وجعٌ صامت

لا تطلب من مريض نفسي شرح ما يدور في خلَجاته.

في مشهدٍ مسرحي حزين يصف حال شخص يمرّ بأزمةٍ معينةٍ، كل ما حوله باهت. أضواء خافِتة وموسيقى حزينة ومشاعر مُتناقِضة بين الشخصية الأساسية والحزينة. تقلّبات مزاجية وصرخة روحية خافِتة.. كانت هي تشاهد والدمعة تغرغر.. تذكّرت ما مرّت به قبل أعوام من انهيارات وضياع داخل غرفة التبستها لسنين، لم تكن حينها ممثلة بل كانت هي الشخصية الأساسية.

شريط ذكرياتها بدأ في تذكّرها للحظة خُذلان موجِعة قلبت حياتها رأساً على عقب. لحن حزين يخرج من قوقعتها لا يتوقّف، تارة يعلو إيقاعه وطوراً ينخفض، وذلك بحسب المشهد المُنتظر وكأنها بطلة في فيلم رُعب.

لم تعد مُنتبهة لمشاهد المسرحية، إنساب خيالها لقصّتها القديمة وأسقطتها على خشبة مسرح خيالها. بدأ الراوي يروي مُقتطفات تمهيدية للمشهد المُرتَقب "خوف وحزن يُخيّم عليك تكاد تختنق. شعورٌ غريب يجتاحك لتهرب وتركض في الطرقات لتصل إلى مكان يأويك. تصرخ عالياً لتوقِظ الناس ليطبّبوا جرحك. تصدح، وترجو أن يتقاسم معك الكون ضعفك لكن من دون جدوى".

"تعود إلى غرفتك. تتخذ من الزاوية مخبأ لك. تتأمّل وتفكّر وفي رأسك تساؤلات تدفعك للانتحار. وجع روحي ينخز قلبك وهبّات ساخنة تسعى إلى حرقك، ومقاومة جسدية فاشلة ترميك أخيراً في الفراش. تنتظر بزوغ الشمس ليبدأ نهار جديد بروح مُتعطّشة للحياة. تستيقظ على أملٍ جديدٍ لكن يأتي ثوب ممزّق وسخ يلتبسك من دون إرادة وتصبح الشمس عدوّك بعدما كنت تنتظرها طوال الليل".

أحاسيس كثيرة تبقى عالقة لا يمكن وصفها، ولا يمكن إسقاطها في مشهد تمثيلي.. وجع صامِت يختلف عن أيّ وجع آخر يمكنك التعبير عنه.

في مرض ليس عضوياً يأتي نتيجة الخذلان المتكرّر أو ربما فقدان أو خسارة أحد، يذوب جسدك ولا حيلة لك للتحرّك. تنسى موعد الطعام، لا ترغب بالقيام بأيّ شي، تنتظر غروب الشمس لتعود إلى سريرك وتحاول النوم إلا أن عينيك لا تغمضان وتبدأ المعركة.

هذا المرض، النفسي، يظّنه الكثير خُرافة لكنه يُصيب الكثيرين. حينها تمرض روحك وتحتاج إلى الوقت لكي تلتئم. في وقت الشفاء ترجعك مفاهيم العالم إلى الخلف ظناً منها أنك "مجنون".

المرض النفسي هو مجموعة من الظروف الصحيّة النفسية التي تؤدّي إلى اضطرابات مزاجية وسلوكية وعقلية تشعر المريض أو مَن حوله بالسوء، وتعيق المريض عن حلّ المشاكل التي يمرّ بها في حياته اليومية، وبالتالي لا يستطيع العيش بصورةٍ طبيعيّةٍ، يصل به إلى درجةٍ عاليةٍ من اليأس، توصله إلى محاولة الانتحار.

في معظم الأوقات تعود هذه الحال بسبب فُقدان أحد الأشخاص أو خسارة عمل أو فشل في الدراسة أو قد تكون وراثية. تختلف سرعة الشفاء من شخص لآخر بحسب قدرته على التحمّل وإرادته للمقاومة، وأيضاً باختلاف أساليب العِلاج بين النفسي والدوائي أو حتى الإثنين معاً، فضلاً عن المحيط الاجتماعي للمريض الذي يلعب دوراً أساسياً في تطوير أو تأخير مراحل الشفاء.

لا تطلب من مريض نفسي شرح ما يدور في خلَجاته. في داخله يواجه سواداً مُخيفاً لا يمكن وصفه ولا حتى استيعابه. في نهاية المشهد المسرحي وقف الممثّل قائلاً "لم تتمكّنوا من استيعاب ما حصل.. ولا أنا".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]