الدراما والمجتمع باب الحارة..هكذا كان – الجزء الثامن

ليس المقصود في هذا المقال مُسلسل (باب الحارة ) الشهير الذي تراكمت أجزاؤه مُثبتاً أن الجمهور "عاوزكده" ، كاشفاً عن المستوى المَعرفي الحقيقي لهذا الجمهور، وعن مستوى علاقته بالفن والإعلام والإعلان، ومُثبتاً أيضاً عبر إستمرار الإصرار على إنتاج أجزاء مُستقبلية منه ،على الرغم من تراجع شعبيته التي إتّكأ عليها في إثبات نجاحه، أنه لا ضرورة للنجاح " الجماهيري "طالما هناك مُموّل، وإنما المقصود بباب الحارة هو جميع المُسلسلات والأعمال الدرامية التي اعتمدت الغيتو ( عقدة الإضطهاد ) الناتج من الخصوصية الثقافية المُدعاة أو المُشتهاة والتي تُسمّى مجازاً بالهوية.

تبدو اللغة البصرية بدائية على الرغم من كونها ملطوشة أو مُقلّدة من أنموذج ما .

أي أن المقصود هو الحارة ( كصورة لمجتمع مُشتهى) وبابها ، اللذان يُشكّلان متراساً دفاعياً عن "القِيَم الأنموذجية الحقّة !"،وإلحاق الغريب بالضلالة والباطل كتهمة لا تحول ولا تزول مهما كان، فهو على باطل لإنه غريب فقط، والغريب هنا قد يكون قادماً من حارة أخرى ( أي من اللا مجتمع) أو من أقاصي الدنيا " الغرب " الحاقد !. 
وهنا لا يكتسب المُحتوى وحده تلك التلفيقية التهويمية ، بل تتلبّس جميع مقوّمات الدراما التلفزيونية بها ( إن كان من حيث الكِتابة ، أو من حيث الإخراج بتفصيلاته الكثيرة من تصوير وإضاءة ومكياج وأزياء الخ)، إن كان في هذا النوع من المُسلسلات أو ما يوازيها من مُسلسلات مُعاصِرة أو تاريخية إن كانت موثّقة أو بلا توثيق ، وحتى الفانتازيا التاريخية . 

حيث تظهر تلفيقية هذه المقوّمات كجزء ٍمن المُحتوى ذي القيمة الإبداعية المُنخفضة،  حيث يمكن رصد تنويعة باهرة من الأخطاء الناتجة من إنعدام المعرفة (من دون أن نُشير إلى الموهبة )، حيث تبدو اللغة البصرية بدائية على الرغم من كونها ملطوشة أو مُقلّدة من أنموذج ما ، وذلك بسبب إنفضاض العناصر المعرفية من حولها واستعمال المهارة الحِرفية لوحدها مع ما يدعمها من فهلويات التسويق ، وهذا ما يُفسّر التداخُل غير المنطقي وغير المُسبّب بين هذه الحِرف ، فمَن استطاع أن يُسوّق نفسه مُخرجاً أو كاتباً وحتى مُنتجاً كان له ذلك (معروفة تلك التهم والشتائم التي يتبادلها أهل هذه الحِرف )، ومن هذه الشُرفة يمكننا الإطلال على أميّين مَعرفياً صنعوا بل وقادوا إنتاج هذه السِلعة الثقافية، في خَبط عشواء ، يُباعد بين المعرفة ومقاصدها من جهة وبين المُتلقّي المَبهور بالطُغيان الإعلاني الإعلامي من جهة ثانية، فاسحين المجال لدراميين يمتلكون بضع معارِف مدرسية ضَحلة مؤدلَجة وعصابية كي يقدّموا مُسلسلات تراثوية المُحتوى بغضّ النظر إن كانت تاريخية أم مُعاصرة ، فكلّها تمتلك ذات الباب الذي يُغلق على أهليها.


خلف هذا الباب (المّعرفي ) يتقوقع نموذج "المجتمع" المُشتهى ، رافلاً بثقافة ما قبل مُجتمعية ، مُطالباً بالإنصاف والمساواة مع ما يرفضه هو نفسه ( ولا نقصد هنا شُرعة حقوق الإنسان المرفوضة قلباً وقالباً ، والتي تُشكّل عملياً الدليل الوحيد على حقّ المُطالبة بالإنصاف والمُساواة  وربما العيش) عبر "منبره" الدرامي هذا ،الذي يثرب حضور الشخصية الفردية (كحقوق وواجبات) كصفة أولى للمُجتمعات الحيّة، حيث على الشخصية الفردية (ولا نقصد ألأنانية الفردانية) أن تذوب في شخصية الجماعة وأي خروج عنها هو بمثابة تخريب  وخيانة ومَعصية، فعلى الجميع أن ينضووا في قوقعة الزعامة مهما كان إختصاصها ، وذلك لحماية السِلم الأهلي الذي يُعتَبر خطوة بدائية في تأسيس المُجتمعات المُشتهى منها والواقعي أيضاً ، ليتحوّل الناس داخل البوابة إلى رهائن يختارون سلب إرادتهم بملء إرادتهم نفسها، ويتنازلون عن تمايزهم وإمكاناتهم وحتى إبداعاتهم مُقابل رضى الجماعة عنهم وقبولهم عضواً فيها ، حيث يظهر القانون الناظِم للعيش على شكل مرويّات شفاهية إستنسابية كأعراف وتقاليد تتّكىء معرفياً ! على التراث الذي يظهر فجأة كمعرفة غير مُتناسبة مع حاملها من جهة ، وكعامل درامي حاسم يستطيع التفريق بين الخير والشرّ بصورة سريعة وقطعية ، ليحتدمان أمام أعين المشاهدين ،الذين يستحضرون حكماً ( وهذا ملاحظة ميدانية مباشرة ) ردود أفعال مستمعي الحكواتي ، من يا باطل ....... الى فشر .

طبعاً في هكذا أعمال تنتفي أية مسؤولية مَعرفية أو تربوية (وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الرقابات التي اعتبرت نفسها عبقرية وفائقة القوّة والقسر) فلن يكون هناك أحد مسؤول عن أي خراب لاحق ، أو أية نتائج مُحتملة عن هذا الطرح البصري الفكري ،(نتذكّر هنا حكاية التحريض على قتل نجيب محفوظ) فالحُجج جاهزة دوماً عند صنّاع المُسلسلات، فمن ( الجمهور عاوز كدة) أو ( الناس أحبّت النوع )إلى  (هذه هي قِيَمنا الحقّة ) إلى الحجّة الأوهى والأكثر تداولاً والأكثر دهاء وهي ( هكذا كان ...) ونحن نتوخّى " الواقعية" ، ليجذب الناقد أو المُنتقد إلى دائرة المشافَهة المُشرعة عبر نقاش بلا نهاية أو مسؤولية ، وكأن بصانع المُسلسل يحمل حجراً ويدّعي أنه من كوكب الزُهرة وعلى الناقد إثبات أنه من الأرض وفي حال أثبت الناقد ذلك فلا شيء يترتّب على هذا الخطأ .

(في جلسة جمعتني مع الأستاذ الكبير تيسير السعدي الذي توفّى عن مائة عام تقريباً قال الأستاذ تيسير : ما كان هيك أبداً ..وهؤلاء لا يعرفون عن شخصيّاتهم شيئاً ولا عن البيئة وقتئذ، والجلسة كانت بحضور ألأستاذ علاء صبري مهندس الديكور المعروف)

ألأخطر تربويًا ومَعرفياً في ( هكذا كان) ..وهو لم يكن على أية حال ، ولربما كان عكسه في كثير من الأحيان ( يُمكن مراجعة العديد من الوثائق من أحمد بديري الحلاّق وحتى مرصودات منير كيال في كتبه العديدة عن دمشق).قلنا الأخطر مَعرفياً وألأشدّ تخريباً تربوياً هو تلك الحال الفردوسية التي يكرّسها هذا المُسلسل "الدرامي" لتلك البيئة ، والتي يتفرّع عنها إنتصارات ومفاخر ومقامات وتشريفات ، مبنية على خُزعبلات (شعائر) مُضحِكة لا تؤدّي إليها حتماً ولكنها تتحقّق ( تزبط). 
"فللدراما " ملعب واسع خارج المَنطق على الرغم من إدّعاء المَنطق . هذا العالم الفردوسي هو ما يطلب المُسلسل العودة إليه ،لا بل الجهاد من أجله ( لا ننسى هنا المُقارنة مع مُسلسلات الأندلسيات والفانتازيا  والمُقاربات الفلسطينية )،والتمسّك بشعائره وقوانينه المتحلية بالإكتمال المَعرفي ،ومنه استشراف المُستقبل والخ ، كوصفة نهائية ووحيدة للإنتصار على الأغيار وإلتقاط هذا العالم الفردوسي وإعادته إلينا ، ولربما وعلى الصعيد الثقافي أن الدراما  تكمُن هنا في الصراع بين فردوسين  المفقود والمستعاد ،وكلاهما في عالم آخر لا تطالهما ولن تطالهما الإمكانيّات التي تشحنها تلك المُسلسلات بهكذا نوع من الثقافة والتربية .

المُضحك المُبكي في هكذا مُسلسلات ، إنها تدّعي حالاً "مدينية" فائقة ،متوهّمة معرفة ليست ورادة في متن أعمالها ، فالمدينة بعلاقاتها إلإنسانية المصلحية المبنية على الإنتاج ودورته  التي توفّر حيزاً مَعرفياً  مُتجدّداً ،غير واردة في طيّات المُسلسلات "الدرامية " السورية بل الوارد فيها هو العكس تماماً ومع ذلك تدّعي وبإصرار أنها تُقدّم المدينة كما هي ، وهنا لا نقصد مُتلازمة ريف /مدينة بتاتاً ، بل نقصد مُتلازمة بدو/ حضر، فالمدينة المعروضة على شاشة هذه المُسلسلات ليست مُتعاكسة مع الريف الزراعي ، ولا هي واقعة في جدل تفاعلي معه ، بل هي على جدل تفاعلي مع البداوة كثقافة وشعائر ومظاهر وأعراف ، وهذا الأمر الذي يطرح الأصالة ( وليس الأصلية ) كقيمة إجتماعية فاقدة للمصالح أصلاً ، كونها قيمة تزيينية فخرية فلكلورية ، وتصنيع مقامات فائقة المعرفة منها ( السطوة أيضاً) عبر ربطها بالهويّة ، ذلك المفهوم الغائم كلياً عندما يتم توليده خارج علاقات الإنتاج/ الإبداع. في وصفة سحرية لإعتماد هكذا نوع من العلاقات الهُلامية لتأسيس المدينة  التي عليها أن تُقدّم نفسها بتاريخها ورجالاتها الأصليين الحضريين، من عكيد باب الحارة وحتى نزار قبّاني في المُسلسل الذي صُنع عن حياته. 
وهنا لم تُقصّر هذه "الدراما" في عرض قلّة معرفتها بمعنى المدينة ، وكأنه كان المطلوب هو تلبيس قِيَم البداوة للتجمّع السكني المُستقر كحضر تعبيراً عن أصالته /هويّته ،وممانعة تحوّله إلى مدينة/مجتمع ، تقليداً للأغيار المُستعمرين. حيث بدت هذه المُسلسلات تحذيرية توجسية لخيارات هذا التجمّع السكني بأن يتحوّل إلى مدينة ، إذ يُمكن لهم أن يخسروا أنفسهم في حال صاروا إلى مدينة بالمعنى المُعاصر . ومن هنا تبدو مقولة إلغاء الآخر غير المدينية ولا الريفية الفلاحية مقبولة بالبداهة في الحضر المُتجادل مع البداوة، فهي جزء أساسي من العزّ والجاه والكبرياء والأصالة   .

ربما الأمر يحتاج إلى تمحيص أكثر وهذا أمر ندعه للقارىء أو لفرص أخرى . فتوصيف ودراسة هكذا أنواع من الطروحات الفنية يتميّز بعدد كبير من السَقَطات المَعرفية التي يتمّ التعامل معها على أساس أن الأكثرية المؤيّدة للخطأ المَعرفي  هي أجدى وأحسن من أقليّة ترفضه ، وعلى قاعدة زيادة الإنتاج بزيادة عدد المُستهلكين حيث يتبدّى أن التجهيل وسيلة من وسائل الإنتاج لا بل مادّة أوليّة فيه .