سلام إلى عينيّ المطران كبوجيّ!
لكم تعذب أبونا في بعده، الذي انقسم إلى بعدين، بُعد عن فلسطين وبعد عن حلب، وهو ما رآهما سوى بُعد واحد ووطن واحد، حتى أخذه الحنين ليطلب حفنة تراب من كنيسة مار جرجس في حلب.
تُذكرني حلقات مسلسل "حارس القدس" الذي يعرض على شاشة الميادين، بأصدقائي الحلبيين، الذين تعرفت إليهم في الغربة وجالستهم ورافقتهم وكأني منهم، فتعلمت بعضاً من اللكنة التي أحبها، وأحب ما فيها من القدود الحلبية.. رفاقي الذين عشنا معاً في الخندق نفسه، وساندوني في أصعب المواقف، عمّار وطاهر ومحمد.
كنا نحتسي "كاس المتة" و"نتشطح ع الدشكة"، ونُعد "المقلوبة" و"المامونية"، ونشاهد صور حلب. وكم كان عمار يتألم لمشاهدتها! هو الذي حُرم من العودة إليها لسنوات طوال، يشاهد قلعة حلب ويسترجع بعضاً من ذكرياته عنها بحسرة.
لم أزر حلب يوماً، لكنني أحببتها بحب رفاقي لها. يحدّثونني عنها وعن "الكباب بامجان" و"الكبة الحلبية" بلهجتهم الحلوة. لم أستطع أن لا أتذكّرهم حين شاهدت المطران إيلاريون كبوجي كيف يسرد ذكريات حلب بشغف، ويحكي عن تعلّقه بفلسطين أيضاً. استحضرت تعلّقهم بفلسطين، إذ كانت سيرة المطران تختصر حيوات شعوب بأكملها، وما أجمله من قدوة!
رفاقي الذين تراكمت همومهم وكربتهم في الغربة، وهم منشغلو البال على بلدهم، كان همهم أيضاً فلسطين، فكان عمار يتابع أخبارها وينشرها في وسائل التواصل.
يقول المطران كبوجي في وصف هذا الحال: "المثل العربي يقول: الغربة كربة، والهم فيها حتى الركبة، وفي الكثير من الأحيان أنا أقول: "ليس حتى الركبة فحسب، بل حتى الرقبة، لأنه عندما ينمو إلينا وفاة إنسان، ما الذي تقوله؟ فلان فارق الحياة، فما الموت إذاً إلا فراق ما هو عزيز".
وهذا ما كانت عليه غربتنا؛ همّ الأحبة وهمّ الوطن. لامست في المطران كبوجي ما أمسينا عليه، ولامست فيه هذا الحب العروبي النابع عن روح محبة للإنسان، تنطلق من جوهر الدين الأسمى الذي قرأته في شعر سعدى ومولانا البلخي في شيراز، فلم تفرّقنا الثقافات، بل جمعتنا، ولم تفرّقنا الأديان، بل أرجعتنا إلى جوهرنا.
وفي سيرة الراحل الكبير المطران كبوجي ما يذكّرنا بكل هذا، ويعطينا الأمل في السير حذوه وحذو الكبار والعلماء من أجل القضية الأسمى: الإنسان الذي تتجلى فيه قضية فلسطين، فلا عيش هنيئاً لأي إنسان في غربة فلسطين.
تحركنا فطرتنا كي نرى أبعد؛ كي نرى الغنى في الاختلاف بين معتقد وثقافة، كي نستمد من كل منها زادنا في السير نحو التحرّر ضد المستعمر والغاصب، فهذا السيد عبدالحسين شرف الدين من لبنان ينشد فلسطين: "أيها العرب.. أيها المسلمون، لقد حمّ الأجل، وموعدنا فلسطين، على أرضها نحيا وفيها نموت"، وكان قد قصدها، وله فيها ذكرى في عكا وفي علما.
وهذا المطران كبوجي في منفاه يقول: "هذا الفراق القسري المفروض عليّ هو الموت المعنوي.. يموت الإنسان مرة فقط جسدياً، ويموت مائة مرة في النهار معنوياً، لأني أنا جسم فقط بعيد عن فلسطين وأبناء فلسطين، إنما بقلبي، بضميري، بروحي، وبصلاتي، أنا دائماً هناك معهم وبينهم، إذاً أعيش من ذكرياتي، والذكريات تولد الحنين، والحنين كذلك مبعث العذاب".
ولكم تعذَّب أبونا في بعده الذي انقسم إلى بعدين، بُعد عن فلسطين وبعد عن حلب، وهو ما رآهما سوى بُعد واحد ووطن واحد، حتى أخذه الحنين ليطلب حفنة تراب من كنيسة مار جرجس في حلب.
وهنا ما يسعني إلا أن أترك لكم هذه الكلمات للسيد عبد الحسين شرف الدين، التي ترينا العمق والوحدة في القلب والجوهر من رجلين، لكن بقلب واحد: "إن فلسطين من سوريا بمنزلة العينين من الوجه، ومن العرب بمنزلة القلب من الجسد، ولا قرار واستقرار بانفصالها عنها، والرفض حتى الموت لوعد بلفور".
فيما يقول المطران كبوجي: "نحن العرب، أينما كنا، وإلى أي مذهب انتمينا، نحن لا نؤلف إلا جسماً واحداً. نحن أعضاء في الجسم الواحد، كل شيء يجمع بيننا: إلهنا واحد، دمنا واحد، لغتنا واحدة، آلامنا وآمالنا واحدة، مصيرنا واحد".
فها نحن وما رُبّينا عليه وينبض قلبنا منه: حب القضية؛ تلك المضاءة من مشعل واحد، ودربنا واحد نسلكه في سبيل الخلاص.
ومن مسلسل "حارس القدس"، أستعيد هذه الذكريات بين الرفاق وذكريات السيد شرف الدين في نضاله ضد المستعمرين، فأرى بهذه العين في تلك المشاهد قضيتنا، وألمس من روح هذا المناضل، المطران كبوجي، روح كل مناضل عربي شريف.
تُفرحنا مشاهد تحرير حلب كما أفرحت قلب المطران، ونصبو إلى يوم تحرير فلسطين كاملة مكمّلة من دون حفنة تراب ناقصة، ويشتعل هذا الحنين بحنين المطران، فأرواحنا التي تنبض بحب هذه القضية هائمة تُقاتل، كما قال الشهيد عماد مغنية، وستبقى تقاتل إلى أن نُكحل عيوننا بالأقصى محرراً، فنستحضر روح المطران كبوجي وأرواح علمائنا المناضلين جميعاً بين قداس كنيسة القيامة وصلاة الأقصى.
فطوبى للمطران وطوبى لاستحضار هذه الذكرى.