دور "الاستثمارات" في تهويد وتهجير عكا

المنظر المحزن والمقلق الذي ظهر في الايام الاخيرة عند بوابة عكا الشرقية، نتيجة لهدم سينما بستان التاريخية لإقامة فندق فخم مكانها، يستوجب  التساؤل عن أهداف وابعاد هذه الاستثمارات الضخمة في مدينة عكا الفلسطينية.

عملية التهجير، والتهويد في عكا، وتغيير معالمها العربية والإسلامية، بما في ذلك أسماء شوارعها، وساحاتها مستمرة منذ النكبة وحتى اليوم، ولكن الوسائل والطرق تختلف بين الحين والآخر، ويبقى هدف المؤسسة الحاكمة تطهير البلدة القديمة من سكانها، وتاريخها، وآثارها، ومعالمها، شأنها شأن باقي مدن الاحتلال الاول مثل يافا واللد والرملة وحيفا.

 تعمل  المؤسسة الاسرائيلية باستمرار، وبتصميم، ودون كلل، لتحقيق هدفها، ففي الماضي  انتهجت هذه المؤسسة  طرق المضايقات المباشرة مثل منع من تبقى من  السكان من ترميم بيوتهم، وإرهاق المخالفين بالغرامات الباهظة. كذلك إغراق البلدة القديمة بالمخدرات، وتسميم مياه البحر القريبة لقطع أرزاق الصيادين. كل ذلك لحمل السكان على ترك بيوتهم. أما اليوم، فتستعمل المؤسسة الاسرائيلية ما تسميه  "بالاستثمارات لتطوير عكا القديمة"، وهو بمثابة  تطبيق لنهج الاحتيال لأبرز زعماء الحركة الصهيونية شمعون بيرس، في إطلاق أسماء جذابة على مشاريع هدفها التطهير العرقي مثل "خطة تطوير الجليل"، و "خطة تطوير النقب".

تهدف "الاستثمارات" إلى تحويل البلدة القديمة إلى منطقة سياحية تسيطر عليها رؤوس الأموال التي يقوم أصحابها بتطبيق المشاريع التي خططتها، وحضرت لها اذرع هذه المؤسسة، والتي تحوي بالأساس تغيير المعالم العربية والإسلامية للمدينة،  وتهجير وترحيل أهلها الأصليين. وقد تم البدء بتنفيذ هذه المشاريع قبل سنوات طويلة عندما قامت بلدية عكا الإسرائيلية، ولجان التنظيم، والبناء بتغيير استعمال مناطق واسعة من عكا القديمة من سكنية إلى سياحية، بحيث أصبح سكن مئات العائلات في البيوت التي تقيم فيها منذ عشرات السنين، "غير قانوني"، وسببا كافيا لإخلائهم وتهجيرهم .

وقد انطلت هذه الخدعة على أناس كثر من العرب المخلصين الذين ظنوا إن هذه "الاستثمارات" ستدعم صمود، وبقاء أهالي البلدة القديمة، وستضمن لهم فرص عمل. من جهة أخرى، كان هناك من رأى بهذه المخططات نافذة للكسب الشخصي مع علمه لخطورة هذه المشاريع. في المقابل، عمل رجال السلطة على بث اليأس في النفوس في إمكانية تغيير، أو إبطال هذه المشاريع، مستشهدين بمؤسسات قانونية بعدم إيجاد ثغرات حسب القانون الإسرائيلي لإفشال هذه المخططات، وكأن الموضوع هو خلاف قانوني.

يستعمل المستثمرون، وشركة "تطوير عكا" الإسرائيلية الادعاء انه قد ينتج عن تنفيذ هذه المشاريع الضخمة تشغيل عدد من أبناء عكا القديمة، وتوفير مصادر رزق لهم. هذا الادعاء يتجاهل أن هؤلاء سيعملون بالأعمال البسيطة مثل التنظيف، والطبخ، والصيانة مما سيديم فقرهم،  وبالتالي لن يستطيعوا البقاء في عكا التي سترتفع أسعارها بشكل كبير نتيجة لتحويلها لمناطق سياحية، بينما الربح الأساسي سيكون لرجال الأعمال، وللبنوك، ويتجاهل أيضا عملية الإخلاء، والتهجير التي يتضمنها تنفيذ هذه المشاريع.

في الماضي تم تسويق خان الشواردة الذي يتواجد في المدخل الرئيسي لعكا القديمة كحوانيت صغيرة، مما أتاح لأهل البلد الأصليين إمكانية استئجارها، وافتتاح مشاريع صغيرة للعيش بكرامة. هذا الوضع لم يرق للمسؤولين الإسرائيليين الذين بادروا إلى نشر مناقصات ضخمة لعلمهم انه ليس بمقدور أهالي عكا اقتصاديا المشاركة بمناقصات ضخمة بهذا الحجم، متجاهلين إن  هذه المباني تعود ملكيتها إلى "الأوقاف الإسلامية" والتي يجب أن تعود بالفائدة على أهل البلد.

ولعل المشروعين الأبرز لمخطط تطهير البلدة القديمة في عكا هو "مشروع خان العمدان وخان الشونة والحمام الشعبي"، ومشروع "سينما بستان، وحي البرج". ففي كلتا الحالين نشرت ما تسمى "شركة تطوير عكا"، و"سلطة أراضي إسرائيل"، مناقصتين لتحويل هذين المعلمين التاريخيين الشاهدين على حضارة وعراقة البلاد إلى فنادق، ومناطق سياحية يتم من خلال ذلك محو معالمها العربية والإسلامية. وفي كلتا الحالين يقوم المستثمر بالتعهد بإخلاء، وتهجير السكان العرب الأصليين الذين يقطنون بهذه المناطق ضمن تطبيق التخطيط الذي حضرته شركة تطوير عكا.

وقد قامت "شركة تطوير عكا"، و "سلطة أراضي إسرائيل" قبل عدة أعوام  بتسويق مناقصة خان العمدان، دون أن يكون مقابل ذلك رد فعل شعبي قوي، إلى أن قامت "فلسطينيات" بمظاهرتها ضد مناقصة خان العمدان يوم 18/10/2013،  ومنذ ذلك الحين بدأ حراك شعبي، وحزبي قوي أدى إلى تعطيل هذه المناقصة.

في هذه الأثناء ظهرت بعض الأصوات التي تهدف إلى بث اليأس في النفوس، والى إقناع الناس بعدم إمكانية التغيير، أو إيقاف هذه المناقصات، وظهرت أصوات أخرى من المنتفعين الفاعلين على الساحة الذين ادعوا أن هذه المشاريع "تخدم" أهالي البلدة، مع علمهم عكس ذلك. ولم يخجل هؤلاء في استغلال الصحافة التي وصلت الى المكان لتغطية الأحداث لبث خطابهم الانهزامي.

 

 

 

مسجد الظاهر عمر - عكا

وبعد أن نجح هذا الحراك في تحقيق هدفه في تعطيل مناقصة خان العمدان برزت على الساحة هيئات، ومؤسسات اقتصادية التي ضمت أشخاصاً ممن عملوا على إفشال هذا الحراك وبث اليأس في النفوس، وقد أقصى المبادرون لهذه الهيئات والمؤسسات الحراك الذي بادر في إفشال مناقصة خان العمدان.

لم تمر أشهر طويلة حتى اتضح أن مناقصة مشابهة كانت قد نشرتها "سلطة أراضي إسرائيل" لتحويل منطقة سينما بستان، وحي البرج إلى فندق، وضمت هذه المناقصة أيضا تعهد للمستثمر بإخلاء وتهجير السكان العرب الذين يقطنون حي البرج، وطمس معالم مسجد البرج الموجود في المكان. وقد رست هذه المناقصة على مستثمرين عرب أسرعوا – تحت غطاء "شركة تطوير عكا" الى فتح ملف في دائرة الإجراء لإخلاء الحاجة سلوى زيدان من بيتها الذي تقطنه منذ خمسين عاما، كخطوة أولى للبدء في تنفيذ المشروع، مدعين كذبا أن الأمر حصل على مباركة مفتي الديار المقدسة الذي هدد بدوره المستثمرين بالتوجه إلى القضاء بحالة أنهم لم يتراجعوا عن هذا التشهير .

حينها بادرت "فلسطينيات" مرة أخرى إلى حراك شعبي واسع لإفشال هذا المخطط، ومنع تهجير عائلة الحاجة سلوى زيدان، والحفاظ على مسجد البرج، ومنع طمسه، وقد فاجأت المشاركة الشعبية الواسعة والقوية الجميع، وفتح هذا الحراك مواضيع مهمة كانت مغلقة منذ سنوات طويلة مثل موضوع "الأوقاف الإسلامية" في عكا.

من معالم عكا

في هذه الفترة تعرض المبادرون في هذا الحراك إلى محاولات تشهير، وملاحقات قانونية وغيرها لإفشال هذا الحراك، وتنفيذ المشروع. ومما يؤسف له أن بعض الفئات، والهيئات التي كان يعول عليها، أخذت موقفا يخدم تنفيذ المشروع،  رغم كونه سابقة في التهجير عن طريق الاستثمارات. وكان لنجاح هذا الحراك في منع إخلاء وتهجير عائلة الحاجة سلوى زيدان، والحفاظ على مسجد البرج تبعات، وأبعاد كبيرة، ومهمة.

وكما في موضوع خان العمدان، وعلى خلفية قضية حي البرج، والالتفاف على الحراك الشعبي، سرعان ما تأسست مؤسسة اقتصادية أعلنت أن هدفها "إنقاذ" حي البرج وضمت هذه المؤسسة بداخلها أناسا منتفعين، بالإضافة إلى رئيس "لجنة الوقف الإسلامي في عكا" المعيَن من مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلي.

إن الحراك الشعبي الذي بادرت إليه "فلسطينيات”، سواء في موضوع خان العمدان، أو في موضوع حي البرج، والذي نجح في منع تهجير العائلات الفلسطينية، والحفاظ على مسجد البرج،  يثبت مرة تلو المرة، أن النضال هو الطريق لإفشال مخططات السلطة لتهويد، وتهجير المدينة، وان هذا الأمر ليس بالمستحيل، وإنما يحتاج إلى قناعة بقدرتنا على الصمود، والتصدي. مع العلم أن هناك بعض المنتفعين، وبعض المتعاونين والمستعمرين الذين سيعملون مع السلطة على تنفيذ هذه المشاريع، على أمل أن يعي الناس الصادقين الذين انطلت عليهم خدعة الاستثمارات، أن هذه طريقة، ووسيلة من وسائل السلطة في التطهير العرقي، والتاريخي للبلاد، وان القضية ليست اقتصادية، وإنما قضية وطنية.