مثلث الجمال.. جولة "فلسطينيات" على بلدات مهجّرة في الذكرى السبعين للنكبة

نظمت جمعية "فلسطينيات" جولة على بلدات فلسطينية مهجرة، في الذكرى السبعين للنكبة، وعاين أعضاء الجمعية، والمشاركون في الجولة أحوالها، وتعرفوا على تاريخها، وظروف تهجيرها، وواقعها الراهن، وكتب مؤسس "فلسطينيات" المحامي جهاد أبو ريا مشاهدات، وانطباعات عن الجولة. ونظرا للانطباع الرائع الذي تكون نتيجة الجولة، شاءت "فلسطينيات" تسميتها بمثلث الجمال.

صبار وهشير تغطي موقع القرية

قبل قليل أنهينا جولتنا في القرى المجاورة: جمزو ودانيال وخربة الضهيرية. بعد أسبوع ونصف الأسبوع سوف نرافق مجموعة من المسنّين المهجّرين إلى هذه القرى التي ولدوا، ونشأوا فيها إلى أن تمّ تهجيرهم في النكبة، وكان علينا تفقد القرى لاختيار المكان المناسب لإقامة النشاط، ومسار الجولة، وبعد ذلك الالتقاء في نعلين مع المسنين المهجرين ومع شركائنا في النشاط.

القرى الثلاثة المهجرة جمزو ودانيال وخربة الضهيرية تشبه المثلث المتساوي الأضلاع، تبعد الواحدة عن الأخرى نحو كيلومتر ونصف. في هذه الفترة من السنة، تبدو المنطقة آية في الجمال، حيث منظر الطبيعة الخلابة، الراعي في جمزو وهو يرعى قطيعاً من غنمه لا يوحي بما تمّ ارتكابه من جرائم قبل سبعين عاماً، ونحن في "فلسطينيات" قررنا أن نطلق عليها اسم مثلث الجمال.

 

قرية دانيال

بيت يحمل تاريخ إقامة مستعمرة مكان قرية دانيال

محطتنا الأولى قرية دانيال. على أنقاضها أقام الصهاينة عام 1949 مستعمرة جديدة تحمل نفس الإسم: "كفار دانيال". للوصول إلى بيوت القرية المهجرة، وفي محاولة لترتيب ما تمّ هدمه ومحوه في ذاكرتنا ووعينا، نمرّ بجانب حي يهودي جديد يقع على يميننا. يلفت انتباهنا أن قسماً من البيوت الجديدة تمّ بناؤها من حجارة البيوت الفلسطينية التي تمّ هدمها. يا للفظاعة!! لقد سرقوا الحجارة بعد هدم البيوت وتهجير أهل البلدة.

حتى النكبة والتهجير، سكن في قرية دانيال 410 من الفلسطينيين، جميعهم طردوا وهجروا من بيوتهم عدا عجوز واحدة تدعى زهرة هنيدي - أم يعقوب التي بقيت يومها في القرية. بعد أن هدأت الأوضاع عاد بعض أفراد عائلتها ليبحثوا عنها. لم يجدوها. لم يعرف أهلها ماذا فعل بها الصهاينة بعد الاحتلال.

في قرية دانيال، لا زالت بعض بيوت القرية قائمة، معظمها بوضع خطر وآيل للسقوط. بعد الاحتلال هدم الصهاينة معظم مباني القرية التي بلغ عددها 120 مبنى، وأبقوا عدداً قليلاً، لا يزيد عن عشرة بيوت.

المبنى الأول الذي قابلناه هو مبنى حجري، جدرانه المتشققة، والأعشاب، والأشواك المحيطة به تشهد على آثار النكبة، والتهجير من هدم ومحو. هو بيت من غرفة واحدة. ومن الجهة الأخرى، بيت مثله لكنه مرمم. على مدخله لافتة كتب عليها أنه تمّ تحويله إلى أرشيف، وعلى الحائط الخارجي كتب الرقم "1949"، موعد بناء المستعمرة الجديدة، وكأن قبل هذا التاريخ لم يكن هنا شيء!

بيت الشيخ اسماعيل الرفاتي

في هذه المرحلة ننتبه إلى سيارة يراقبنا ركابها من بعيد. إنها سيارة أمن المستعمرة. لم يتحدثوا معنا، لكنهم استمروا بمراقبتنا طوال تواجدنا هناك. نواصل طريقنا إلى بيت حجري فخم كبير، مدخله واسع، وسقفه عال، وشبابيكه مزينة، يطل على حديقة جميلة، حقاً إنه بيت جميل، إنه بيت الشيخ اسماعيل الرفاتي. لقد استعمله الصهاينة بعد النكبة كمطعم ودكان للأثاث، أما اليوم فيبدو أنه مهجور.

بيت سعدات محمود العبدالله

وأخيرا وصلنا إلى البيت الذي طالما رأيته شامخاً كلما عدت من القدس شمالاً، بيت حجري مكون من طابقين، أجزاء منه مهدومة، والصعود إلى الطابق العلوي صعب جداً لأن الدرج الموصل إليه مهدوم. بجانب هذا البيت، أقام الصهاينة مصنعاً كبيراً اسمه "الصرافين". إنه بيت المرحوم سعدات محمد عبد الله.

مدرسة دانيال

المبنى الأخير الذي قمنا بزيارته في دانيال هو مبنى حجري مكون من طابقين، الطابق الأول مكون من 4 غرف واسعة، يبدو أنها استعملت كصفوف لمدرسة القرية، وفي الطابق العلوي غرفة واحدة تطل على البحر، وعلى مدينة اللد القريبة.

 

قرية جمزو

منظر عام من موقع قرية جمزو

نغادر الرأس الأول من المثلث باتجاه الرأس الثاني، قرية جمزو المهجرة. هنا هدم الصهاينة كل بيوت القرية البالغ عددها 430 بيتاً. بجانب القرية، وعلى أرضها، وحقولها، وبين أشجار الزيتون، والتين، والنخيل، واللوز، والصبار، أقاموا مستعمرة جديدة تحمل نفس اسم القرية.

 

 

بقايا بيت في قرية جمزو

تجولنا فوق أنقاض البيوت. الحجارة متناثرة في كل مكان. الصبار، والزيتون، والنخيل، واللوز يشكل لافتة تحكي قصة القرية. هذه الأشجار، والحجارة أصدق من اللافتات التي كتبوها بالعبرية، وثبتوها في مدخل القرية المهجرة.

 

 

 

في حقول قرية جمزو

جمزو هي قرية كبيرة، بلغ عدد سكانها إبّان النكبة حوالي 1800 نسمة، وهم اليوم مشتتون في شتى بقاع الأرض.

في النكبة بقي في القرية عدد قليل من سكانها، بعضهم كانوا يعانون من إعاقات جسدية. بعد أن هدأت الأوضاع، نجح عيسى الجمل بالعودة إلى قريته. وجد جثثهم ملقاة في أنحاء القرية، والحيوانات البرية تنهش بها. من بينهم تعرّف على جثمان أخته وأخيه. لقد قتلهم الصهاينة، وأبقوهم في الخلاء لتنهش بهم الحيوانات البرية.

هجر أهالي القرية، وبقيت في القرية نظيرة زوجة عبد الحميد أيوب حسان، وابنته الرضيعة. بعد يومين، تسلل عبد الحميد للإطمئنان عن زوجته وابنته، ونجح بالوصول إلى القرية رغم الحراسة الشديدة للصهاينة. وجد عبد الحميد طفلته ممتدة على يد والدتها. لقد استشهدت نظيرة بعد أن أعدمها الصهاينة، وبقيت الطفلة ترضع من حليب أمها مدة يومين.
دفن عبد الحميد جثمان زوجته نظيرة بعد أن صلى عليها، وأعاد الطفلة معه. بعد أن كبرت الطفلة، تزوجت من فهمي سعدات كنعان، وانتقلت للإقامة في السعودية. وأنا واقف في أعالي القرية، أتذكر قصة أحمد عيسى ابراهيم الجمل ابن قرية جمزو. ولد أحمد عام 1922. كان جد أحمد المرحوم ابراهيم الجمل مختاراً لقرية جمزو في فترة الحكم العثماني. أما والده المرحوم عيسى الجمل، فقد كان مختاراً في زمن الانتداب البريطاني وكان مسؤولاً عن إحصاء السكان في القرية.

 

 

يافطة عبرية توثق احتلال قرية جمزو

كان أحمد الجمل يرافق والده خلال تنقله بين البيوت لإحصاء السكان، فعلقت بذهنه تفاصيل القرية بكاملها، ومكان سكن كل عائلة، وتركيبة كل بيت، وأسماء الحارات والمناطق. في النكبة هجر أحمد الجمل مع عائلته من قرية جمزو، وبعد رحلة شتات طويلة، ومضنية استمرت 11 عاماً، تجمعت عائلة أحمد الجمل في الولايات المتحدة.

 

 

بقايا بيت في خربة الضهيرية

رغم رحلة الشتات بقيت تفاصيل قرية جمزو عالقة في ذهن أحمد الجمل، فقام بتوثيقها على ورقة طوالها 40 سم* 40 سم وبعد ذلك تمّ عرضها يوم 2/8/2008 في متحف "سبرتس" في شيكاغو تحت قسم " إحداثيات متخيلة ". حينها اعتبر الصهاينة، ومؤيدو إسرائيل في شيكاغو، نشر الخريطة التي توثق قرية جمزو ببيوتها، وحاراتها، وأسماء أهلها، بمثابة إثبات واضح للتطهير العرقي الذي مارسه الصهاينة ضدّ الفلسطينيين، ونسفا للرواية الصهيونية، وللمقولة أن فلسطين "أرض بلا شعب"، وقاموا بالاحتجاجات لإزالة الخريطة من المتحف. 

 

قرية خربة الضهيرية

نحو موقع البلدة

محطتنا الأخيرة هي خربة الضهيرية. بجانبها وعلى أراضيها أقام الصهاينة غابة للقرود. خربة الضهيرية هي أصغر القرى الثلاث. بلغ عدد سكانها في النكبة نحو 120 نسمة، وضمت عشرات البيوت فقط. تقع خربة الضهيرية على تلة مرتفعة، يظهر من خلالها جمال السهول والبحر. استوحي اسمها من موقعها المطل على المنطقة. أيضاً هنا هدم الصهاينة كل بيوت القرية، ولم يبق مكانها إلا بعض جدران البيوت.

 

 

 

بقايا من خربة الضهيرية

بعد هذه الجولة على القرى الثلاث، سنتجه في وقت لاحق إلى نعلين، حيث ستستضيفنا الحاجة حوا الخواجا المهجرة من خربة الضهيرية لاستكمال المسيرة، والإطلاع على الجديد من البلدات المهجرة الأخرى.

 

 

 

من بقايا خربة الضهيرية

في هذه الأيام أراضي الضهيرية مليئة بالخيرات، لعل أفضل هدية يمكن أن نأخذها معنا إلى الحاجة حوا بعضاً من خيرات قريتها من شومر، وزعتر، وورق اللوف، وبالتأكيد، سوف تكون سعيدة بهدية تحمل عبق قريتها، وأريجها.