِضة. الأرض غاضبة.. غاضبة جداًلأن مقدَّساتنا خط أحمر وأرواحنا ليست رخيصة. الساعات القادمة محمَّلة بعلامات الاستفهام، هل سننتهي هنا، أمْ سيمتد هذا العدوان أكثر على طول مساحة غزَّة؟

الآن الساعة 5:29 صباحاً. لا أستطيع النوم. نام زوجي وعلى أحدنا أن يبقى مستيقظاً خشية حدوث قصف قريب. أشغل نفسي بالكتابة وأتذكر أن عليّ تجهيز شنطة بأوراقنا الثبوتية وبطاقتنا الشخصية.اليوم هو المتمم لرمضان. تراهم هل سيتحرون الليلة هلال عيد الفطر؟

منذ أيام عدة اشترينا ملابس العيد لطفلنا.كلما بدأ الشعور بالحزن يتسلل إلى قلبي، أسأل زوجي: هل سيرتدي الطفل ملابس العيد؟، فيجيبني "نعم".

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.