التعددية الثقافية بين المواطنة والانتماء
تنهمّ الأديان في أصلها بمسيرة الإنسان وسلوكه التكامليّ واكتسابه الثقافة والأخلاق اللازمة ليقاربَ المثال؛ سواء أكان هذا المثال محمّداً أو يسوعاً أو أيّ نبيّ مرسَل. فالرسالة واحدة، ولا فرقَ بين التسامح المسلم والتسامح المسيحي.
ترتبط الأديان ارتباطاً وثيقاً بالثقافة. ومن صميم الانتماء الديني، تتجذّر عقيدة الإنسان وعلاقته الإيمانية بخالقه، وتحكم سيره التكامليّ وحياته الاجتماعية مجموعةٌ من النظم الأخلاقية التي شاءت الأديان السماوية أن تكون لخدمة حياة البشر وتنظيمها. هذه النظم تُكسبُه منظومة أخلاقية وثقافية تتشكّل معها هويّتُه الوجوديّة وكينونته في هذا العالم.
انطلاقاً من هذا الواقع وهذه الحقيقة، فإنّ بإمكاننا القول إنّ الأديان السماوية كلها تلتقي وتتقاطع هنا، عند مسألة الهويّة الوجوديّة، حيث تنهمّ الأديان في أصلها بمسيرة الإنسان وسلوكه التكامليّ واكتسابه الثقافة والأخلاق اللازمة ليقاربَ المثال؛ سواء أكان هذا المثال محمّداً أو يسوعاً أو أيّ نبيّ مرسَل. فالرسالة واحدة، ولا فرقَ بين التسامح المسلم والتسامح المسيحي، ولا بين الإنسانية المسلمة والإنسانية المسيحية ولا بين المحبّة ولا كل الصفات والفضائل الأخلاقية الأخرى.
هذه المثل، مثل الخير وقيم الفضيلة هي معانٍ بسيطة غير مركّبة لا تحمل فروقات بين الأديان. من هنا، كان حوار الأديان ضرورة في مجتمعاتنا، من حيث قدرته على توثيق التواصل والارتباط بين الإنسان وأخيه في المواطنة وبناء جسور التبادل الثقافي على تعدّديتِه بين الأديان المختلفة، بما يبرز الهدف المتعالي الأسمى والمشترك بينها جميعاً؛ الإنسان وكل ما هو خير له.
هذه التعددية تحتضنها إيران بشكل لافت، حيث أقيم الكثير من ندوات الفاتيكان وكنائس العالم بكل أشكالها واتجاهاتها في طهران التي استضافت هذا النوع من اللقاءات الحوارية التي تعني المسيحيين في إيران بشكل خاص، الذين حفظ لهم دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما سائر المواطنين غير المسلمين كامل حقوقهم في المواطنة والمشاركة في الرأي والسياسة والوظائف الإدارية والممارسات والأنشطة الدينية الخاصة بهم وغير ذلك.
أما لبنان، فيتميّز بالتنوّع الثقافي الذي يحمل الاختلافات والتعددية من داخل المجتمع العربي الواحد. وهذا مصدر قوة لهذا البلد، يجب أن تُستثمر في إغناء الحضارة بمختلف ثقافاتها التي تتعايش وتتداخل، لتشكّلَ هذا المزيج الجميل وهذه الفسيفساء الزاهية التي أكسبت لبنان لقب عروس الشرق.
في الواقع هذه التعددية والتنوّع هي مصدرُ قوة ووحدة وعيش مشترك. ولأنّ الأعداء يعرفون جيداً هدفهم ويدركون أن زعزعة استقرار الأوطان يكون عن طريق بثّ التفرقة والتباعد والتنافر، لذلك فهم يستهدفون هذه الوحدة والألفة والعيش المشترك، من خلال إيهام المواطن بأنّ أخاه المواطن المختلف عنه في الدين هو عدوّ له يحاول إبعاده وإقصاءه. وهذا جزء من الأزمة في لبنان ربما، حيث ينبغي العمل على التصدّي لهذه المحاولات، ولهذا الخطاب الإلغائي، خطاب الكراهية والطائفيّة والعنصرية أحياناً.
فالمواطنة تتعلق بكل مواطن، والانتماء الديني أو الاختلاف الثقافي لا يشكّل عامل إلغاء للمواطنة والمشاركة في صناعة الرأي في البلدان.
هكذا، نرى التعددية من أجمل سمات لبنان ومشرقنا ككلّ، والتنوّع من أرقى مظاهره، ونرى أن القادة الدينيين من كل الأديان والطوائف هم أبطال المشهد الذين يحملون هذه الرسالة، رسالة توحيد الصفوف والدعوة إلى الحوار المفتوح البنّاء، الذي يقدّمُ معرفة كاملة وحقيقية للإخوة في الوطن، وذلك من أجل وطن حرّ قويّ بشعبه.
من هذا المنطلق دافعنا وسنظل ندافع عن هذه التعددية وهذه الفسيفساء في مشرقنا بكل ما نملك ولو بالقوّة وبدماء شهدائنا من أمثال الشهيد الحاج قاسم سليماني الذي دافع عن المسجد والدير والكنيسة وأعراض كل الطوائف من دون أدنى تمييز. فبهذا التنوّع تنمو الإنسانية وتزداد الحضارة غنىً.