المُثقّف الشّهيد : الأعرج الذي صوّب مسار القضيّة

مضت أيّام قليلة على استشهاد الشّاب الفلسطيني المقاوم والمثقّف المُشتبك باسل الأعرج، على يد الاحتلال الصّهيوني بعد مسيرة ناصعة من النّضال الشّريف وعدم الاعتراف بعدوّ الحجر والبشر.

فلسطين التي أنجبت جورج حبش و إدوارد سعيد و فتحي الشّقاقي، أنجبت باسل الأعرج
استشهد  باسل (1984 – 2017 ) بعد أن قاوم عدوّه ببسالة حتّى الرمَق الأخير. ساعتان من القتال المُتبادَل انتهت بارتقاء الأعرج في المنزل الذي يستأجره وسط مدينة البيرة. لا أحد يُنكر أحقيّة كلّ شهيد على أرض فلسطين في تخليده كرمز مُشرّف للصّمود، في زمن الانهيار والتّلاشي والتّفاوض السّاذج والجبان.

لكنّ باسل الأعرج كان شهيداً فوق العادة. ومَن يعرفه، يعرف الشّاب المُثقّف الذي سكنَته فلسطين من النّهر إلى النّهر. فلسطين التي لا تعترف بالاحتلال، فلسطين التي تحترق ولا تستسلم.

قريباً من القضيّة بعيداً عن الشّهادة سنتحدّث: باسل "المُثقّف المُشتبك" كما يُسمّيه رفاقه وإخوته في الكفاح، أعاد إلينا القضيّة مجدّداً. الأعرج صوّبها في أذهاننا  ورسم خطّاً مستقيماً وواضحاً يؤدّي إلى القدس مباشرة بعيداً عن المُنعرجات  والانحرافات التي لا دور لها غير تخفيف الحصار على العدوّ و منحه فرصة أكبر للبقاء.

المُثقّف الشّهيد كان كبيراً في زمن الصّغار. مُجرّد أن تُبحر في سيرته الشّابة ستأتي إلى مخيّلتك ثلّة من الشّهداء العِظام في فلسطين وغيرها من بلدان العالم. هؤلاء الذين سكنتهم عقيدة القتال بشرف وما اختاروا التّراجع لحظة.

جميعنا يعرف أنّه مازال في فلسطين شباب يكافح بالسّلاح والفكر وكلّ ما تيسّر من أسباب العمل المقاوم. وجميعنا يعرف أنّ الكتائب المقاومة - على قلّتها - لن تتزحزح قيد أنملة على الغاية الكبرى وهي التّحرير ودحر العدوّ طال الزّمن أم قَصُر. لكن جميعنا أيضاً قد نسيَ أنّ هناك مُثقّفاً عربيّاً مازال يُقاتل جنباً إلى جنب مع أبناء شعبه. الواقع الذي نعيشه في هذا الزّمن العربيّ المرّ صوَّر لنا المُثقّف كائناً خياليّاً يعتكف مع كتبه في برجه العاجيّ الزّائف ثمّ يخرج إلينا في كلّ مرّة ليُسقط علينا نظريّاته وهرطقاته ثمّ يعود إلى "قصره".

لكنّ باسل الأعرج "مُثقّف فلسطين" كان شهيداً فوق العادة لأنّه مُثقّف فوق العادة. شابّ يحفظ البلد عن ظهر قلب بتُراثه ومدنه و سهوله وأشجاره ومبانيه ومساجده  وكنائسه وأطياره . مُثّقف يقود المسيرات المُناهِضة للعدوّ ويتعرّض للضرب من طرف الأمن . مُثقّف يعتقله المُحتلّ ستّة أشهر وينكّل به كي يُجبره على نسيان القضيّة، وتتآمر ضدّه سلطات بلده وتحاصره كي يعترف ويفاوض لكنّه يأبى أن ينسى أرضه وشعبه . ليعود في ما بعد أقوى ويحمل القضيّة في قلبه ويزرع التشبّث بها في كلّ حبّة تراب يمرّ عليها في فلسطين ولبنان و كلّ مكان تطأه قدماه.

العدسات التي تجوّلت في منزل الشّهيد بعد عمليّة الاغتيال المٌشينة. رصدت كتباً ومجلّات من بينها "فكر غرامشي"، ووثّقت كيف اندمجت الكوفيّة والسّلاح والقلم والكتاب في فكر وشخصيّة باسل الأعرج. ربّما هي الومضة الأبرز في الحاضر الفلسطينيّ والعربيّ. الواقع يحتاج فكر باسل الأعرج في كلّ ساحة. واقعُنا في أمسّ الحاجة إلى "المُثقّف المُشتبك" الذي نظّر له باسل الأعرج وترجمه على أرض الواقع. المُثقّف الذي يحمل فكره وبندقيّته  يقاتل ويفكّر. المُثقّف الذي يبحث في تاريخه ويسجّله وهو ما فعله باسل الأعرج حين شرع في توثيق محطّات الثّورة الفلسطينيّة من 1936 حتّى 2000، من خلال الوصول إلى كلّ مناطق الاشتباك السّابقة والأماكن التي شهدت المعارك الشهيرة والعمليات الفدائية ضدّ الكيان المُحتلّ.

"بدّك تصير مُثقّف يعني أن تكون مُشتبك ، ما بدّك تشتبك لا منّك ولا من ثقافتك" هكذا كان يُردّد الشّهيد دائماً. هذه المقولة سيحفظها المقاومون جيلاً بعد جيل. ربّما ليس الآن، لكنّ هذه الكلمات حتماً ستحدث منعرجاً فاصلاص في مسار النّضال العربيّ عموماً والفلسطينيّ خصوصاً ضدّ الكيان الصّهيوني الغاصِب.

هذه العبارة إلى جانب مقولة "عش نيصاً و قاتل كالبرغوث" التي ترجمها المُثقّف الشّهيد في مقالة مفصّلة هي بمثابة تأسيس لنظريّة جديدة ومعاصِرة لفعل المقاومة تراعي الواقع العربيّ الرّاهن وحال الوهن الواضحة على مختلف الأصعدة. مقولة تراعي أغلب من عهدناهم يساندون المقاومين ويدعمونهم بكلّ الطّرق وتدعو الشّباب إلى التأقلم مع الظّرف الرّاهن في حربه المُستمرّة ضدّ الصهاينة.

الخلاصة الأهمّ هي أنّ باسل الأعرج باستشهاده المُتوقّع - والذي ترك بعده وصيّته لرفاق الدّرب يطالبهم بالمقاومة حتّى الرّمَق الأخير – و بنهايته دحر من أذهاننا تلك الصّورة المشوّهة التي نحملها عن المُثقّف وأشّرَ لبداية مرحلة جديدة من المقاومة ضدّ العدوّ. مرحلة على المُثقّف العربي الشّريف أن ينخرط فيها بقوّة ويقودها حتّى تلتحم الأقلام بالبنادق ويُحاصر العدوّ فكريّاً وميدانيّاً واقتصاديّاً  ثقافيّاً. فلا جدوى اليوم لمُثقّف لا ينتصر لشعبه ولا يشتبك به ضدّ المُحتلّ.

والخلاصة الأخرى أنّ فلسطين – التي أنجبت جورج حبش و إدوارد سعيد و"أبو جهاد" و فتحي الشّقاقي ... وأنجبت وديع حدّاد القائل "وراء العدوّ في كلّ مكان " – لم تخضع بعد للعدوّ فهي في الوقت الصّعب (2017 ) أنجبت مُثقّفاً شهيداً  ومقاوِماً استثنائيّاً كباسل الأعرج القائل "ما بدّك تشتبك لا منّك و لا من ثقافتك"،  وهي حتماً مازالت ستُنجب شهداءً آخرين ستسكنهم فلسطين وسيحملونها في قلوبهم وعقولهم وبنادقهم حتّى لحظة الاستشهاد فوق ترابها .