"الدولة العظمى بلا مبادئ" شركات تستثمر في الإبادة وإعلان صريح بالتخلي عن القيم

من غزة إلى واشنطن... خيطٌ واحد يربط الجوعَ بالربح، والمجزرةَ بالتطوّرِ التقني، والإبادةَ بالصمت. شركاتٌ أميركيةٌ عملاقة تحوّل دماء الفلسطينيين إلى عقودٍ وأرباح، وتشارك في أكبر مأساة إنسانية يشهدها القرن، لا بالسلاح فحسب، بل بالخوارزميات والبيانات، وباسم الابتكار. في قلب هذه المعادلة المروعة، تتبدّل عقيدة الدولة العظمى: أميركا، التي خاضت حروبًا طاحنة باسم الديمقراطية، تعلن اليوم انسحابها من خطاب القيم، وتنهي رسميًا دورها كـ"حارسة للمبادئ". الانتقائية باتت قاعدة، والصمت عن المذابح والطغاة يُبرَّر بلغة المصالح. فماذا يعني أن تتحوّل الديمقراطية إلى خيار قابل للتعليق؟ وماذا بعد، حين تصبح الحرية رفاهية لا تستحق الدفاع؟ ومن سيدفع الثمن... في غزة، وفي العالم؟ إنه مشهد من ثلاث جبهات: شركات تموّل الإبادة، ودولة تتنصّل من قيمها، وعالم ينزلق نحو صفقات بلا أخلاق.

نص الحلقة

 

كمال خلف: سلام الله عليكم، مشاهدينا.

من غزّة إلى واشنطن، خيط واحد يجمع بين الجوع والربح، بين المجزرة والتطوّر التقني، بين الإبادة والصمت عنها.

شركات أمريكية عملاقة تحوّل دماء الفلسطينيين إلى عقود وأرباح، وتشترك في أكبر مأساة إنسانية يشهدها القرن، لا بالسلاح فحسب، بل بالخوارزميّات والبيانات، وباسم الابتكار.

وفي قلب هذه المعادلة المروّعة، تتبدّل عقيدة الدولة العظمى. فأمريكا التي خاضت حروباً طاحنة باسم الديمقراطية، تعلن اليوم انسحابها من خطاب القِيَم، وتُنهي رسمياً دورها حارسة للمبادئ، والانتقائية تصير قاعدة، والصمت عن المذابح والطُغاة يُغطّى بلغة المصالح.

فماذا يعني أن تتحوّل الديمقراطية إلى خيارٍ قابلٍ للتعليق؟ وماذا بعد حين تصير الحرية رفاهية، ولا تستحقّ الدفاع؟ ومَن سيدفع الثمن في غزّة، وفي العالم؟

في هذه الحلقة، مشاهدينا، من "دوائر القرار"، نفتح ثلاث دوائر مُترابطة، هي: شركات تموّل الإبادة، ودولة تتبرّأ من قِيَمِها، وعالم ينزلق نحو صفقات بلا أخلاق.

حيّاكم الله.

 

كمال خلف: أرحّب بضيف هذه الحلقة من واشنطن، السّيد مايكل معلوف، المُحلّل السابق لدى البنتاغون.

سيّد مايكل معلوف، حيّاك الله.

سنكون معك في ثلاث دوائر، نتناول فيها الجانب العسكري، والتحوّلات في الخطاب الأمريكي، وتأثيرات كل ذلك على العالم.

سنبدأ من الدائرة الأولى، مشاهدينا: شركات الإبادة – استثمار بلا ضمير.

 

كمال خلف: سنتابع في بداية هذه الدائرة، مشاهدينا، هذا التقرير الذي سوف يرصُد أبرز الشركات التي تعقد صفقات، والتي تربح وتحقّق أرباحاً طائلة =جرّاء استمرار الإبادة والأزمة الإنسانية في غزّة. نُتابع التقرير.

 

تقرير:

في واحدةٍ من أكثر الصوَر فظاعةً لتداخُل رأس المال مع آلة الحرب، تتكشّف في غزّة حقائق مُرْعِبة.

شركات أمريكية كبرى، بعضها من عمالقة التكنولوجيا، باتت شريكاً فعلياً في الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون.

كاترينا فاندن هوفيل، المديرة التحريرية لمجلّة  The Nation، كتبت في الغارديان: "الولايات المتحدة لا تكتفي بتزويد إسرائيل بالسلاح، بل تدعمها بشبكةٍ اقتصاديةٍ ضخمة تغذّي الحرب، وتحوّل مُعاناة المدنيين إلى أرباح." ووصفت ما يجري بأنه "تجويع منهجي"، يرافقه تدفّق مستمرّ للسلاح، الدمار الوحيد المسموح له بعبور الحدود.

أما المُقرّرة الأممية الخاصة بالأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيزي، فقد كشفت في تقريرٍ صادِم، عنوانه: "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية"، أن شركات أمريكية كانت مُتحمّسة للغاية لدعم إسرائيل، في مقابل مليارات الدولارات من الأرباح.

 

مواطِن غزّاوي: "مَن دفعنا لنذهب ونأتي بالطحين؟ الجوع يا خال! صوت الجوع أقوى من صوت المدفع. نحن نأتي بالطحين من تحت الموت."

 

التقرير سلّط الضوء على شركات مثل لوكهيد مارتن، التي زوّدت تل أبيب بمُقاتلات شاركت في غارات دمّرت أحياء كاملة، وأوقعت أكثر من 200,000 قتيل وجريح.

 

مواطِن غزّاوي: فيها خطر، كلها موت وذلّ. 30 في المئة من الذين يأتون يحصلون على شيء، والباقي لا يحصل على شيء.

 

ولم يقتصر الدعم على السلاح. شركة "بالانتير" للذكاء الاصطناعي تعاوَنت مع الجيش الإسرائيلي في تحليل البيانات واستهداف المواقع.

"كاتر بيلر" وفّرت الجرّافات التي سوّت منازل الفلسطينيين بالأرض، وغالباً ما كانت تُسْتَخْدَم لهَدْمِ مستشفيات أو مواقع مدنية مأهولة.

حتى مجلس إدارة "بالانتير" عقد اجتماعه الأخير في تل أبيب، في ذروة الحرب.

لكن الأخطر هو دور ما يُسمّى "السبعة الرائعين"، وهي أكبر شركات التكنولوجيا الأمريكية: مايكروسوفت، آبل، أمازون، آلفابيت، ميتا، إنفيديا، تسلا.

تربطها علاقات مباشرة أو غير مباشرة بالجيش الإسرائيلي، بحيث وفّرت غوغل وأمازون خدمات حَوْسَبة سحابية مُتقدّمة للجيش الإسرائيلي، بقيمة مليار و200 مليون دولار، وصفت بأنها سلاح قاتل، لا يقلّ فَتْكاً عن الغازات السامّة.

 

=مواطن غزّاوي: قَسَمًا بالله، كل هذه المساعدات إهانة لنا. صحّ، يدخلونها لنا، لكنها إهانة لنا. نموت عندما نأتي بها. الجيش لا نقترب منه. السيارة تخرج ويطلقون النار على السيارة مباشرة.

 

في وقتٍ يعاني فيه سكان غزّة من الجوع والعطش والمجاعة، تنفجر أرباح هذه الشركات، فيما تدعم الحكومة الأمريكية استمرار هذا النزيف بصمتٍ رسمي وغطاءٍ سياسي.

 

كمال خلف: سيّد مايكل معلوف، استمعنا إلى تقرير اعتمد على ما قالته الغارديان، وما قالته فرانشيسكا ألبانيزي، وأيضاً التقارير الدولية حول هذه الشركات.

الاستفادة، سيّد مايكل معلوف، استفادة الشركات من الحروب ليست أمراً جديداً، لكن عندما نتحدّث عن أسوأ أزمة إنسانية في القرن الحادي والعشرين في غزّة، هل يكون الوضع مختلفاً هنا؟

 

مايكل معلوف: شكراً بدايةً على الاستضافة.

لا، في الواقع، هل نؤمِن أن الأزمة الإنسانية هي فظيعة واستثنائية؟ إلا أن الوضع بات أفضل بالنسبة إلى هذه الشركات. فما حصل شكّل أرضيّة خصبة لهذه الشركات. وبذلك، الولايات المتحدة الأمريكية بحاجةٍ إلى استمرار الحروب في كل مكان. إن هذه الشركات تنتفع منها في كل مكان. الولايات المتحدة الأمريكية مُنْخَرِطة في حروبٍ مستمرةٍ على مرّ السنوات الـ25 الماضية، ويبدو أنه لا من تراجع عن ذلك، بغضّ النظر عمّن هو في سُدّة الرئاسة. لسوء الحظ، الولايات المتحدة الأمريكية تدعم بلداً، أي إسرائيل، في حال حرب مستمرّة، ومن افتعالها في كل الأوقات، وذلك ليبقى ساستها في السلطة ولتُبرّر وجودها.

صراحة، لا أدري كيف لنا أن نكسر هذه الحلقة المُفْرَغة، لكن ما يحدث هو أمر مُخزٍ. وذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، حيث إنهما يتسبّبان بعُزلة أكبر لنفسيهما في العالم. فالعالم يرى تماماً ما يحدث على أرض الواقع.

ولكن ربما السبيل الوحيد للتصدّي لذلك هو المقاطعة، أو ربما عَزْل إسرائيل أكثر، وربما الانتقال إلى نظامٍ مالي بديل. وهذا أساساً لم يحدث حالياً.

إذاً، الأفعال التي تصدر عن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل اليوم هي السبب الذي يحذو بدولٍ أخرى في العالم إلى أن تعمل على إطلاقِ نظامٍ عالمي جديد، من دون الاعتماد حَصْراً على الدولار الأمريكي، والاعتماد فقط على نظام مالي عالمي، بل إطلاق نظام يسمح لهذه الدول بأن تزدهر. هذه الدول لا ترغب بحروبٍ مستمرّة، فيما هذا ما تريده أمريكا في كل عصر.

 

كمال خلف: هنا، سيّد مايكل معلوف، موضوع الشركات تحديداً.

نتحدّث عن عديدٍ من الشركات: لوكهيد مارتن، كاتر بيلر، مايكروسوفت، أمازون، ميتا، غيرها من الشركات.

هذه الشركات واضح بأن لها مصلحة في استمرار الإبادة في غزّة واستمرار الحرب هناك، لأنها تحقّق أرباحاً من وراء هذه الحرب. لكن هل لأرباح هذه الشركات تأثير في القرار السياسي لاستمرار هذه الحرب؟ أي أن هذه الشركات من مصلحتها استمرار الحرب، هل تدفع مصلحتها إلى تغيير الرأي السياسي؟ ثنيّ دونالد ترامب عن الضغط على نتنياهو لوقف الحرب؟ تشجيع نتنياهو على الاستمرار في الحرب؟ هل تستطيع هذه الشركات أن تفعل ذلك؟

 

مايكل معلوف: بالطبع، هذه الشركات تمتلك هذا النوع من التأثير، ولكنها تواصل تعطيل أية تسوية، لأنها تقوم بجنيّ كثير من الأرباح، وتريد أن يبقى نتنياهو في السلطة. وحتى من وجهة نظر شخصية، هو بحاجةٍ إلى حرب. ونحن نرى هذه الأحداث تستمر نتيجة المساعي التوسّعية للتوصّل إلى بناء إسرائيل الكبرى، ولا يتصدّى لها أحد. يُفترض بأمريكا، بالطبع، أن تضع حدّاً لطموحاته المُتفلّتة ولسعيه لقتل كل الفلسطينيين. لكنه، بكل بساطة، نرى كيف أنه يدفع بهم إلى مقتلهم من خلال السماح بإلقاء المساعدات الغذائية، ومن ثم يسعى الإسرائيليون إلى استهدافهم كقناصّة. هذا جنون بالفعل.

 

كمال خلف: سيّد مايكل، هناك ناحية أخرى، الناحية القانونية. كذلك الجنرالات الذين ينفّذون الإبادة، ممكن أن يُلاحَقوا. حتى الجنود الإسرائيليين الذين ينفّذون الإبادة، بعض الدول الآن تُلاحقهم، تمنعهم من الدخول، وكثير من الإجراءات تتعلّق بمَن يرتكب الإبادة من العسكريين. ماذا عن الشركات؟ الشركات لا تتحمّل، محكمة العدل الدولية، المحكمة الجنائية الدولية، لا تتحدّث عن شركات، أو لا يوجد هناك شيء قانوني يُدين شركات تدفع باتجاه الإبادة لتحقّق الربح المادي. هل هذا فعلاً ما يحصل؟ بمعنى أن هذه الشركات بمنأى عن المحاسبة، حتى المحاسبة الأخلاقية أو المسؤولية الأخلاقية؟

 

مايكل معلوف: صراحة، هذا هو التوجّه السائد في الحروب منذ الحرب العالمية الثانية.

ونحن نرى دوماً شركات تنخرط في هذه الأنشطة وتعمل جاهِدة خلف الكواليس لكي تجني أرباحاً أكثر. وكل مَن تتم مُساءلتهم في نهاية المطاف هم القادة، لكن الشركات تبقى بمنأى عن المُساءلة.

رأينا ذلك حتى خلال الحرب العالمية الثانية، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة اتفاقات تعاقُدية، كانت تموّل شركات ألمانيا النازية حتى بعد بدء الحرب العالمية الثانية، وكانت مرتبطة بهذه الشركات بعقودٍ عدّة، وقد رفضت أن تقوم بفَسْخ العقود. والآن نرى الأمر نفسه يحصل حالياً. نحن لا نسمع كثيراً عن أفعال هذه الشركات. ولحُسن الحظّ، أنكم بدأتم تتحدّثون عن ذلك، وكما سمعنا في التلغراف، ونسمع أكثر عن تلك الشركات التي تنشط خَلْف هذه الإبادة وتسعى لاستمرارها لجنيّ الأرباح. ولكن هذا الضلوع، هذه المُشاركة، قائمة بالفعل. ولو كان ليُوقِف الحرب غداً نتنياهو، اعترضت هذه الشركات على ذلك نتيجة كمية الأرباح التي ستُجازِف بخسارتها إذا ما توقّفت الإبادة واتُّخذ قرار سياسي في هذا الاتجاه.

ولكن أساساً، الأمر غير مطروح على الطاولة، لأن ترامب بحدّ ذاته مَدين تجاه كل هذه الشركات المُساهمة بحملته الانتخابية، وكذلك لوبي "إيباك" في الولايات المتحدة الأمريكية، والجهات المُتعاقدة مع وزارة الدفاع، الأوساط التي تتحكّم به حالياً، وليس هو مَن يتحكّم بزمام الأمور، وإن كان يصوِّر نفسه على أنه صاحب القرار النهائي، لكنه في الواقع يضمن، على سبيل المثال، لمريان أدلسن أن تتحوّل الضفة الغربية إلى قطعة أرض تضمّها إسرائيل في المستقبل، وقد تلقّى 50 مليون دولار لهذا القرار كمساهمةٍ في مساعيه الانتخابية. بالتالي، هو مُلتزم أساساً، ولا خيار له سوى الالتزام أساساً. وهو مُحاط كذلك بحِفْنةٍ من المحافظين الجُدُد الذين يفرضون عليه الأجندة الإسرائيلية.

كل ما تفعله صراحة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط يحصل من العدسة الإسرائيلية، من وجهة النظر الإسرائيلية، ولا استثناء على ذلك. كلما يحدث هنا لأمريكا يهدف إلى حماية إسرائيل. أمريكا بدأت تتلقّى تبعات ذلك، وهي تزداد عُزلتها نتيجة هذا الأمر.

 

كمال خلف: تقرير المُقرّرة =الأممية، سيّد مايكل، يقول التقرير يذكر أن شركة مثل غوغل، على سبيل المثال، أو شركة مثل أمازون، وفّرتا خدمات حَوْسَبة سحابية للجيش الإسرائيلي مقابل 1.2 مليار دولار، رقم كبير جدّاً. وهذا الرقم، وهذا التعاون، يصفه مسؤول إسرائيلي، حسب التقرير، بأنه "سلاح قاتِل، لا يقلّ فتكاً عن الغازات السامّة". ما الذي يجعل غوغل وأمازون يلعبان هذا الدور؟ ولماذا تشكّل خدمات الحَوْسَبة التي تقدّمها هذه الشركات تمثل سلاحاً أكثر فَتْكاً من الأسلحة العسكرية؟

 

مايكل معلوف: ذلك لأن هذه الشركات مُرتبطة بذراعٍ دفاعيةٍ تتعاقد مع وزارة الدفاع الأمريكية. ولا أعتقد أن هذه الشركات تعرف تماماً ما يحدث في هذا العقد وبناء عليه بشكل يومي. ولكنها تقدّم كل المُقدّرات المطلوبة، تماماً كما نقدّم التقنيات التي نمتلكها للجيش الأوكراني بالنسبة إلى الصواريخ طويلة المدى لضرب أهداف في العُمق الروسي.

لولا أقمارنا الاصطناعية التي تُديرها شركات أمريكية مختلفة، ولولا المُقدّرات العسكرية المطلوبة لإدارة هذه الأقمار الاصطناعية، لما حصلت كل هذه الاستهدافات. لكن هذه الاستهدافات هي ثمرة هذا التعاون. وهذه هي منفعة وجود السطوة والهيمنة التكنولوجية.

أساساً، سلاح التكنولوجيا صامت وغير مرئي، ليس ظاهراً كعدوّ مرئي، ولكنه حاضر، حاضر في كل مكان، تماماً كما تأكّد من خلال تقرير التلغراف. لأن هذه التقنيات =حَرِجَة وأساسية جداً في إطار الحرب المُعاصرة، وهي مفيدة على المَدَيين القريب والبعيد. وإن لم تكن مفيدة، لما استخدموها. وهذا ما تواجهه أوكرانيا حالياً في إطار مواجهة روسيا. أوكرانيا لا تتمتّع بالسيطرة على المجال الجوّي، ولا تتمتّع بالصواريخ الطويلة المجال، وهذا ما يستغلّه الروس.

إذاً، الميزة التنافُسية التكنولوجية أساسية وحاسِمة في فن الحرب المعاصرة. ولذلك نرى إسرائيل تلجأ إلى استخدام هذه التقنيات في غزّة ومختلف أنحاء الشرق الأوسط، بدعم أكيد من الولايات المتحدة الأمريكية.

كما قلت لكم، بإمكان أمريكا أن تُنهي ما يحدث غداً، ولكن ترامب لا يتّخذ هذا القرار.

 

كمال خلف: تحويل المجازر إلى مشاريع استثمارية، مسألة في غاية انعدام الأخلاق، ّة، مثل ما نشرته الغارديان، مثل ما تقوله ألبانيزي، الصحافة العالمية، النشطاء، وشخصيات كثيرة تتحدّث عن الدور الذي تقوم به هذه الشركات، الدور غير الأخلاقي، مُنعدم الضمير، لأن هذه الشركات تستثمر في دماء الأبرياء، وتستثمر في استمرار الحروب والتدمير، كما ذكرنا، في أبشع أزمة إنسانية تمرّ في القرن الـ21.

لكن سيّد مايكل، نحن أمام حملات تُشنّ على هذه الشركات، أمام اعتراضات، أمام أصوات، العالم فيه كثير ممّن يملكون الضمير، وكثير =ممّن يحاولون رفع الصوت.

هل تؤثّر هذه الحملات على أرباح الشركات؟ هل تؤثّر على سمعة الشركات؟ هل يمكن أن تُفَرْمل ما تقوم به هذه الشركات؟ أم أن الأموال صوتها أعلى دائماً من أية أصوات أخرى؟

 

مايكل معلوف: صراحة، التحوّل هذا لم يحصل بعد. وكل الشكاوى التي سمعناها لم تبطء من عزيمة هذه الشركات.

وصراحة، الناس في مختلف أنحاء العالم الذين يعتمدون على خدمات شركات مثل غوغل وميتا يعرفون تماماً إلى أيّ حدّ هذه الشركات باتت مُنخرطة بشكلٍ عميقٍ في القُدُرات العسكرية القتالية بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وضالِعة في عمليات قتل الناس.

لهذا السبب، هذه الشركات بحدّ ذاتها ربما يمكنها أن تبقى بعيداً عن الأضواء، إن جاز التعبير، بعيداً عن الخطوط الأمامية. فهي لا تُقدِم على هذه الأفعال مباشرة، ولكنها معنية بتطوير التكنولوجيات المختلفة =المُسْتَخْدمة في العسكر، وبشكل مستمر.

ولذلك، من خلال التنحيّ خطوة وخطوتين، لا تتأثّر بشكل مباشر نتيجة ما يحدث. لا نسمع مثلاً موظّفين في الشركات يقولون: "لا نريد أن نربط إسمنا بهذه الشركة أو تلك"، لأن المال صوته أعلى، كما قلتم.

وعلى كل حال، هي غير موجودة في الخطوط الأمامية، وهي تسعى إلى عقودٍ أكثر لتطوير التكنولوجيات، من دون أن تسأل كثيراً عن كيفيّة استخدامها لاحقاً. وبالتالي، هذا الضلوع، هذا الانخراط، غير واضح الملامِح تماماً بالنسبة إلى الناس. ولذلك، هذه الشركات لا تستشعر الضغط الكبير لكي تكفّ عن أفعالها.

من جهةٍ أخرى، لدينا مثلاً شركة "ستار لينك"، وقام ماسك في مناسباتٍ عدّة بتوقيف خدمة "ستار لينك"، لكن لا نرى شركات أخرى تُقْدِم على وقف خدماتها.

 

كمال خلف: سننتقل إلى الدائرة الثانية، إذا سمحت لنا، سيّد مايكل معلوف.

والدائرة الثانية، مشاهدينا، =عنوانها: التخلّي عن القِيَم – أمريكا تُسْقِط الديمقراطية من خطابها رسمياً.

كيف أسقطت الولايات المتحدة الديمقراطية من خطابها؟ سنتابع ذلك في هذا التقرير.

 

التقرير:

ذات يوم، قالت أمريكا إنها جاءت إلى العالم لتحرّره.

غزت العراق من أجل صناديق الاقتراع، وأحرقت أفغانستان لبناء المدارس.

طالما نصّبت الولايات المتحدة نفسها حارِسة على أخلاق العالم، وقائدة لمسيرة التحرّر الإنساني، فصدّرت الديمقراطية على ظهور الدبّابات، وبشّرت العالم بأن قِيَم الحرية والعدالة ليست خياراً، بل قُدَر يجب أن يخضع له الجميع.

بَنَت تحالفاتها على خُطَب الحرية، وشَرْعَنَت حروبها بشعار "الديمقراطية أولاً".

لكن ما بدا طوال عقود، تبيّن اليوم أنه كان مجرّد ستارة دخانية، سُرعان ما انقشعت مع تغيّر المزاج في واشنطن.

صحيفة واشنطن بوست أزاحت الغطاء عن تحوّلٍ جوهري =بالسياسة الأمريكية، إدارة الرئيس دونالد ترامب، بتوجيهٍ مباشرِ من وزير خارجيته ماركو روبيو، أمرت الدبلوماسيين الأمريكيين بالامتناع عن التعليق على نزاهة أو عدالة الانتخابات في الدول الأجنبية.

بعبارةٍ أخرى: لا مشكلة إنْ فاز طاغية، أو انقلب جنرال، مادامت مصالح واشنطن بأمان.

رسالة صريحة: لا شأن لنا في الديمقراطية، ما لم تخدم مصالحنا.

وفي خطاب رسمي، لم يجد ترامب حَرَجاً في التنديد بمَن سبقوه، لأنهم، كما قال، "أمضوا سنوات في إلقاء المُحاضرات على الآخرين بشأن الحُكم الرشيد."

أما هو، فقد حدَّد مهمّته في دقّة، الدفاع عن أمريكا وتعزيز مصالحها بالاستقرار والازدهار والسلام، لا فَرْض القِيَم.

وبذلك، أسدلت واشنطن الستارة عن رواية لطالما باهَت بها العالم. فالقِيَم التي كانت ترفع عالياً في وجه خصومها، باتت اليوم تَرَفاً لا ضرورة له، بل عبئاً سياسياً يُسْتَحْسَن تجاهله.

التهكّم يبلغ ذروته حين تعلم أن ماركو روبيو، عرَّاب هذا التوجّه الرسمي، كان حتى الأمس القريب من أشدّ المُدافعين عن الحريات، من كاراكاس إلى هونغ كونغ. وإذا سألتهم: لماذا تتكلّمون هنا وتصمتون في موضِع آخر؟ الجواب تجده في التوجيه الرسمي الجديد: استثناءات نادِرة، إذا توافرت مصلحة واضحة ومُقْنِعة.

هكذا إذاً، تغدو المبادئ بنداً فرعياً في صفقات السياسة، تُفعّل أو تُجمَّد بحسب الموقع والمصلحة.

وإذ تَتَقَهْقَر أمريكا عن خطابها الأخلاقي، تتلاشى معها آمال كثير من الشعوب التي ظنّت أن في البيت الأبيض بوصلة، ولو كانت دوماً مختلفة.

لكن يبدو أن مَن بنى ديمقراطيّته على أكوام من الشعارات قد قرّر أخيراً ألا يكلّف نفسه عناء تكرارها.

 

كمال خلف: سيّد مايكل معلوف، كما تقول الواشنطن بوست، التي اعتمدنا عليها في هذه الدائرة، بأن هناك توجيهاً صدر من الرئيس ترامب ومن وزير خارجيّته ماركو روبيو بعدم انتقاد أو الحديث عن الديمقراطيات في العالم، أو انتقاد الانتخابات أو نزاهتها، الخ.

هل نتحدّث هنا، سيّد مايكل، عن تطوّر جديد وتحوّل في السياسة الخارجية الأمريكية، أم أن الأمر لا يعدو امتداداً لنهجٍ سابقٍ كان أقلّ غموضاً حيال هذه المسألة، أو أكثر غموضاً؟

 

مايكل معلوف: أعتقد أن السياسة قد تغيّرت إلى حدٍّ ما منذ عهد إدارة بايدن.

في السابق، كان يجري التركيز على حقوق الإنسان، على الانتخابات الحرّة، وأمورٍ من هذا القبيل، وحتى على موضوع التدخّل في انتخابات الدول الأخرى.

يبدو أن التحوّل كان واضحاً في ظلّ إدارة ترامب، إذ إن ترامب أراد أن يبتعد عن الأبعاد الاجتماعية والإنسانية في إطار العلاقات الموجودة مع الدول الأخرى، وبات يركّز بدلاً من ذلك على التبادُل التجاري، من دون التفكير كثيراً في طريقة تسيير كل دولة لشؤونها الداخلية.

لنرى مثلاً علاقات ترامب مع السعودية، وكم كانت مُقيّدة في ظلّ إدارة بايدن، لأن التركيز كان كبيراً على حقوق الإنسان وقتها، بعد مقتل خاشقجي، والعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد تلقّت ضربة كبيرة في إحدى الحَقَبات سابقاً.

لكن هذا ما عاد يصحّ في ظلّ إدارة ترامب، على سبيل المثال. فيبدو أن هذه الإدارة لا تريد فعلاً أن تنخرط كثيراً في شؤون السياسة الداخلية في بلدانٍ صديقةٍ لها تتعامل معها في مجالات أمنية عدّة. على عكس دول مثل إيران، حيث إن أمريكا لا تزال مثلاً تشتهي أن يحصل تغيير للنظام فيها، تماماً كما تريد أمريكا في إيران وفي بلدانٍ أخرى تتبايَن آراؤها مع إسرائيل.

كما قلت لكم، عندما ننظر إلى ملفات الشرق الأوسط، كل ملف يجري التعامُل معه من العين الإسرائيلية، وكل دولة تشكّل تهديداً لإسرائيل لا بدّ من أن يتغيّر نظامها بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.

 

كمال خلف: لكن هذا الأمر، سيّد مايكل، هنا يتمّ الحديث، حسب الواشنطن بوست وافتتاحيّتها، أن هذا انتقائي، إنما يمكن التوجيه الذي صدر للدبلوماسيين الأمريكيين: إذا كانت هناك مصلحة للولايات المتحدة الأمريكية في الحديث عن الديمقراطية ونزاهة الانتخابات، فلنفعل، وإذا لم تكن هناك مصلحة، فيجب تجاهُل هذه المسألة.

لكن ما تقوله الواشنطن بوست ليس جديداً، حصل في إدارات سابقة كثيرة. أنت تعرف الدول الحليفة هنا في الشرق الأوسط للولايات المتحدة الأمريكية، إنْ كانت دول ديكتاتورية يحكمها ديكتاتوريون، لا يتمّ التعامُل معهم على هذا الأساس، إنما يتمّ التغاضي عن ذلك. دول ليس فيها انتخابات، وليس فيها حريات، وفيها تقييد، الولايات المتحدة تُدير وجهها. ودول أخرى تشبهها، ولكن ليست حليفة للولايات المتحدة، أو تعاكِس سياستها الخارجية، تبدأ الولايات المتحدة بالحديث عن أنها ديكتاتورية وقمعية، وإذا سُجِنَ شخص مباشرة، الولايات المتحدة تثير المسألة. هذا ليس في عهد ترامب، وليس في عهد بايدن أيضاً، هذا كان يسبق هذه العهود بكثير، كما تعرف. لماذا الواشنطن بوست الآن تشير إلى هذه المسألة؟ يبدو لي الأمر يتعلّق بالخلاف داخل الولايات المتحدة، وفي التصويب على دونالد ترامب. مَن يعرف الولايات المتحدة، يعرف أن الكلام عن الديمقراطية دائماً كان انتقائياً، وليس جديداً. لكن الآن، لماذا تتمّ مهاجمة دونالد ترامب على هذا الأساس وتوصيفه بأنه تخلّى عن القِيَم الأمريكية؟

 

مايكل معلوف: كما قلتم، لا بدّ وأن ننظر إلى مصدر هذا الخبر، واشنطن بوست، صحيفة ليبرالية، نيو ليبرالية إلى حدّ كبير. بالتالي، كل ما تقوم به إدارة ترامب ستعترض عليه هذه الصحيفة، وذلك لأن إدارة ترامب أساساً لا تسلّط الضوء على المسار الذي يهم واشنطن بوست، تحديداً البُعد الإنساني أكثر في التعاطي مع الأمور، وموضوع نشر الديمقراطية من وجهة نظر واشنطن بوست وعلى الطراز الذي تتبعه هذه الصحيفة. وأساساً، بات من الصعب جدّاً على أحد أن يفهم اليوم ما هو تعريف الديمقراطية بالنسبة إلى واشنطن. فهي انتخابات حرّة، ولكن ذلك يعتمد على كل بلد، كما ذكرتم. بلدان كثيرة قد عرفت انتخابات، ولكن هل هي حرّة أم لا؟ ولا يعود الأمر لأمريكا لتحدّد ذلك. كل بلد يحقّ له أن يقرّر مصيره الخاص.

ولكن الولايات المتحدة الأمريكية، بفعل هيمنتها، تحاول بالفعل أن تفرض طريقتها في الحياة على شؤون الآخرين. وهذا أساساً أفضى بنا إلى أن نواجه الكثير من المشكلات الدولية في الماضي.

مرات عدّة حاولنا أن نتلاعَب بانتخابات، مثلاً، لم نكن ندعمها حتى في إيران في خمسينات القرن الماضي، خلال حُقبة مصدّق، وقمنا بالإطاحة بحكومة مُنْتَخَبة شرعياً، لماذا؟ لأن إيران كانت تميل أكثر إلى الاتحاد السوفياتي وقتها. وقمنا أيضاً بالإطاحة برئيس مُنْتَخَب شرعياً في تشيلي منذ سنوات، خلال إدارة نيكسون.

إذاً، أمريكا لا تعترض على هذا النوع من الأفعال، وهذا النوع من التدخّل، إنْ كان يخدم مصلحتنا، مصلحتنا القومية، ويخدم سياستنا الخارجية. وخاصة وأن أمريكا تستشعر نفسها كقائدةٍ لهذا النظام العالمي الجديد، لذلك ترى أنها قادرة على صنع قواعد، وعلى كَسْر القواعد عندما تريد.

رأينا ذلك يحصل مراراً وتكراراً، عندما انتهكت الولايات المتحدة الأمريكية معاييرها الدولية الخاصة بها التي أرستها أساساً للدول الأخرى. وهذا ينسحب على الكثير من الملفات التي طُرِحَت في الأمم المتحدة.

نحن أساساً شاركنا في نشأة الأمم المتحدة، لكن بالنسبة إلينا نراها بلا قيمة سوى أن تكون بوقاً لنشر بعض السرديّات، والأفعال كذلك، ما عادت تتدخّل في حلّ المُنازعات كما كانت تنشط سابقاً. كل ذلك كان نتيجة مَن هو في سدّة الرئاسة. وطالما تمتلك أمريكا حقّ النقد، لن يُسوَّى ولن يُعالَج أي ملف، على نشأة أيّ نظام عالمي مُتعدّد الأقطاب.

في ظلّ إدارة روسيا، الصين، إيران، وكذلك دول عدّة، تقريباً 40 دولة تسعى إلى تفعيل مجموعة البريكس لتكون مجموعة مُعزّزة بمُشاركة دول أخرى، وتنشئ نظاماً مالياً خاصاً بها، فقد سئمت بالفعل هذه الهيمنة الأمريكية، هذا النظام العالمي الأحادي الذي تُديره الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يُبقي هذه البلدان بحال تبعية، ولمواجهة العقوبات الأمريكية.

 

كمال خلف: سيّد مايكل معلوف، كل مرحلة أمريكية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترفع فيها شعاراً، والشعار عادة ما يرتبط، أو تحاول أن يكون مربوطاً بالقِيَم، بالقِيَم الإنسانية المشتركة، لأن الولايات المتحدة تعتبر نفسها تمثّل الحضارة الغربية، الحضارة الغربية التي تدعم الإنسانية وتحافظ على الإنسانية والسلام في هذا العالم. هذه الشعارات عادة ما ترفعها الولايات المتحدة، تكون مُرتبطة بهذه المنظومة الغربية المُتقدّمة في العالم. رفع شعار مُكافحة الإرهاب عندما بدأ الغزو على أفغانستان، ورفع شعار نشر الديمقراطية عندما تمّ احتلال بغداد. الآن، ما هو الشعار الذي يُرْفَع للسياسة الأمريكية؟

نرى أن الأمريكيين يدعمون حكومة في سوريا لم تجرِ انتخابات، وجاءت من رَحْم تنظيم القاعدة. نرى بأنهم في المقابل يواجهون بعض النماذج التي يمكن أن تكون ديمقراطية أو بداية ديمقراطية بالعداء في المنطقة العربية.

ما هو الشعار؟ وهل نستطيع أن نقول إنه زمن شعارات، الزمن الذي تُرْفَع فيه الشعارات الأخلاقية، انتهى في الولايات المتحدة؟

 

مايكل معلوف: طالما سنسمع =بشعاراتٍ كثيرة لتبرير ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن هذه الشعارات تشكّل غطاءً ليس أكثر، لتقوم أمريكا بتنفيذ مصلحتها.

كما قلتم، لما تدعم أمريكا حكومة سورية من رَحْم القاعدة؟ نحن أساساً ساهمنا في إنشاء القاعدة وداعش، لأنها تخدم أهدافنا وأهداف إسرائيل. ولكن كما قلتم، هي غير مشروعة، غير قانونية، وأساساً الحكومة السورية تشكّلت بفعل انقلاب خارجي في عَتْمَة الليل، ومن خلال الإطاحة بالحكومة المُنْتَخَبة شرعياً. ولكن أمريكا تدعم هذه الحكومة اليوم، وقد أسقطتها من قائمة المنظّمات الإرهابية أساساً، وإنْ كان مَن يرأسها هو إرهابي، وأساساً هذه الحكومة بطبيعتها وبتشكيلتها إرهابية. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن سوريا ستنعم بالاستقرار غداً. على العكس، أتوقّع لها أن تكون أكثر تقلّباً، وذلك في الأشهر القليلة المقبلة، نظراً لتعقيدات المصالح المشتركة والمُتباينة بين دول المنطقة مثل تركيا وإسرائيل، وعما قريب هذه الدول قد تصطدم في ما بينها على الساحة السورية. وما الذي ستفعله أمريكا عند ذلك؟ لا شيء، بكل بساطة، ستواصل تشجيع هذه الحكومة وبعض الجهات الأخرى.

 

كمال خلف: سنتوقّف مع فاصل، بعده أنا وأنت، أستاذ مايكل معلوف، سنتابع كيف ستكون تداعيات هذه التحوّلات في الولايات المتحدة الأمريكية؟ فاصل ونعود.

 

كمال خلف: تحيّة من جديد، مشاهدينا، في "دوائر القرار".

وصلنا للدائرة الأخيرة في حلقة اليوم، وعنوانها: التَبِعات الداخلية والعالمية للتحوّلات الجذرية في أمريكا.

مشاهدينا، في الماضي، كانت واشنطن ترتدي قِناع القِيَم وتخوض حروبها تحت لافِتة نشر الديمقراطية، احتلّت العراق باسم الحرية، غزَت أفغانستان لتحرير المرأة، حاصَرت غزّة دفاعاً عن حقّ إسرائيل في الأمن.

لكن الآن، تخلع الإدارة الأمريكية القِناع، وتعلن صراحة أن الدفاع عن المصالح هو فوق القِيَم، وأن الصمت على الاستبداد أمر مشروع، بل مُسْتحَبّ ربما في بعض الأماكن، إن كان يخدم واشنطن.

في الداخل، لم يعد هذا التحوّل مجرّد جَدَل في الإعلام الأمريكي، بل صار تصدّعاً في المؤسّسة. أما في الخارج، فالعالم يطرح أسئلة المآلات؟ لنرى التداعيات، ونبدأ من تداعيات الداخل.

تزايد الاستقطاب السياسي حول معنى دور أمريكا في العالم.

في الداخل، انهيار ثقة الشباب الأمريكي بمؤسّسات الدولة والإعلام والشركات الكبرى.

في الداخل، صعود دعوات إلى محاسبة التكنولوجيا الكبرى في الكونغرس بسبب تورّطها في دعم الإبادة.

وفي الداخل، تنامي الحركات الاحتجاجية داخل الجامعات الرافِضة لسياسات البيت الأبيض تجاه فلسطين.

أما بالنسبة إلى العالم الخارجي، فما هي التداعيات؟ 

انكشاف الهيمنة الأمريكية، انكشاف أخلاقياً أمام حلفائها الأوروبيين مع تزايُد النقد العلني لسلوكها.

تمكين روسيا والصين من توسيع نفوذهما الخطابي والسياسي عبر الخطاب البديل الأخلاقي.

إضعاف قُدرة واشنطن على قيادة تحالفات دولية طويلة الأمد.

تعميق فجوة الثقة بينها وبين الشعوب العربية، ولا سيما الدول المُطبّعة أو الحليفة لواشنطن.

نتحدّث عن نماذج من هذه التداعيات.

سيّد مايكل معلوف، أولاً نبدأ من التداعيات الداخلية لهذه التغييرات في السياسة. هل فعلاً ستزيد من الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة، خاصة لدى التيّارات الليبرالية الديمقراطية التي تعتبر بأن مسألة القِيَم الغربية مسألة قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية، والتخلّي عنها يعني أن هناك طَعْناً في الهوية؟

 

مايكل معلوف: يبدو أن هذه الأزمة بدأت تتبلور حالياً، لا سيما في أوساط الشباب الأمريكي الذين يبحثون عن هذه =القِيَم التي لطالما رفعتها الولايات المتحدة الأمريكية. ونراهم كذلك يتأثّرون في ما يحدث في الخارج، وهم لا تعجبهم الظروف الراهنة، ولا يقبلون بما يحدث للناس في غزّة، وهي إبادة جماعية أساساً. ولكن نظراً للدور الأمريكي، وكذلك الارتباط باللوبيات الإسرائيلية، ينظر إلى أيّ اعتراض على هذه السياسة على أنه مُعاداة للسامية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، إذا ما جرى اتّهامك بمُعاداة السامية، يعني أنك بكل بساطة ما عدت من الفريق أو من أهل الدار، وبتّ من الغرباء. وإن كان الناس هنا يتبجّحون بحرية التعبير، فإنها الفزّاعات التي تُسْتَخْدم ضدّ الأشخاص الذين يعترضون على الحرب في غزّة. ما يفسّر هذا الواقع ورفع راية مُعاداة السامية هو ما يُفْزِع الكثير من الناس. في حين أن الوضع مختلف تماماً.

أتذكّر مثلاً خلال إدارة أوباما، أننا إذا ما اعترضنا على سياسته كنا نُنْعَت مباشرة بأننا عُنصريون، لأنه رجل ذو بشرة سمراء، ولكن هكذا يتصرّف في الحُكم أمر خاطئ تماماً.

لكنها السردية نفسها التي تُسْتَخْدَم اليوم، ونرى ذلك يحصل: إذا ما اعترضتم على سياسة إسرائيل بأية كلمات، تُنْعَتون بمُعاداة السامية، وهذا يضعكم في خانة المعارضة المختلفة تماماً. يجري التنديد بكم والتنكيل بكم، وأساساً تنهال عليكم الانتقادات والتهديدات من جانب حتى بعض اليهود، وتُحْرَمون من أمورٍ كثيرةٍ على مستوى مسيرتكم المهنية ووظائفكم، الخ.

بالتالي، هذا الأمر بات يؤثّر في مبادئنا الديمقراطية الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية. هنا نتيقّن تماماً مدى تأثير ذلك، وكيف أن ذلك مع الوقت سيؤدّي إلى تآكُل حقوقنا الأساسية. ولا بدّ لأحد بين الحين والآخر من أن يذكّر الناس بذلك. ولذلك، على الأقل، نظام المحاكم مستقلّ، ويسمح لنا بالطعن في هكذا قرارات. فلولا الاستقلالية في القضاء، لما تمكّنا من الديمقراطية.

 

كمال خلف: سيّد مايكل معلوف، الأسبوع الماضي كنت أتابع على الهواء، على هواء الميادين، كنت أغطّي تظاهرة في نيويورك ترفض الإبادة في غزّة وتندّد بسياسة التجويع الإسرائيلية في غزّة، وكانت كل التظاهرة من اليهود الأمريكيين، وكانوا يرتدون قمصاناً مكتوباً عليها: "الصمت على الجوع جريمة"، وكانوا يردّدون شعارات: "الحرية لفلسطين". كنت أتابع هذه التظاهرة على الهواء مباشرة. مسألة أن يكون اليهود في العالم، أن يتخلّى اليهود في العالم، وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية، أو قسم كبير منهم، عن هذه السياسات غير الأخلاقية، أو محاولة عدم وضع اليهود كغطاءٍ لهذه السياسات. أنت كنت تقول: مسألة مُعاداة السامية، أي مُعاداة اليهود. إسرائيل عادة تخلط بين سياستها وعمليات عسكرية وبين هذا المفهوم، المفهوم الأخلاقي: أن ترفض أن يكون، أن ترفض الهولوكوست، وهو بطبيعة الأحوال مفهوم أخلاقي. هل تعتقد أن هذا يمكن أن يكون تحوّلاً؟

وموضوع الجامعات أيضاً، الذي كان يُنْظَر إليه على أنه تظاهرة عابِرة، وإذ به ظاهرة، أصبح لدى الأكاديميين الأمريكيين في الجامعات العريقة مثل جامعة كولمبيا، على سبيل المِثال، الأزمة مستمرّة؟

 

مايكل معلوف: صراحة، أعتقد أن الشعب اليهودي اليوم بات =مُنقسماً. اليهود بصورة عامة بين الخط الصهيوني المُتطرّف والناس العاديين المُعتدلين. هم ينظرون لما يحدث في فلسطين، وبدأوا يتأثّرون كذلك بهذا السؤال. بالطبع، هم لا يوافقون على ما يحدث. ونتيجة ذلك، أدّى الأمر إلى انقسامٍ فعلي في أوساط اليهود بحدّ ذاتهم، وليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل كذلك في إسرائيل. نتيجة ذلك، أكثر فأكثر نرى أصواتاً يهودية تدعو إلى إطعام الناس وعدم دفعهم نحو حَتْفهم بلا رحمة، لأن السياسة التي تطبّقها إسرائيل اليوم لا تختلف بشيء عن سياسات ألمانيا النازية عندما قامت بقتل مجموعة إثنية كاملة عن بِكرة أبيها. وهذا يحدث من جديد.

وإذاً، ومع ذلك، لسوء الحظ، لا يزال هناك بعض المُتطرّفين في إسرائيل الذين لا يكترثون لهذه السرديّة، نتيجة تفسيراتهم المُتطرّفة الخاصة بهم للتوراة والإنجيل، وتيمّنهم بفكرة "المماليك"، وأنهم شعب الله المختار، ويحقّ لهم أن يسحقوا كل الشعوب الأخرى، إحلالاً لسطوتهم على الأرض، واسقاطهم لكل شخص ليس جزءاً من الشعب المُختار، فهو بكل بساطةٍ حيوان، صوّر لهم كبشر لكي يطيقوه. وهذا يؤكّد مثلاً ما يقوم به جنود الجيش الإسرائيلي، وكيف أن بعض الجنود يهاجمون الحاخامات المُعترضين على الحرب.

ولذلك، اليهود في أمريكا ينظرون لما يحدث ويقولون: "هذا التطرّف غير مقبول". ولذلك نشهد أخيراً على انقسامٍ يحصل حتى في أوساط اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبرون أن ما يحدث ليس بالأمر السار.

ومن جهةٍ أخرى، لدينا الديمقراطيون اليهود الذين عبّروا دوماً عن اعتراضهم على نتنياهو المُتطرّف، وتجلّى ذلك من خلال رئيس الأكثريّة في مجلس الشيوخ شومر، وهو يهودي، واعترض دوماً على السياسات المُتطرّفة لناتنياهو، لكنه بالطبع ليس في مكانة السلطة تقدّم.

 

كمال خلف: قبل أن ننهي الحلقة، لأنه بقي معي وقت قليل، بالنسبة للتداعيات الخارجية، نحن اعتمدنا بعض المعايير في الحديث. ما هي السيناريوهات والتداعيات الخارجية للتحوّلات التي تجري في أمريكا؟ كانت من ضمنها مسألة التبايُنات مع أوروبا، مع حلفائها الأوروبيين. البعض يقول إن هناك تزايُداً للنقد العلني للولايات المتحدة من قِبَل شركائها الأوروبيين في سياسات وفي مسائل تتعلّق =بالقِيَم، وفي تبايُنات حتى في السياسات تجاه بعض الدول التي الولايات المتحدة الأمريكية تتغاضى عن انتهاكات داخلها، وغيره. هل لهذا قيمة برأيك، سيّد معلوف؟

 

مايكل معلوف: إنْ كنا نتحدّث عن المبادئ الديمقراطية للولايات المتحدة الأمريكية مُقارنة مع دولٍ أخرى في العالم، تحديداً في أوروبا الغربية، المؤكّد هو أننا نشهد على انحلال للحقوق، وذلك في كل مكان، وحتى في الأوساط الأوروبية، هناك الكثير من الدول تزداد استبداداً وسُلطوية. ولذلك سمعنا نائب الرئيس جاي ديفانس منذ بضعة أسابيع يتّهم أوروبا بذلك بشكلٍ علني. ولكن هذه الظاهرة تحدُث كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية.

لديّ أصدقاء في المملكة المتحدة مثلاً، يواجهون خطر السجن لأنهم بكل بساطة عبّروا عن رأيهم وعن اعتراضهم لسياسة الحكومة المتبّعة تجاه أوكرانيا، ونتيجة ذلك يخضعون حالياً للتحقيق، بكل بساطة، للتعبير عن رأيهم. وهذا يحدث في إنكلترا، في المملكة المتحدة. تخيّلوا! ولكن مظاهر كهذه بدأت تحدث أيضاً في فرنسا، في ألمانيا، أناس يعبّرون عن آرائهم بشكلٍ مُعتاد، ما عادوا قادرين على استكمال حياتهم بطريقةٍ مُعتادة. وحتى يحدث ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية.

إذاً، ربما هو المفهوم التقليدي للديمقراطية الذي تلاشى، وما عاد موجوداً، ولذلك نراه حالياً يندثر، وبات أقرب إلى السراب.

 

كمال خلف: أشكرك، سيّد مايكل معلوف، المُحلّل السابق لدى البنتاغون، كنت معنا مباشرة من واشنطن.

مشاهدينا، إلى اللقاء.