غسان كنفاني.. كلمة السر في أدب المقاومة
في الذكرى السنوية ال 48 لإستشهاد الأديب الفلسطيني غسان كنفاني ننشر مقالة للاسير الفلسطيني كميل أبو حنيش المحكوم بتسعة مؤبدات وهو يقبع في سجن رامون.
لطالما كانت الثقافة المقاومة والأدب المقاوم سلاحاً بيد الشعوب المقهورة التي تعرضت بلادها للغزو وتاريخها للطمس، والتي تُعد القلعة الأخيرة لحماية تراثها وتاريخها وثقافتها من الطمس والتحريف ودفاعاً عن وجودها وحقها في الحياة بحرية وكرامة، واستنفار الجماهير وحضها على المقاومة. ولطالما وجد الرصاص طريقه إلى المُبدعين لوضح حدٍ لأصواتهم التي يعتبرها الجلاد خطراً لا يقل خطورة عن باقي أشكال الكفاح الأُخرى، وفي حياة شعبنا وتاريخه الطويل في المقاومة ومقارعة أعتى الاحتلالات في التاريخ، كانت الكلمة والأدب والثقافة المقاوِمة سلاحه في الرد والمجابهة واستنهاض الهمم. وكان غسان كنفاني أحد القامات الشامخة التي آمنت بأهمية الكلمة وتحويلها إلى سلاح مقاوم، وغسان ابن جيل النكبة الذي شهد على ضياع الوطن وتحوّل شعبه إلى لاجئ منكوب وحفرت هذه المرحلة عميقاً في وجدانه ولم يجد هذا المُبدع غير قلمه ليُقاتل به مُبكراً، إذ وُلدَ أدب غسان من رحم النكبة والهزائم فكان قدره أن يكون أديباً مُقاتلاً ومُشتبكاً على الدوام وكأن المرحلة قد اختارت غسان وأنجبته ليرفع لواء الأدب المقاوم الذي عاصر النكبة وواكب رحلة الضياع وشهد ولادة الثورة.
رغم مرور قرابة سبعين عاماً على ولادة أدب غسان إلا أنه ظلّ محافظاً على نصاعته وأُلقه وتحدّيه لأية مرحلة مهما كانت مُجافية.
لقد استلّ غسان قلمه منذ بدايات خمسينيّات القرن العشرين وقرر أن يجدف به عكس المرحلة لأنه يؤمن بأهميّة الأدب المقاوم وأنّ الكلمة ستمضي وتشُق طريقها إلى أن تجد في يومٍ ما من يلتقطها ويحولها إلى سلاح، فكانت كتابات غسان منذ بدايات الخمسينيّات وحتى انطلاق الثورة أشبه برسائل البحر يكتبها ويُلقي بها على هوامش الصحف والمجلات في ظل هزيمة عربية مُدوية، فكانت هذه القصص والمقالات الصحافية تستنهض الهمم وتقاوم الهزيمة وتسبح عكس التيار وتأخذها الأمواج من مكان لآخر وتقاوم أمواج الهزائم وثقافة الانكسار في تلك المرحلة.
لم يستسلم غسان وظلّ يكتب لأنه مؤمن أنّ كتاباته سيكون لها شأن عظيم في قادم الأيام وأنّ هذه الحالة من الهزيمة مسألة عارضة ولا بُد حتماً أن تتبدل الظروف، فكان أدبه يُبشّر بالثورة ويحرّض عليها، كان أشبه بغزال يُبشّر بزلزال كما وصفه الشاعر محمود درويش، فكتب سلسلة من القصص القصيرة والمقالات وكتب روايات "ما تبقّى لكم" و"رجال في الشمس" التي ما فتئت تُحرّض بالقول "دقّوا جدران الخزان". ثم جاءت هزيمة حزيران / يونيو عام 1967 ولم يلبث شعبنا أن دق جدران العالم مُعلناً ثورة عظيمة دفاعاً عن حقه في الوجود، فكتب غسان عن "الرجال والبنادق" و"أمُ سعد" و"عائد إلى حيفا"، و"برقوق نيسان" و"العاشق والأعمى والأطرش" وسلسلة من القصص القصيرة والمقالات والدراسات، حيث لم تجد كتاباته الجديدة أيّة صعوبة هذه المرة. وبعد أن تبدّلت الظروف وبعد أن شق غسان طريقاً وعرة وعبّدها لاحقاً بدمائه، كتب عن أدب المقاومة تحت الاحتلال مُعلناً ومُعرّفاً العالم على شعراء وأدباء الأرض المُحتلة كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وراشد حسين وآخرين، وكتب عن الأدب الصهيوني كاشفاً عن رجعيّته وعنصريّته وارتباطه بالاستعمار.
وطوال نصف القرن الماضي كُتب الكثير عن أدب غسان ولا نزال نكتب وفي كل مرة نكتشف ما هو جديد، نكتب لأن أدبه استثنائي ويضج بالألوان ولا يحصرك في مربع واحد، ولأنه ببساطة كان مبدعاً عزّ نظيره في تلك المرحلة ولأنه مبدع سنظل نكتشف المزيد من هذا الإبداع.
وغسان الذي اعتنق قضيته اختار أبطاله من البُسطاء، الذين حوّلهم في رواياته وقصصه إلى عباقرة يجترحون المعجزات ويُغذّون الخطى نحو فتح كوّة في جدار الصمت مهما كان سميكاً، كان يكتب ولم يطلب ولم يستجدِ أن نقرأه ولم يتوسّل عبارات التمجيد ولم يؤرّقه هاجس الشُهرة أو الاندثار.
وميزة أدب غسان أنه لم يرتجف يوماً أو يُصاب بالجزع أو الانزلاق والتساوق مع أية مرحلة، ولم يختبئ يوماً وراء الاستعارات بل كان واضحاً ومُباشراً وثورياً صريحاً في انتمائه وفي عشقه للبندقية، ولم يتلكأ كما تلكأ البعض ولم يجبن ولم يعانِ أدبه عقدة الكساد، كان يكتب وحسب ويؤمن أنّ الكلمة من شأنها أن تشق الدروب وتهدم القلاع والحصون، أدبٌ له لغته الخاصة من الألف إلى الياء، وكان يعرف طريقه جيداً وسط الأدخنة والضباب.
يدعوك لعدم الانحناء وأن تُجابه الموت واقفاً تحت زخات الرصاص، أدبٌ ينطوي على الأُلفة والكبرياء ومُعلناً أنّ الثورات لا يُمكن لها الانتصار بغير الصدق، أدب يُعلّمنا التواضع وكيفيّة استنبات الأمل والتمرد والانتماء عميقاً للوطن والقيم الإنسانية.
وسر أدب غسان البساطة والإيمان الذي لا يتزعزع بحتميّة الانكسار ويُعلّمك الفارق بين خيمة اللجوء وخيمة الثورة، وبين البنادق المهجورة والبنادق الثائرة، وبين الطابور المُصطف أمام وكالة الغوث وبين الطابور المُصطف في قلب معسكر الفدائيين.
لم يكن أدب غسان مبتذلاً يتوسل التكييف مع كل مرحلة أو باحثاً عن أمجاد ذاتية ومُسوّغات وتبريرات سخيفة للواقع، كان منحازاً للوطن والمواطن العربي والبندقية والثورة، وانحيازه كان واضحاً كوضوح الشمس وقاطع كحد السيف، وهو أدب يصنع الرجال كما وصفه الكاتب العربي يوسف إدريس، فتمثّلت أدبه أجيال وطوابير طويلة من الثوار والمناضلين في كل مرحلة من مراحل الثورة. وفي الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت جدران البيوت في شتى مدن وقرى ومخيمات الوطن مطرزة بعبارات من أدب غسان تعلّمها الأطفال والنساء والرجال وحفظوها عن ظهر قلب وترجموها في ميدان المواجهة، مثل عبارات "لا تمت قبل أن تكون نداً" و"خُلقت أكتاف الرجال لتعليق البنادق" و"دقّوا جدران الخزان" و"الإنسان قضية" وغيرها الكثير، من هنا تنبع أهمية الأدب المقاوم في حياة الثورات.
إنّ ميزة أدب غسان وسرّه أنه أدب مقاوم، وحين نقول إنه مقاوم فهو يعلن انحيازه للفقراء والجماهير الثائرة، وبالتالي فهو مُوجّه لها، يستكشف أعماقها وطريقة حياتها ويُعبّر عنها، ولهذا كان أبطال قصصه ورواياته كلهم من الفقراء، ولأنه يعكس موقفاً طبقياً فهو أدب ثوري راقٍ وخالٍ من الابتذال والسطحية، وينشد البحث عن المعنى في النضال، لأن رحلة النضال تعبّر عن المعنى الحقيقي في الحياة، فكان يرتقي ويحتفي باللاجئ والفقير ويرفعهم إلى مرتبة الشرف بعد أن يُسلّحه بالمفردات والمواقف المُعبّرة، ويحضّه على العمل بالقول "لك شيء في هذا العالم فقم."
وغسان من الطراز الذي لا تغويه أو تطربه التوصيفات والمدائح والجوائز الفارهة، ومن يفهم لغته يُدرك أنه تعدّى مرحلة المراهقة الأدبية والفكرية، وباختصار كان غسان ملتصقاً بقضيّته ومنهمكاً بالكتابة دفاعاً عنها لأنه يعي أهمية أدب المقاومة في معركة التحرر الوطني. وكان يرقد ويلهث في الكتابة لأنه يعرف أنّ أعمارنا محدودة كبشر، ولأنه كان مريضاً بالسكر والربو وفوق كل ذلك كان مُستهدفاً بالاغتيال. هذه الهواجس المُتربّصة بغسان لن تضعفه أو ترده عن أداء رسالته بل كانت تحضه على الإسراع، لأنّ ثمّة كلاماً يجب أن يقوله قبل أن يمضي.
لقد قيل الكثير عن غسان وحياته القصيرة وإبداعاته المتعددة، ومن ضمن ما قيل "إنه لو قدر له أن يحيا لعمر أطول ربما سيكون إنجازه الأدبي والثقافي أكبر بكثير". ربما هذا صحيح وربما أيضاً أنّ شعوره الداخلي باقتراب موته، شكّل حافزاً له ليواصل رحلة الكتابة وليصل الى حالة الإبداع وهذا أيضاً سر آخر في إبداعه.
كثيرون حاولوا أن يُقلّدوا غسان إلا أنهم فشلوا ولم يرتقوا الى مستوى انتاجه الأدبي، ليس لأنه سقط شهيداً وعمّد رحلته الأدبيّة بالدم، ولكنه ببساطة كان صادقاً بانتمائه وبحسمه لخيار النضال، كثيرون هم من حاولوا الالتصاق باسمه من باب اقتباسه والكتابة الدائمة عنه، لكن بعضهم لم يصمدوا أمام الموائد الباذخة فتساقطوا وتسارعوا للبحث عن أمجاد إذاعية وتلفزيونية وجوائز عديمة الجدوى، وفي ذات الوقت كثيرون هم الذين تخرّجوا من مدرسة غسان وساروا على نهجه.
كما نحن اليوم أحوج ما نكون للتشبّث بهذا النوع من الأدب المقاوم في ظل الثقافة الاستهلاكية الهابطة التي تكرّسها الفضائيات العربية ومهرجانات الثقافة المُموّلة بأموال البترو-دولار، فيخرج لنا أشباه مُثقفين ومُبدعين يعتقدون أنفسهم أنهم قد باتوا آلهة ويأنفون عن الاختلاط بالجمهور والكتابة عن هموم وقضايا شعوبهم، ويعتزلون في أبراجهم العالية المُشيّدة برمال الأمجاد الرخيصة.
واليوم نشهد حالة من التراخي والهبوط في مستوى الثقافة والإبداع وثمة من يعملون على طمس أي ثقافة مقاومة، ويُلمّعون الثقافة الانهزامية ويحرفون الأنظار عمّا يجري في الساحات العربية من مذابح وحروب، ويتجاهلون السطوة الأميركية الصهيونية، والنتيجة أنهم يرجون الاستسلام والاستغراق في الاستهلاك وتقليد كل ما يصدر في الغرب.
لقد باتت الحداثة وما بعد الحداثة هي العجل الذهبي الذي يعبّده أنصاف المبدعين، ولأنّ الحداثة وما بعدها تقتضي أن تكون الرواية والقصة والقصيدة غامضة وغير مفهومة، وهذيانه لا شكل له ولا طعم ولا رائحة، لأنها تغدو مثلاً أعلى لهؤلاء المُثقّفين، فكلما كنت عبثيّاً وغامضاً وسطحيّاً كلما كنت أكثر حداثة، فقصيدة الشعر باتت اليوم مقطوعة لا تتعدّى السطر الواحد فيما القصة باتت قصيرة جداً بحجم إصبع الطفل الصغير وتحتاج إلى مجهر لرؤيتها لأنها يجب أن نُراعي موضة المرحلة.
ولو كان غسان حيّاً فهل سيتأقلم مع هذه الحداثة ومع عابدي العجل الذهبي؟.. أغلب الظن أنه سيكتب ويسخر، فالإبداع لا يُختصر بالتقليد الفارغ وتملّق الجهلة والبحث عن المجد والشهرة والمال، وبالطبع ليس الإبداع الانشداد والكلام الخالي من أي طعم. لكنه في الرسالة التي يحملها، ومضمون هذه الرسالة ومدى تأثيرها وقدرتها على إحداث التغيير في وعي الشعوب، فالإبداع ليس خاضعاً لأمزجة من يُهندسون لنا وعينا بالآراء عن بعد ويريدون لنا العيش وفق مقتضيات لحظة التكنولوجيا الاستهلاكية المنعدمة القيم، وهم ذاتهم يفتقدون لأية ثقافة وإبداع. كل ما يهمهم الهيمنة على الوعي وملء جيوبهم بالدولارات، وإبداعهم مقتصر على تدمير وعي الشعوب وإغراقها بالجهل، وهذا فخ سقط فيه العديد من المبدعين، إنها مشكلة التكيّف مع الواقع حتى لو كان هذا الواقع منافياً لكل ما يحملونه من قيم ومبادئ.
رحل غسان وبقي أدبه خالداً يروي حكاية شعب فقد وطنه ويحضّه على المقاومة لأنّ قدر الشعوب المقهورة أن تقاوم، وأما خيارات الاستسلام والمهادنة، فلن تقود إلا إلى المزيد من التشرذم والضياع.