المجلس الأطلسي: عقول الظل وصناعة القرار في أمريكا

في واشنطن، لا تُصنع القرارات الكبرى داخل البيت الأبيض وحده، ولا في قاعات الكونغرس فقط. فهناك عقول ظلّ، ومراكز تفكير ومؤسسات بحثية، تتحوّل أحيانًا إلى عقل موازٍ يرسم المسارات ويؤثّر في صناعة السياسات. المجلس الأطلسي واحد من أبرز هذه المؤسسات… بدأ كجسر عبر أطلسي يربط النخب الأميركية والأوروبية، ثم تحوّل إلى منصّة استراتيجية تصوغ رؤى الحرب والسلام، والطاقة والتكنولوجيا، ومستقبل التحالفات. اليوم، بينما يعقد المجلس جلساته، يطرح أجندة تكشف أولويات واشنطن في عالم مضطرب: من أوكرانيا وروسيا… إلى الذكاء الاصطناعي والطاقة… وصولًا إلى أفريقيا الصاعدة. لكن، أين موقع الشرق الأوسط المشتعل من هذه الصورة؟ وهل ما زال لهذه المراكز وزن في زمن الشعبويات التي تتحدّى الدولة العميقة؟ في هذه الحلقة من دوائر القرار، نفتح ملف: "المجلس الأطلسي… عقول الظل وصناعة القرار في أميركا".

نص الحلقة

 

كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا في دوائر القرار.

في واشنطن لا تُصْنَع القرارات الكبرى داخل البيت الأبيض وحده، ولا في قاعات الكونغرس فقط، هناك عقول ظلّ ومراكز تفكير ومؤسّسات بحثيّة تتحوّل أحيانًا إلى عقلٍ موازٍ يرسم المسارات ويؤثّر في صناعة السياسات.

المجلس الأطلسي واحد من أبرز هذه المؤسّسات، انطلق كجسر عبر الأطلسي ليربط النُخَب الأمريكية والأوروبية، فتحوّل إلى منصّةٍ استراتيجيةٍ تصوغ رؤى الحرب والسلام والطاقة والتكنولوجيا ومستقبل التحالفات.

اليوم بينما يعقد المجلس جلساته يطرح أجندة تكشف أولويّات واشنطن في عالم مُضْطَرِب، من أوكرانيا وروسيا إلى الذكاء الاصطناعي والطاقة وصولًا إلى إفريقيا الصاعدة، لكن أين موقع الشرق الأوسط المُشتعل من هذه الصورة؟ أما يزال لهذه المراكز وزن في عهد شعبويات تتحدّى الدولة العميقة؟

مشاهدينا في هذه الحلقة من دوائر القرار نفتح ملف المجلس الأطلسي ومراكز التفكير في واشنطن، عقول الظلّ وصناعة القرار في أمريكا، حيّاكم الله.

أرحّب من فرجينيا بضيفتي كارين كوايت -كوسكي، الدكتورة والباحِثة والكاتِبة والضابِطة السابقة في القوات الجوية الأمريكية.

دكتورة كارين، كولينل كارين، حيّاكِ الله، طابت أوقاتك، نرحّب بكِ في دوائر القرار وسنبدأ هذه الدوائر معكِ تباعًا.

الدائرة الأولى مشاهدينا: المجلس الأطلسي مركز أبحاث أم عقل موازٍ للدولة العميقة.

في هذه الدائرة مشاهدينا، دكتورة كارين، مشاهدينا أدعوكم لمتابعة هذا التقرير الذي يسلّط الضوء على المجلس الأطلسي وهو يعقد جلساته، جلسته من يوم الجمعة الماضية حتى الحادي عشر من هذا الشهر. نتابع.

 

تقرير:

المجلس الأطلسي ليس مجرّد مركز أبحاث، إنما هو عقل استراتيجي موازٍ يتحرّك في عُمق الدولة الأمريكية. وُلِدَ في ستينات القرن الماضي منصّة لرَصْد النُخَب الأمريكية الأوروبية وتعزيز الحلف الأطلسي.

لكنه سرعان ما تجاوز دوره الأكاديمي ليصبح غرفة تفكير استراتيجية تلتقي فيها السياسة بالأمن والاقتصاد.

أهميّة المجلس تتجلّى في شبكة علاقاته: البيت الأبيض، الكونغرس، البنتاغون، أجهزة الاستخبارات، والقطاع الخاص.

أعضاؤه وزراء دفاع وخارجية سابقون، جنرالات متقاعدون، رؤساء شركات كبرى، ودبلوماسيون من الطراز الأول. هذه التركيبة جعلته مُختبرًا لصياغة الأفكار قبل أن تتحوّل إلى سياساتٍ رسمية.

من أبرز ما خرج من أروقته: الدّفع باتجاه توسّع الناتو شرقًا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، =مُقاربات أمن الطاقة بين أوروبا وواشنطن، والتوصيات المُبَكّرة بخصوص الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.

كثير من هذه المخرجات تبنّتها إدارات مُتعاقبة من بيل كلينتون إلى باراك أوباما وحتى إدارة بايدن.

لكن مع عهد ترامب بدا المشهد مختلفًا، فالرجل الذي لا يؤمِن بدوائر الدولة العميقة ولا بمؤسّسات التفكير التقليدية حاول أن يتجاوزها، إلا أن شبكات النفوذ التي يتحرّك المجلس عبرها في الإعلام والقطاع الخاص والأمن أبقت تأثيره حاضرًا ولو من خلف الستارة.

اليوم يبقى السؤال: هل المجلس الأطلسي مجرّد " Think Tank" أم أنه يمثل عقلًا استراتيجيًا موازيًا للدولة العميقة يسبق الرؤساء أحيانًا في رسم خرائط النفوذ واتخاذ القرار؟

 

كمال خلف: دكتورة كارين، =معكِ سوف نفهم كيف يُصنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، ودور المجلس الأطلسي وغيره من مراكز التفكير في الولايات المتحدة.

كيف تحوّل المجلس الأطلسي في أذهان الكثيرين من منصّة فكرية إلى ما يشبه مطبخ أو غرفة عمليات لصناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية؟

 

كارين كوايت: هذا سؤال في محلّه، إن هذه المؤسّسة مُرتبطة أو أن نشأتها وتطوّرها مُرتبط بشكل كبير بانهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي إن هذه المؤسّسات كانت بالغة الأهمية، وهي لعبت دورًا بالغ الأهمية في توفير المعلومات والبيانات للكونغرس وللبيت الأبيض في ما يتعلّق بدور الناتو، دور حلف شمال الأطلسي، كيف يمكن لهذا الحلف أن يصبح فعّالًا، كيف يمكن له أن يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في وجه الاتحاد السوفياتي، وأيضًا في خلال فترة سقوطه.

بالتالي إن المجلس الأطلسي مرتبط بشكلٍ كبيرٍ بالإمبراطورية الأمريكية إذا ما صحّ القول، وبُعيد سقوط الاتحاد السوفياتي كان من الصعب الحفاظ على السرديّة المعتمدة وربما بقاؤها في أذهان الرأي العام. بالتالي كان المراقبون يعتقدون بأن حلف شمال الأطلسي سوف يتمّ تفكيكه بُعيد ربما سقوط الاتحاد السوفياتي بسبب انتفاء مهمّته، ولكن هذا الأمر لم يحصل. وأيضًا العديد من التوقّعات لم تحصل. لماذا؟ لأن هذه المؤسّسات المُشابهة للمجلس الأطلسي قامت باعتماد منهجية مختلفة في ما يتعلّق بالعلاقة التي تجمع ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وموقع هذه الدول وربما هيمنتها على العالم.

بالتالي إذا ما كانت هذه المؤسّسات تريد أن تعتمد منهجية موضوعية لكانت قد غيّرت ربما مسارها وقامت بتوظيف أشخاص جُدُد ومُفكّرين جُدُد، لأن هذه الشخصيات الأكاديمية والأمنية والعسكرية التي برزت خلال الحرب الباردة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعد هذه الشخصيات قادرة على متابعة مُجريات الأمور، لأن عقليّتها وربما أيضًا خبرتها مرتبطة بفترةٍ سابقةٍ بفترةٍ لم تعد قائمة. وبالتالي المجلس الأطلسي وغيره من المؤسّسات لم تقم باستقطاب أكاديميين جُدُد أو مفكّرين جُدُد، هم لم يقوموا بالاستغناء عن أعضائهم القدامى، وأصبحت هذه =المؤسّسات رهينة بِيَد هذا التفكير القديم أو هذه المنهجية القديمة، ولم تعد قادرة على اعتماد سرديّات جديدة.

 

كمال خلف: هذا كلام مهمّ، خاصة وأن العالم تغيّر، العالم تغيّر، موقع الولايات المتحدة، تحدّياتها، أولويّاتها تغيّرت، والعالم كله يتغيّر. لكن يُعزى إلى المجلس الأطلسي أن توصياته تحوّلت في فترةٍ ما إلى استراتيجيات تبنّتها إدارات أمريكية مُتعاقبة.

أعطيكِ مثلًا: توسيع حلف الناتو أو توسّع حلف الناتو في الجغرافيا. أتحدّث أن هذه كانت من أفكار أو من توصيات المجلس الأطلسي ومُفكّريه. أيضًا قضية أخرى يُشار إليها وهي مسألة الطاقة، أيضًا توصيات المجلس الأطلسي في ما يتعلّق بسياسات طاقة تبنّتها إدارات من عهد أوباما أو قبل، حتى بايدن تبنّى.

ترامب سنتحدّث عنه لاحقًا، لكن هل فعلًا الاستراتيجيات التي تبنّتها إدارات مُتعاقبة كانت بناءً على هذه الأفكار، هذه التوصيات التي تخرج من المجلس؟

 

كارين كوايت: نعم، هذا صحيح، لأن الأشخاص عينهم الذين يمتلكون مناصب في هذه المؤسّسات الأمريكية البيروقراطية المختلفة، وهؤلاء المسؤولون الكبار، لطالما كانوا مُتأثّرين بالمجلس الأطلسي وبقراراته.

 

كمال خلف: هناك أيضًا، وأنتِ دكتورة كارين خدمتِ في سلاح الجو، في البنتاغون، بوزارة الدفاع الأمريكية، وأيضًا في وكالة الأمن القومي الأمريكية.

إذا كانت هذه النُخبة الأمريكية هم من الطراز الرفيع ويفكّرون بشكلٍ منهجي، إذًا إلى ماذا نعزو الأخطاء الكارثية التي وقعت فيها الولايات المتحدة مثل حرب العراق، مثل أفغانستان، الطريقة التي خرجت فيها القوات الأمريكية من أفغانستان، وكل هذه العثرات أو الأخطاء التي حصلت ودفعت الولايات المتحدة ثمنها؟

 

كارين كوايت: هم بعينهم مسؤولون عن هذه الأخطاء، المموّلون، ربما الداعمون لهذا المركز الأطلسي، المُفكّرون وغيرهم من الأشخاص الذين أثّروا على هذه الاستراتيجيات، هم الذين يجب أن نلومهم في ما يتعلّق بهذه الإخفاقات، لأنهم هم لم يتمكّنوا من صياغة استراتيجيات مناسبة للفترات المُتعدّدة وللتقلّبات المُتعدّدة. يجب علينا أن نأخذ السياقات بعين الاعتبار، ويجب علينا أيضًا أن نأخذ موقع الولايات المتحدة الأمريكية، موقعها وتأثيرها على العالم بعين الاعتبار. هم لا يزالون يعتقدون أن الولايات المتحدة هي القُطب الأوحد المُسيطر على العالم، ولكن هذا الأمر لم يعد صحيحًا. بالتالي هم يقومون بصياغة سياسات، وهم يقومون أيضًا بصياغة استراتيجيات وأفكار يقوم الكونغرس والبيت الأبيض بطبيعة الحال بتلقّيها. هنالك أيضًا منافسون للمجلس الأطلسي. نحن الآن نواجه ربما أزمة فكرية إذا ما صحّ القول، هذه الأزمة تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على الإدارة الأمريكية، ويجب علينا أن نُلقي اللّوم على هؤلاء المُفكّرين.

 

كمال خلف: كلام مهم للغاية، لكن دكتورة كارين إسمحي لي أن نفتح الدائرة الثانية في هذه الحلقة وعنوانها: أجندة المجلس لهذا العام بين روسيا، التكنولوجيا وإفريقيا.

سنطّلع على أجندة المجلس قبل العودة للدكتورة كارين مرة أخرى.

 

تقرير:

المجلس الأطلسي هذا العام لا يكتفي بالتحليل النظري، بل يعقد جلساته وهو يستحضر التحدّيات =التي تهزّ مكانة الولايات المتحدة في العالم.

في الواجهة: الحرب الروسية الأوكرانية، فالمجلس يقرأ هذه الحرب باعتبارها اختبارًا لاستمرار المشروع الغربي في شرقي أوروبا، ويطرح المجلس هذا العام سؤالًا مركزيًا: هل يستطيع الناتو أن يردع موسكو طويلًا أم سيُجبر الإنهاك الاقتصادي والسياسي واشنطن على تسويات غير مرغوب فيها؟

إلى جانب روسيا يبرز ملف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. هنا لا يدور النقاش عن مستقبل البَرْمَجيات وحسب، بل عن ميزان القوّة العالمي.

الذكاء الاصطناعي أصبح سلاحًا ناعمًا وخشنًا في الوقت نفسه، والمجلس يحذّر من أن التباطؤ الأمريكي قد يفتح الباب واسعًا أمام الصين لتفرض معاييرها وتصدّر نموذجها في الحَوْكمة الرقمية.

وفي ملف الطاقة يُطْرَح السؤال الأكبر: كيف يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على قيادة أسواق النفط والغاز في ظلّ تحوّلات الطاقة النظيفة والضغوط البيئية؟

المجلس يربط بين الطاقة والأمن القومي، ويقارِب الموضوع كمعركة جيوسياسية بقدر ما هي اقتصادية.

أما إفريقيا فهي العنوان الصاعِد. عودة الاهتمام الأمريكي بالقارّة ليس صدفة بل استجابة مباشرة لتمدّد النفوذ الصيني هناك عبر الاستثمارات والبنية التحتية. توصيات المجلس تذهب في اتجاه بناء شراكات أمنية واقتصادية تعيد واشنطن لاعبًا حاضرًا لا مراقبًا من بعيد.

اللافت هذا العام هو غياب الشرق الأوسط عن صدارة الأجندة. في زمن الحروب المفتوحة في غزّة واليمن وسوريا ولبنان، يبدو أن واشنطن اختارت إدارة الأزمات من الخلف، مفضّلة تركيز الضوء على الساحات التي تراها أكثر أولويّة لمستقبلها الاستراتيجي.

أوروبا الشرقية، آسيا، إفريقيا... إجمالًا تعكس أجندة المجلس إدراكًا عميقًا أن الولايات المتحدة تواجه بيئة مُتعدّدة الأقطاب: موسكو التي لم تُهْزَم، بكين التي تتمدّد بثقة، وتكنولوجيا تعيد تعريف معنى التفوّق العسكري والاقتصادي.

ومن هنا لا تأتي الجلسات كحوارٍ أكاديمي بارد، بل كخريطةِ طريقٍ تسعى لصوغ توصيات مباشرة للإدارة الأمريكية وحلفائها.

 

كمال خلف: آخذ رأيكِ بأجندة هذا العام للمجلس الأطلسي: إفريقيا، شرق أوروبا، الطاقة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

كيف ترين هذه الأولويّات للمجلس الأطلسي؟ وهل هي أولويّات واشنطن فعلًا؟

 

كارين كوايت: لست أعلم إذا ما كانت هذه النقاط حقيقة هي من أولويّات واشنطن، ولكن هي بطبيعة الحال نقاط بالغة الأهمية كان يجب أن تؤخَذ بعين الاعتبار عندما كانت الدول الأوروبية أو قوّة الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية صاعدة. أما =اليوم فإن هذه القوّة الأمنية والعسكرية والاقتصادية تواجه تراجعًا، وهذه الحقيقة أن المجلس الأطلسي اليوم لا يتماشى أو لا يتأقلم في سياساته وتوصياته مع الوقائع. إنه يتحدّث عن فوقيّة الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنتها على العالم، هذه ربما وجهات نظر غير واقعية على الإطلاق.

ولقد تحدّثتم أيضًا عن روسيا وعن كونها لم تُهْزَم على أرض الواقع، وأيضًا عن تفوّق الصين على المستوى التكنولوجي والرقمي، تفوّق ليس فقط على المستوى الإقليمي إنما أيضًا على المستوى الدولي. نحن نتحدّث عن تفوّق في الإدارة الرقمية والحَوْكَمة الرقمية، وهذا أمر بالغ الحساسيّة اليوم. المجلس الأطلسي لا يواكب تطوّرات العالم ولا يتأقلم مع هذه التغيّرات، وبالتالي إنه يحاول التركيز على المواضيع ربما المُقنعة بالنسبة للرأي العام وأيضًا بالنسبة للكونغرس. إذا ما ركّزنا أيضًا على الشرق الأوسط، إن الإخفاق الأكبر بالنسبة للثقافة الغربية والسردية الغربية يتجلّى في فلسطين، في غزّة. إن أداء إسرائيل ومنهجيّتها المُعتمدة في غزّة يعدّ التحدّي الأكبر بالنسبة للسياسة الدولية، فعلى الأقلّ في هذه الفترة المُعاصِرة وفي خلال العقود القليلة الماضية. بالتالي هذه هي المشكلة الأساسية: هذه العقول الكبيرة، هذه الموارد الضخمة التي يسيطر عليها المجلس الأطلسي، كل هذه الموارد وكل هذه العقول لا تركّز على الأولويّات الحقيقية ولا على السياق الحقيقي والواقعي ليومنا الحالي. بالتالي لكي نُبسّط الأمور أكثر وأكثر: إنهم لا يزالون يعتقدون بأن الموارد الأمريكية والأوروبية هي المسيطرة على العالم. اليوم يريدون إخراج الصين من إفريقيا، لماذا؟ لكي تتمكّن من الهيمنة على الموارد وأيضًا على ربما الفوائد التي تقدمها الجغرافيا الإفريقية الكبيرة. أيضًا في ما يتعلّق بالطاقة هنالك تحدٍّ مع روسيا والصين والهند. أيضًا هنالك تحدٍّ في ما يتعلّق بالتكنولوجيا. هنالك سباق تكنولوجي اليوم، والولايات المتحدة الأمريكية ليست في موقع جيّد في هذا السباق. لماذا؟ لأن العالم يتغيّر بشكل سريع، والولايات المتحدة الأمريكية لا تلحق بهذا السباق كما يلزم. بالتالي اليوم إن المجلس الإقليمي يواجه ربما سياسة غير واقعية، هو غير قادِر على الاستجابة إلى الواقع بالطريقة الصحيحة، وهو للأسف إذاً يؤثّر على الحكومات.

 

كمال خلف: دكتورة كارين، على ذِكر إفريقيا، أنا لست مُستغربًا على الإطلاق أن تكون إفريقيا على أجندة المجلس الأطلسي خلال هذا الأسبوع، لأن سياسات البيت الأبيض أو هناك نوع من الاستيقاظة الأمريكية على إفريقيا. لكن سؤالي، دكتورة كارين: هل أصبح الوقت متأخّرًا على اللحاق بالصين في إفريقيا؟ لأن هناك أصبح أكثر من 37 ميناء جديد أقامتها الصين، طرق وممرّات، سكك حديدية، استثمارات، بنى الصينيون مطارات خلال العقود الماضية، وبالتالي اليوم نرى أن هناك نوعًا من الاستيقاظة الأمريكية على إفريقيا.

هل الوقت تأخّر على اللحاق بالصين في القارّة السمراء؟

 

كارين كوايت: نعم، لقد فات الأوان بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لكي تتمكّن من بناء أو من إنشاء بُنى تحتية في إفريقيا، بُنى تحتية قادرة على منافسة ما قامت الصين بإنشائه وبنائه هناك، وبالتالي هذا الأمر يتنافى مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست مشابهة للسياسة الخارجية الصينية، وبالتالي المجلس الأطلسي يؤمِن بالقُدرة على السيطرة على الحكومات وأيضًا على الشعوب والاقتصادات. الصين لا تعمل بالطريقة عينها، الصين تقوم بعرض شراكات وأيضًا تقوم بعرض استثمارات، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لا تمتلك المُقدَّرات السياسية ولا الاقتصادية التي تسمح لها بإقناع العالم بأنّها تمتلك عروضًا موثوقةً وعروضًا مضمونةً قادرةً على بناء شراكاتٍ حقيقية. هذه ليست المنهجية الأمريكية التي شهدتُها في حياتي على الأقل في هذا العصر المعاصر، ولستُ أعتقد أن المجلس الأطلسي يحاول تغيير هذه المنهجية.

 

كمال خلف: عندما صدرت الأجندة، أجندة المجلس الأطلسي للجلسات، كنت أتوقّع أن يكون على رأس الأجندة الصين، التحدّي الصيني، لكن لم أجد الصين مباشرة، وجدنا إفريقيا، شرق أوروبا، روسيا، الذكاء الاصطناعي، الطاقة، الأمن السيبراني، هذه هي الجلسات خلال هذا الأسبوع.

ما الذي يجعل المجلس الأطلسي لا يضع الصين، مع أننا نرى بأن الخطاب في الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الماضية يركّز على تحدّي الصين ووضعه في أولويّة الاستراتيجية الأمريكية؟ هذا يرتبط دكتورة كارين بما نراه من سلوك لإدارة ترامب، إدارة ترامب فتحت حربًا تجارية مع الهند برفع الرسوم الجمركية إلى 50 بالمئة، دفعت الهند إلى أحضان الصين، بينما لم تفرض ذات الرسوم على الصين التي تستورد الخام الروسي، والتقى ترامب ببوتين، لكنه يعاقب الهند بأنّها تشتري النفط الروسي. بالتالي هل لم تعد الصين كعنوانٍ في الاستراتيجية الأمريكية؟ هل هذا فعلًا جديد وسينعكس في أفكار المجلس الأطلسي أننا بدل أن نواجه الصين مباشرة نتقاسم معها النفوذ على حساب الأصغر، القوى الصغيرة الأخرى؟

 

كارين كوايت: هذا سؤالٌ بالغ الأهمية، كما تعلمون إن المجلس الأطلسي هو من لجنة أمريكية سياسية، هو يُعَدّ منصّةً ليبراليةً ليست بالمنصّة التقليدية مثل غيرها من المنصّات أو المؤسّسات المُعادية بشكلٍ كبير أو بشكلٍ راديكالي للصين. المجلس الأطلسي يركّز على العولمة، وهو يرى الصين بقدراتها الصناعية والاقتصادية كعاملٍ ربما يعتمد عليه عالمُنا اليوم.

إذًا، لستُ أعتقد أن المجلس الأطلسي اعتمد في ما سبق منهجيةً مُعاديةً للصين بشكلٍ راديكالي، ولكن سؤالكم مهم لأنه أمر لمسناه في تدابير هذه الإدارة الحالية المعتمدة. لقد تمّ انتخاب ترامب بسبب مواقفه المُعادية للصين، وقاعدته الشعبية تدعم هذه المبادئ وهذه المنهجيات، ولكن ما شهدناه مؤخّرًا هذه السردية المعتمدة وهذا الخطاب المعتمد. هذا الخطاب العدائي ضدّ فنزويلا مثلًا يمكن اعتباره كتغييرٍ للمنهجية المعتمدة من قِبَل البنتاغون في ما يتعلّق باختيار الحروب أو اختيار الصراعات. أعتقد أن بعض المستشارين الواقعيين الذين يُحيطون بترامب يحاولون إقناعه بأنّه غير قادرٍ على إلحاق الهزيمة بروسيا أو الصين أو أيضًا الهند، يحاولون أيضًا إقناعه بأنّه غير قادرٍ على إلحاق الهزيمة بدولٍ مُتعدّدة، مثلما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية أن تفعل في ما سبق في سبيل السيطرة على الموارد وما إلى هنالك. بالتالي إن كل ما حصل في الشرق الأوسط كان يتركّز أو يتمحور حول السيطرة على الموارد وأيضًا حماية إسرائيل وتعزيز موقعها كمنصّةٍ عسكريةٍ للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط. المواجهة مع فنزويلا أيضًا تركّز على السيطرة على الموارد، وبالتالي أتى ترامب إلى السلطة وبدأ بالحديث عن غرينلاند وبدأ باعتماد هذه السرديّة. لماذا؟ لأن موقعها الجغرافي ومواردها تُعَدّ بالغة الحساسية وبالغة الأهمية في هذه اللحظة. بالتالي نحن نرى تجلّياتٍ ربما للمنهجية المُعتمدة من قِبَل المستشارين الواقعيين الذين يحيطون بالرئيس ترامب. وبالتالي ترامب اليوم ربما يعترف بشكلٍ أو بآخر بأنّه يخسر معاركه في كل الجبهات الخارجية. الولايات المتحدة الأمريكية لا تربح الحرب في الشرق الأوسط ولا في أوروبا مع روسيا، وهي غير قادرة على مواجهة الصين، وأعتقد أن ترامب يعلم ذلك.

 

كمال خلف: دكتورة، آخر نقطة في هذه الدائرة قبل أن ننتقل للدائرة الأخيرة التي سوف نتحدّث فيها عن دونالد ترامب كثيرًا، لكن غياب الشرق الأوسط عن الأجندة، رغم أن الشرق الأوسط ـ أنا أحدّثك الآن من دولةً عربيةً، من لبنان ـ يغلي، هناك حال غليانٍ ودموي أيضًا، حرب الإبادة التي تحدث في غزّة. لماذا غاب الشرق الأوسط عن أجندة المجلس رغم ما يعانيه، ما تعانيه هذه المنطقة؟

هل هذا يعكس استراتيجية الولايات المتحدة، ما تفكّر به مستقبلًا بما يخصّ الشرق الأوسط؟ هل أوكلت الولايات المتحدة الشرق الأوسط لإسرائيل بالكامل وهي تريد أن تقود من الخلف لا أن تكون كما حصل في غزّة، العراق وأفغانستان؟ كيف تفكّر الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط في هذه اللحظة؟

 

كارين كوايت: أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية وهذه المؤسّسات الفكرية تغيّر طريقة نظرتها للشرق الأوسط، وهي تعطي إسرائيل ربما هذه الولاية المطلقة على الشرق الأوسط. إذا ما نظرنا ربما إلى الخلفية، خلفية هؤلاء المفكّرين في المجلس الأطلسي وفي غيره من المؤسّسات الفكرية، هم مقرّبون من إسرائيل، وهم يدعمون الفكر الإسرائيلي والفكر الصهيوني. إذا ما نظرنا إلى فكرهم وأيضًا أعمالهم وأيضًا خلفيّتهم، يمكننا التيقّن من هذا الدعم، الدعم للفكر الصهيوني. بالتالي إسرائيل تقوم بتنفيذ أجندة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي الولايات المتحدة الأمريكية سوف تستمر بدعم إسرائيل، تعزيز موقعها الأمني والاقتصادي والعسكري أيضًا. بالتالي سوف تكون إسرائيل ربما منصّة تسمح بتوسيع نطاق تأثير الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وعلى المستوى العالمي. بالتالي هذا موقعٌ غير أخلاقي. في أوروبا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تعطي إملاءاتٍ معيّنة، في روسيا أيضًا تقوم بفرض إملاءات، في إفريقيا تحاول فرض إملاءات، ولكن أمس في الشرق الأوسط هي تطلق العنان لإسرائيل لكي تقوم إسرائيل بما يحلو لها. وبالتالي هذه هي سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط اليوم. بالتالي ما حصل بالأمس، الضربة الإسرائيلية على الدوحة، قام المجلس الأطلسي بالتعليق على هذا الموضوع، وكان تعليق المجلس الأطلسي كالتالي: يجب على الرئيس ترامب أن يتحدّث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لكي يؤدّي هذا التواصُل إلى تحسين الوضع.

 

كمال خلف: هل فعلًا دكتورة، الشرق الأوسط لم يعد مهمّاً لدى الولايات المتحدة كما كان في العقود الماضية، أي أن هناك أصبحت أولويّات أخرى في مناطق أخرى في العالم؟

 

كارين كوايت: أعتقد أن الشرق الأوسط لا يزال مهمًّا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ولكن المنهجية الحالية المدعومة =من قِبَل المجلس الأطلسي هي منهجية عسكرية، وأن العمل العسكري للولايات المتحدة الأمريكية لم يكن فعّالًا طوال العقود الماضية. لقد تمّ تفادي اعتماد هذه الحلول العسكرية لأنّ ذلك صعب جدًّا ما يؤدّي إلى إخفاقاتٍ عديدة. لم تعد الولايات المتحدة قادرة على القيام بعملياتٍ عسكريةٍ مثل السابق، لم تعد قادرة على القيام بعملٍ عسكري بعيد عن حدودها، ولا يمكن لها أن تنخرط في حروب، لأنّها في السابق أنفقت أموالًا طائلة على الحروب وأيضًا أخفقت في هذه الحروب. وبالتالي قد تتحدّثون عن هذا الموضوع في الفقرة الثالثة، ولكن يجب علينا أيضًا التركيز على كون الرأي العام غير راضٍ عن هذه الحروب التي من الممكن أن تُشنّ في الخارج.

 

كمال خلف: سننتقل إلى الدائرة الثالثة لكن بعد فاصل قصير. مشاهدينا فاصل ونعود مرة أخرى إلى دوائر القرار.

 

كمال خلف: تحيّة مجدّدًا مشاهدينا في دوائر القرار، أعود وأرحّب بضيفتي من فيرجينيا دكتورة الكولونيل كارين كوايت كوسكي الكاتبة والباحثة والضابِطة السابقة في القوات الجوية الأمريكية.

وصلنا للدائرة الثالثة، عنوانها مستقبل صناعة القرار الأمريكي، مراكز التفكير بين نفوذ الماضي وتحدّيات الغد.

سنعرض هذا التقرير الذي بداخل التقرير عددٌ من الأسئلة سنطرحها على ضيفتنا. نتابع التقرير.

 

تقرير:

مَن يصنع القرار في أمريكا؟ سؤال يبدو بسيطًا لكنه يخفي وراءه شبكة معقّدة من المؤسّسات والمصالح والأفكار. البيت الأبيض يقرّر، لكن هل يقرّر وحده؟

الكونغرس يشرّع، لكن مَن يضع الإطار؟ شركات التكنولوجيا تحكم فضاءنا الرقمي، فهل تصبح مراكز التفكير الجديدة؟

المجلس الأطلسي وأشباهه عاشوا عقودًا كعقولٍ موازية تقدّم خرائط الطريق للرؤساء والجنرالات، لكن المستقبل قد لا يشبه الماضي، فزمن ترامب وصعود الشعبويات فتح الباب أمام قطيعة ما يُسمّى بالدولة العميقة.

وموجات الذكاء الاصطناعي والاقتصاد العابر للحدود تُدخِل لاعبين جدُدًا على ساحة القرار. السؤال الآن: هل تبقى مراكز التفكير حجر الزاوية في صناعة السياسة الأمريكية، أم نقترب من عصرٍ جديدٍ حيث الخوارزميات وشركات وادي السيليكون وجماعات الضغط العابرة للقارّات هي التي تكتب السياسات وتحدّد اتجاهات القوّة؟

في عالمٍ يتغيّر بهذه السرعة، ربما تكون معركة المجلس الأطلسي الحقيقية ليست في أوكرانيا ولا في إفريقيا، بل في الدفاع عن دوره نفسه كمصنعٍ للأفكار في زمنٍ لم يعد يعترف بمرجعية واحدة للعقل أو القرار.

 

كمال خلف: دكتورة كارين، السؤال الأول الذي يُطرح في هذه الفقرة هو عن دور المراكز البحثية في زمن الشعبوية مثل المجلس الأطلسي، المعاهد الأخرى في الولايات المتحدة مثل معهد أيزنهاور على سبيل المثال. يواجه الآن قادة أو نُخبة حاكِمة في الولايات المتحدة يرفضون الدولة العميقة، يرفضون مراكز التفكير هذه ويفضّلون الشعبوية، ومنهم الرئيس ترامب بطبيعة الحال.

هل سيبقى لمجالس التفكير أو مراكز التفكير أيّ دور في صناعة القرار في الولايات المتحدة بوضعٍ كهذا؟

 

كارين كوايت: في اللحظة الحالية أعتقد أنهم خسروا بعضًا من تأثيرهم، إذا ما ركّزنا على كيفية عمل الرئيس ترامب، هو بشكلٍ واضحٍ يؤمن بأفكار أصدقائه والمُقرّبين منه. فإذا ما كان أحد هؤلاء الأصدقاء يمتلك مؤسّسة فكرية أو "Think Tank" كالمجلس الأطلسي قد يستطيع التأثير على الرئيس ترامب، أو قد تستطيع هذه المؤسّسة المملوكة من أحد المُقرّبين التأثير عليه. أمّا المؤسّسات الأخرى فهي قد فقدت بعضًا من تأثيرها، هو لا يستمع إلى الكونغرس حتى، وبالتالي هو يحاول العمل خارج الإطار التقليدي الرئاسي والتشريعي المُتعارَف عليه في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي لقد رأينا عددًا من القرارات الرئاسية، القرارات التنفيذية التي يقوم بالتوقيع عليها يومًا بعد يوم بشكل عشوائي إذا ما صحّ القول أيضًا. وفي ما يتعلّق بالسياسة الخارجية المعتمدة من قِبَل الرئيس ترامب، هو يقوم بتعيين أصدقائه، مثلًا ستيف واتكوف المبعوث الخاص للرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط. ستيف واتكوف ليس وزيرًا للخارجية، ولكن إذا ما لم تكونوا مُطّلعين على خلفيّته لكنتم ظننتم أنه يمتلك خلفية دبلوماسية. لماذا؟ لأنّه مسؤول عن معظم ربما نشاطات الرئيس ترامب في الشرق الأوسط. وبالتالي إنّ هذه المنهجية المُعتمدة من قِبَل ترامب في ما يتعلّق بتأثّره بالمُقرّبين منه وبدائرته الخاصة تؤثّر بشكل كبير على عمل هذه المؤسّسات الفكرية.

 

كمال خلف: دكتورة كارين، بالحديث عن المؤسّسات الفكرية والبحثية والنُخَب الأمريكية. لديكم في الولايات المتحدة نُخَب رفيعة المستوى في المجلس الأطلسي وفي مراكز البحث الأمريكية، والأبحاث، العقول مُتطوّرة جدًّا في كل المجالات. لكن الصادِم، خاصة في الفترة الأخيرة في عهد ترامب، أن المبعوثين الأمريكيين الذين يأتون إلينا هنا في المنطقة يبدون سطحيين للغاية، لا يفهمون المنطقة. لدينا مبعوث إسمه توماس باراك، كالباعة المُتجوّلين تمامًا، الرجل لا يعرف شيئًا عن المنطقة، وصادم بمُقارباته، يريد أن ينضمّ لبنان إلى بلاد الشام، هذا المُصطلح القديم، ويريد أن يُنهي سايكس بيكو، ويريد أشياء، يطرح أشياء غريبة للغاية. يقول للحكومة السورية الجديدة الآن بقيادة أحمد الشرع أنتم رائعون، وفي اليوم التالي تقصفهم إسرائيل، تقصف مبنى الأركان والقصر الجمهوري.

هناك شيء غريب ويحتاج إلى تفسير، هل لديك تفسير لهذا دكتورة كارين؟

 

كارين كوايت: كما قلنا، الرئيس ترامب يعمل مع أصدقائه، مع المُقرّبين منه والدائرة الخاصة به. بالتالي أعتقد أن هذا الواقع يمكن أن يشرح لنا ما حصل مع المؤسّسات الفكرية والمؤسّسة التي تحدّثنا عنها.

تحدّث السفير توم باراك حول سايكس بيكو وحول ربما انتهاء صلاحية هذه الحدود وربما قام بقراءة هذا الموضوع أو هذه المسألة بتقريرٍ ما منذ ثلاثين عامًا وأراد أن يتحدّث عن هذا الموضوع أو أراد ربما أن يُبرز عضلاته على هذا المستوى، هو ليس بالشخص القادِر على التعامل مع هذه السياقات بالطريقة الفكرية اللازمة، ولكن يمتلك أمرًا لا يمتلكه الآخرون وهو ثقة الرئيس ترامب به. وبالتالي أعتقد أن هذا الأمر يؤدّي ربما إلى إظهار هذا الخلل الفكري الحاصل أو المُتجلّي في سياسات ترامب الحالية، وهذا الأمر بالتالي يؤثّر على عمل وعلى هيمنة نفوذ ربما هذه المؤسّسات الفكرية مثل المجلس الأطلسي وغيرها.

في وسائل التواصُل الاجتماعي على المستوى الغربي، مثلًا في منصّة تويتر يمكن للأشخاص أن يُصحّحوا المعلومات عبر ما يُسمّى بخاصية الكومينتي نوت، وبالتالي الذكاء الاصطناعي قادر اليوم على تصحيح المعلومات وتصحيح المُغالطات التي يتمّ نشرها على مواقع التواصُل الاجتماعي وأيضًا التحاليل المنشورة على مواقع التواصُل الاجتماعي بناءً على الأحداث التاريخية. وبالتالي هذا مثال على نظام لم يعد ناجحًا اليوم، التكنولوجيا قادرة على تصحيح السياقات والسرديات، أمّا المنهجية المُعتمدة من قِبَل المسؤولين الأمريكيين لا تتماشى مع هذا الواقع الحالي، ويمكن القول إن الإدارة الأمريكية اليوم تعتمد سياسات =مُرتبطة برغبات ترامب نفسه، وبالتالي إذا ما لم يكن هؤلاء المسؤولون قادرين على تلبية رغبات ترامب، إرضاء ترامب، فهم لن يحتفظوا بمواقعهم وبمناصبهم. وبالتالي هذا الأمر أيضًا ربما يُظهر هذا الاختلاف الحاصل ما بين العقود السابقة وأيضًا ما بين ما يحصل اليوم. نحن نتحدّث عن عالمٍ مُتعدّد الأقطاب بشكلٍ راديكالي.

 

كمال خلف: دكتورة، هل ترين أن الصِدام قادم لا محالة بين الدولة العميقة ومنها مراكز التفكير ومنها طبعًا المؤسّسات المستمرة التي لا تُنْتَخَب مثل البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأمريكية، مثل القطاع الخاص، هذه المؤسسات التي تُسمّى في الولايات المتحدة الدولة العميقة. هل ترين أن الصِدام قادم بينها وبين هذه الظاهرة الترامبية، إذا جاز لي التعبير أن نُسمّيها كذلك، أو الشعبوية؟ هل تعتقدين أننا سنكون أمام تصادُمٍ حتمي؟

 

كارين كوايت: أعتقد أننا نشهد هذا الصراع وهذه المواجهة حاليًا. ترامب ليس بالمُفكّر الجديد والمُفكّر الحديث، إنما هو قد فاز بجولتين رئاسيتين وبالتالي هو يمتلك إذا ما صحّ القول نفوذًا، وهو أيضًا يمتلك عدوّاً، وهذا العدو هو المؤسّسات التي يعتبرها ترامب مؤسّسات مُعادية لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية وللشعب الأمريكي. وبالتالي هذا كان التركيز الأساسي لترامب خلال حملته الانتخابية الأولى والثانية بشكلٍ خاص. بالتالي ترامب لا يقوم بصياغة أفكار جديدة إنما هو فقط يحاول تحدّي هذه المؤسّسات بشكلٍ عام. عند تحدّي هذه المؤسّسات هو يقوم بتوسيع الفجوة ما بين المجلس الأطلسي والمؤسّسات المُشابهة وأيضًا قطاع الصناعة الدفاعية من جهة، وإذا الإدارة الأمريكية من جهةٍ أخرى. وبالتالي اليوم الرأي العام الأمريكي يمتلك فرصة مواجهة أو تحدّي هذه المؤسّسات المُتعدّدة. مؤسّسة أيزنهاور التي تضمّ مفكّرين أكاديميين وعسكريين يريدون إذا إحلال السلام ويريدون سياسة خارجية واقعية. أعتقد أن الشبكة الإعلامية التي تتأثّر بمؤسّسة أيزنهاور لما كانت تمتلك هذا النفوذ وهذا التأثير إذا ما لم يقم ترامب بإغضاب هؤلاء المموّلين لكي يقوموا بإيجاد بديلٍ لأنّ المجلس الأطلسي أو لأيّ من تلك المؤسّسات التي لم تعد مُجدية حتى اللحظة. والمُثير للاهتمام هنا أن الأصوات الواقعية في ما يتعلّق بالسياسات الخارجية، الأصوات المنادية بعالمٍ عادل، بعالمٍ مُنصف، وأيضًا بسياسة مُنصفة وأخلاقية، أي السياسة المعاكسة لتلك السياسة المعتمدة من قِبَل إسرائيل، أن هذه الأصوات اليوم باتت تمتلك نفاذًا لوسائل التواصُل الاجتماعي ولوسائل الإعلام، هي قادرة على التعبير عن رأيها على "إكس" وعلى مختلف المنصّات، هي قادرة أيضًا على نشر توصياتها وأيضًا تغذيتها. بالتالي المجلس الأطلسي اليوم يواجه تحدّيًا كبيرًا وأيضًا منافسة كبيرة، وهذا الأمر مرتبط بشكلٍ كبير بالسياسة المُعتمدة من قِبَل ترامب لأنّ ترامب قام بتحدّي هؤلاء بشكلٍ مباشر. إذا أعتقد أن هذا أمر إيجابي، التكنولوجيا سوف تلعب دورًا إيجابيًا بالنسبة لنا.

 

كمال خلف: على ذِكر التكنولوجيا، دكتورة، هل ترين أن صناعة القرار التي كانت تُعزى للمجلس الأطلسي وللمراكز البحثية ومراكز التفكير بالولايات المتحدة تنتقل الآن تدريجيًا من المؤسّسات التقليدية إلى شركات التكنولوجيا وإلى القطاع الخاص، خاصة الشركات العابرة للحدود، هي مَن تصنع القرار الآن وليست مراكز التفكير وتلك المراكز سينتهي دورها أو بدأ ينتهي دورها. هل هكذا فعلًا تُصنع القرارات في عصرنا الحالي، في الوضع الجديد في أمريكا؟

 

كارين كوايت: نعم، هو يحصل إلى حدٍّ ما. لقد تحدّثتم عن شركات التكنولوجيا الكبرى التي تقوم بصياغة إذا ما صحّ القول الوسائل والطرق الموضوعية بين أيدينا في سبيل الحصول على المعرفة. إذا هذه ساحة معركة أخرى. وبالتالي أنا هنا أستذكر شركات مثل فالنتير التي كانت شركة مُموّلة من قِبَل الـ C.I.A وكانت تركّز على نشر التوعية في ما يتعلّق بالمعلومات، أمّا الآن فهي تركّز على الذكاء الاصطناعي وأيضًا على تحليل البيانات. بالتالي هذه المؤسّسات قادرة على صياغة الواقع وهذا أمر خطير، وهي قادرة على صياغة الواقع لخدمة مصالح الشركات والقطاع الخاص أو ربما أيضًا لخدمة مصالح الحكومات والقادة، وبالتالي هذا أمر بالغ الخطورة. كما تعلمون هنالك عَقْد قد أُبرم ما بين البنتاغون أو ما يُسمّى اليوم وزارة الحرب، هنالك عَقْد قد أُبرم ما بين البنتاغون من جهة واتحاد شركات يضمّ هذه الشركة من جهةٍ أخرى، وبالتالي هذا العقد يركّز بشكلٍ خاص على مراقبة الرأي العام، مراقبة أفكار الرأي العام ومراقبة الشعوب لكي يتمّ فَهْم كيفية تفكير هؤلاء وكيفية نمو هذا الفكر، هل سوف يتجّه الرأي العام العالمي أو ربما الرأي العام في منطقة معيّنة نحو تغيير أو لا. إذا هذه الشركات تحاول اليوم توقّع ما سوف يقوم به الرأي العام في المستقبل، هم يحاولون صياغة واقع مبني على معلومات مزيّفة، وبالتالي لكي يتمكّنوا من السيطرة على هذه المجموعات البشرية التي تناهض سياسة حكومات معيّنة أو تناهض سياسات الولايات المتحدة الأمريكية. بالتالي ربما هذا الجيل الجديد من الثورات المُلوّنة والتكنولوجيا تمكّن الحكومات اليوم من القيام بهذه الخطوات وهذا أمر بالغ الخطورة. وبالتالي أعتقد أنّه يجب على وسائل الإعلام أن تتحدّث أكثر عن هذا الموضوع. كما تعلمون في السابق كانت وسائل الإعلام قادرة على الهيمنة على الرأي العام، ولكن اليوم التكنولوجيا قادرة على الهيمنة وقادرة أيضًا على السيطرة على العقول وتغيير الأفكار المعتمدة من قِبَل الأشخاص، وهذا الأمر يسمح للبروباغندا أن تنتشر بشكلٍ معقّد.

 

كمال خلف: لديّ دقيقتان لكن لا بد من أن أسألك باعتبارك خدمتِ في سلاح الجو الأمريكي في البنتاغون كأحد الضبّاط، لأنك ذكرت وزارة الدفاع ثم قلت الآن وزارة الحرب سمّاها ترامب. أسمع رأيك بهذا التغيير لوزارة الدفاع الأمريكية إلى وزارة الحرب باعتبارك ضابطة في هذا الجيش.

كيف تنظرين إلى تغيير إسم الوزارة؟

 

كارين كوايت: بالنسبة لهذه الخطوة وهي مثل محاولات لتجميل خنزير إذا ما صحّ القول، في العام 1947 لم تقم هذه الوزارة بحماية مصالح الشعب الأمريكي ولا مصالح الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ عام، إنما قامت بخدمة مصالح الإمبراطورية الأمريكية إذا ما =صحّ القول. واليوم بعد تغيير هذا الإسم، بعد تغيير إسم الوزارة إلى وزارة الحرب، يمكننا القول إنها أصبحت أكثر قربًا من الواقع، هذه التسمية أقرب إلى الواقع. ولكن بالتالي لا يمكنها أن تصبح وزارة الفوز بالحروب أو الانتصار في الحروب. تغيّر الإسم ولكن المهمّة الموكّلة إلى هذه الوزارة لا تزال عينها. أتمنّى أن أشهد تغييرًا ولكن هذا التغيير لن يحصل، لا يمكن لهذه الوزارة أن تفوز أو أن تنتصر في الحروب، وتغيير إسمها لن يؤدّي إلى هذه الانتصارات.

 

كمال خلف: سيّدة كارين كوايد كسفي الكاتبة والباحثة والضابطة السابقة في القوات الجوية الأمريكية، استمتعت جدًا في هذه الحلقة وكنت أتمنّى أن يكون الوقت أطول من ذلك. لديّ كثير من الأسئلة في كثيرٍ من الموضوعات، ولكن إن شاء الله لدينا لقاءات أخرى في دوائر القرار.

شكرًا لك دكتورة كارين.