التجويع المتعمد: حصار غزة وجرائم العصر
تشهد غزة اليوم مأساةً إنسانية كبرى حيث يُمارَس التجويع كجريمة ممنهجة تحاصر ضمائر العالم، لكنها تؤلم أكثر كل نفس عربية. الجوع في غزة ليس مجرد نقص طعام، بل هو تجويع متعمد هدفه تهجير السكان وتغيير التوازن الديموغرافي لصالح الاحتلال. الأطفال يموتون جوعًا، والعالم عاجز أمام هذه المأساة التي تشبه كربلاء في وقعها الإنساني والديني، وتُثبت فشل المجتمع الدولي والإنساني في حماية حقوق الفلسطينيين. هذه المأساة تلاحقنا جميعًا في ضمائرنا، وتؤكد ضرورة رفع الحصار ودخول المساعدات بشكل كامل وغير مشروط، لإنقاذ غزة من الموت البطيء. ورغم الألم والجوع، يظل الفلسطيني صامدًا، يُعيد تعريف الصبر والأمل على طريق نصرٍ مستحق يُولد من قلب المأساة.
نص الحلقة
حمدين صباحي: تحية عربية طيبة، مشاهد الجوع في غزة تحاصر كل ضمير في العالم الآن، لكن وقعها شديد المرارة على كل نفس عربية.
الجوع في غزة يطاردنا ويحرم كل إنسان سوي من أن يستطيع يستمتع بلقمة يأكلها أو يعطيها لأولاده.
أطفالنا في غزة يموتون من الجوع. مأساة مكتملة. هذا الوجع الذي نعيشه ونشعره هو انعكاس لألم الفلسطيني: رجال ونساء وأطفال، المحروم من حقه في لقمة. كربلاء جديدة في هذا العصر.
مأساة التجويع في غزة هي وثيقة إدانة لكل عربي ومسلم وإنسان، لكل دولة ومؤسسة دولية، وهي وثيقة عجز للإنسانية أمام جريمة بشعة لا يقبلها ضمير، ولا يقرها قانون، ولا يمكن أن يبررها عقل.
ومع ذلك، جميعنا مكتوفو الأيدي، والموتى يتزايدون كل يوم.
ما في غزة ليس جوعًا، تجويع، وهو جزء من طريقة عمل للكيان الصهيوني، الذي لها أهداف واضحة في التهجير، والضم، وإعادة تقديم الميزان السكاني ما بين الفلسطيني ومغتصب أرضه من ناحية أخرى.
مأساة الجوع ستلحقنا حتى ينتفي الجوع بدخول تام، كامل، غير مشروط، لكل أشكال المساعدة، وهو المطلب الذي رددناه طويلاً، وعجزنا عنه طويلاً، وحتى يتحول هذا الصبر العظيم الفلسطيني، الذي حرك العالم بأسره ليقف معه، إلى خطوة صعبة قطعها على طريق أن يسترد لقضيته معناها، ويمضي للأمام، رغم كل هذه المأساة، نحو نصر يستحقه، يولد من قلب مأساة التجويع.
حمدين صباحي: الجوع كافر، لكن أهل غزة مؤمنون، مؤمنون بقضيتهم، مؤمنون بحقهم، بوطنهم، والمعاناة التي هي أقرب لملحمة يخوضوها منذ سنتين، كما خاضوها من قبل منذ ثلاثة أربع قرون في كل فلسطين، هي وقت الشدة الكبرى الآن في غزة.
طبيعي أن العدو الصهيوني، المجرد من أي أخلاق، يستخدم هذا الجوع الكافر كسلاح ضد شعب مؤمن بقضيته.
ونحن لسنا أمام مشاهد تقطع القلب، وهي كذلك، أو قضية إنسانية، وهي بالفعل قضية إنسانية، بل نحن أمام أسلوب مدروس، ممنهج، من أجل تحقيق أهداف الصهيونية في تصفية قضية فلسطين.
نحن أمام تجويع متعمد، المفروض أن الصهيوني يمارسه بوعي، متعمد، يقصده.
هذه جريمة مع كل سبق إصرار، وهدفها يؤدي إلى ثلاثة أمور: التهجير، والضم، وهندسة سكانية جديدة.
لكن صمود غزة المعجز، وبسالة ناسها، ومقاومتها في مواجهة خطة التهجير، والرفض العربي للتهجير، بالذات من مصر، أوقف هذه المؤامرة حتى الآن، رغم كل ما ألقي على غزة من كمية من الأسلحة والمتفجرات الأمريكية.
إذاً، ليُدخل التجويع سلاحًا من أجل تنفيذ التهجير، عندما طرحوا في المفاوضات الأخيرة التي فشلت أنهم ينشئوا شريطًا حدوديًا بامتداد حدود غزة، عمقه يتراوح من 1 إلى 3 كيلومتر، ويُقدم أو ينتزع حوالي 40 في المئة من مساحة غزة، يريدون تنفيذ هذا الضم، وهذه خطة، لأنهم سيكملون فيما بعد على الباقي.
التجويع أحد آثاره أنه يلحق ضررًا بالتوزيع السكاني، في هجرة داخلية في غزة، وعندما يشتد الجوع، الناس تلجأ للأماكن التي يمكن أن تجد فيها قدرة على إطعام أولادها.
هذا التفريغ السكاني في مساحات معينة من قطاع غزة هو جزء من خطة، أن هذا التفريغ يُيسّر على العدو الصهيوني ضم واقتطاع مساحات من القطاع.
ثالثًا، وهذه نقطة مهمة جدًا في صراعنا ضد العدو الصهيوني، التي تُسمى الحرب الديمغرافية أو الحرب السكانية.
العدو الصهيوني يريد إنشاء هندسة جديدة، ربما نقول هندسة عكسية في التوازن ما بين عدد العرب أصحاب الأرض، وعدد المستجلبين والمستوطنين الذين جاؤوا من شتات الدنيا حتى يغتصبوا فلسطين من اليهود.
هؤلاء الصهاينة قطعوا شوطًا طويلًا، بعدما كانوا أقلية هامشية جدًا قبل 1948، الآن الوضع في فلسطين شبه متساوٍ، لأن عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية 7 مليون وستة من عشرة تقريبًا، منهم 2 مليون في أرض 48، وفيهم ثلاثة من عشرة في الضفة، و2 مليون وثلاثة من عشرة في قطاع غزة.
هذا العدد يقابله عدد شبه مماثل أو قريب من اليهود، الذين هم سبعة وواحد من عشرة مليون يهودي.
تعرف الحركة الصهيونية جيدًا، كما يعرف كل الناس في الدنيا، أن عدد السكان في أي صراع هو جزء رئيسي من عوامل حساب توازن القوى وإمكانات النصر.
تعاني إسرائيل، هذا الكيان المغتصب، خوفًا عميقًا من أن يأتي يوم يصبحوا فيه هم أقلية، ولذلك هم يرفضون حل الدولة الواحدة، وتكون ثنائية القومية، تضم العرب واليهود، وتكون دولة لكل سكانها، لسبب جوهري: لا يستطيعون ضمان، لو كانوا فعلاً كما يدعون نظامًا ديمقراطيًا، أن لهم الأغلبية.
ثانيًا، الصهاينة في جزء من عقيدتهم يريدون بناء دولة خالصة لليهود، دولة للعنصرية، هذه دولة فصل عنصري بالتعريف، بموجب القانون الذي أصدروه: أن هذه دولة خالصة لليهود.
لا يريدون قبول فيها غير اليهود، وإذا وجدوا اضطرارًا كالعرب الفلسطينيين الموجودين في هذا الكيان الآني، يبقوا مواطنين من الدرجة الثانية.
هنا هذا الصراع على العدد، على السكان، الصراع الديمغرافي، يقتضي أساليب مستمرة من الكيان الصهيوني حتى يخفض عدد العرب باستمرار، ويرفع عدد اليهود والصهاينة باستمرار.
جزء من وعينا بهذا الصراع أن نحرص على أن ندرك البعد السكاني في صراعنا مع العدو الصهيوني، هو أيضًا يفهم هذا.
لذلك، ربما بعد الهزيمة العسكرية في 1967، التي رفضنا أن نستسلم لها بإرادة شعبية وبإصرار على مواصلة الحرب، في مؤتمر الخرطوم الذي عُقد بعد 1967، كان الزعيم جمال عبد الناصر واضحًا في أن كل فلسطيني اضطر إلى أنه يُشرد من وطنه يستقبل بترحاب في أي بلد عربي، لكن لا يُعطَى جنسية، حتى تبقى الأهمية بأن يبقى فلسطينيًا بالمعنى القانوني.
يُقدَّم له كل ما يستحقه كشقيق وأخ وصاحب قضية من دعم، لكن يبقى فلسطينيًا حتى يعود، وحق العودة مقرّ بالشرعية الدولية وبقرار الأمم المتحدة.
عدد الفلسطينيين في الشتات خارج فلسطين التاريخية ستة وسبعة من عشرة مليون، هؤلاء جميعًا لهم حق العودة بالنون، ومحرومون منه بقوة الأمر الواقع وبآلة الحرب الوحشية الصهيونية التي تمنعهم، وبالعجز العربي عن أن نُمكّنهم من حقوقهم.
مطلوب أن يتم محو هؤلاء، محوهم مستحيل، تقليل عددهم، نقتلهم بالنار، بالسلاح، غير كافٍ، نقتلهم بالتجويع.
لذلك، التجويع الذي نراه الآن في غزة هو سلاح من أسلحة الإبادة الجماعية، وهو أرخص سلاح، أرخص سلاح بالمعنَيين: أرخص من حيث تكلفته المالية، لأن التجويع لست مضطر أن أدفع به ثمن الصاروخ، ولا ثمن الطائرة، ولا ثمن القنبلة المتفجرة، وأبرم اتفاقات بالمليارات، حتى أمريكا ترسل لي أسلحة أدمّر بها الشعب الفلسطيني، وأواصل ارتكاب الإبادة الجماعية. وهو أيضًا أرخص سلاح بالمعنى الأخلاقي، لأنه قتل منحط.
التجويع ليس مجرد أنك تفقد الناس قدرتها على الاستمرار على قيد الحياة، لكنه موت بطيء، معذب، قاسي، ومهين للكرامة، ممكن أن يجعل الإنسان يتخلى عن قيامه، عن كرامته، عن روابطه الأسرية والاجتماعية، عن ترابطه المجتمعي.
لذلك، التجويع هو أرخص سلاح يمارسه أرخص كيان، وأحط كيان في الدنيا، ضد الشعب الفلسطيني.
حمدين صباحي: أرخص سلاح للإبادة: التجويع، مستمر في غزة.
كل دقيقة تمر، نحن مدانين أكثر، مزيد من الضحايا من أصحاب الحق، ومزيد من العجز من المسجونين الذين هم الأمة العربية، في طليعتهم.
استمرار الإبادة بالتجويع في غزة يجعلنا نحن كعرب، على رأي عنوان معبر للأستاذ طلال سلمان في أحد كتبه، أنه يضع العرب خارج عروبتهم: عرب خارج عروبتهم، طالما هم يتفرجون على مأساة لا تعجيز في غزة دون أن ينصروا ويُنصروا لها.
الصمود في معركة فلسطين كلها، وبالذات في حرب الإبادة للتجويع، يعيد إثبات حقيقة نحن معتمدون، لكن نود أن يكون معها، لا نتركها وحدها.
أن صمود الشعب الفلسطيني هو حجر الأساس في الحفاظ على قضيته، وبالذات صمود المرأة الفلسطينية العظيمة، الباسلة، المذهلة.
نساء فلسطين، رغم التجويع، يصمدن ويكسّرن أهداف العدو، ويواصلن هذه الحرب الشريفة بأمعاء خاوية وأرحام عامرة.
منير البرش – دكتور ومدير عام وزارة الصحة بقطاع عزة: غزة تلفظ أنفاسها الأخيرة، عندما نتحدث عن مئة شهيد يوميًا، معدل، كنا قد سجلنا في وزارة الصحة أكثر من 60 ألف شهيد بأسمائهم الرباعية، وكنا وثقنا هذه الأسماء.
كنا نتحدث عن 18500 منهم من الأطفال، 30 في المئة من الشهداء أطفال، أكثر من 9000 امرأة كانت من الشهداء أيضًا. الحقيقة الاحتلال الإسرائيلي يتفنن في قتل الفلسطينيين، يتنوع في القتل، إما بالقتل جوًا أو بحرًا أو في مصائد الموتى. نحن يوميًا نتلقى العشرات من المصابين والشهداء من مصائد الموت هذه، أثقلت وزارة الصحة. نحن نتحدث أن العديد من شهدائنا الآن يموتون على الهواء مباشرة.
نستغيث أمام العالم لأطفال مجوعين بالصورة وبالصوت، ومن بعد يوم أو يومين نجد أنهم قد استشهدوا، لأننا نعرف أنه لا يوجد أدوية خاصة لهؤلاء في سوء التغذية. لا يوجد المحاليل العلاجية، أنواع المحاليل بجميعها بتركيزاتها غير متوفرة، الـ TPN Solution غير متوفرة، الأنشور الابدشرو، كل هذه الأشياء من الأدوية الأساسية الخاصة بسوء التغذية غير متوفرة في هذه اللحظات.
نحن نتحدث عن قتل بصمت، ومجازر بصمت، وجوع بصمت أمام العالم كله.
كانت صنفت الأمم المتحدة تصنيفاتها الدولية لتصنيفات المجاعة، نحن وصلنا إلى المرحلة الأخيرة، على اعتاب المرحلة الخامسة للمجاعة. دخل ما يقارب أكثر من 90 بالمئة من السكان المحليين في سوء التغذية.
سوء التغذية أيضًا يُصنف تصنيفات أخرى: سوء التغذية الطبيعي، وسوء التغذية المتوسط، وسوء التغذية الحادة.
نحن سجلنا بوزارة الصحة أكثر من 28 ألف شخص يعانون سوء التغذية الحاد، وهذا الرقم حقيقة مخيف جدًا، لأن هذا العدد سيأتي مباشرة إلى المستشفيات، وندخل في المرحلة النهائية، وهي المجاعة الكلية.
سيموت الناس جماعات، إن لم يتم دخول حليب علاجي، وفتح المعابر، ودخول الغذاء والدواء لأبناء غزة، سيموت الجميع بمجاعات على الهواء مباشرة.
تقرير: لم يعد صعبًا الاستدلال على أن الإبادة الجارية في غزة، والمترافقة مع حملة تجويع منهجية، كانت هدفًا واضحًا لإسرائيل منذ اليوم الأول من الحرب.
هي أصلاً لم تجتهد كثيرًا لإنتاج هذا المشهد، فالخطط المجنونة موضوعة في دروج ورفوف منذ عقود، وتنفيذها لم يحتج سوى إلى بعض التحديثات. فالخبرة في القتل والتنكيل عمرها 80 عامًا فأكثر.
منذ اللحظة الأولى لتدمير المستشفيات والمراكز الصحية، كان واضحًا أن الاحتلال لا يريد لمن يُصاب أن يُعالَج، ولا لمن يبقى حيًا أن يجد دواء، ولا لمن يبحث عن مستقبل أن يفكر في وجوده أصلاً.
فضرب مراكز الصحة والتعليم والخدمات يعني إلغاء الحياة المدنية بين الغزيين، بعد أن ألغت إسرائيل الصفة البشرية عنهم.
هكذا صارت مستشفيات غزة معالم للموت، لا للاستشفاء أو الحياة، وتحولت ساحات عدد منها إلى مقابر، فضلًا عن مشهد حضانات الأطفال الخدج الشهداء، ثم أغرقت الغرف والاقسام والمباني، بل قصف الجرحى في أسرتهم وفي غرف العمليات.
في المحصلة، تحولت أسماء مثل الشفاء، والعودة، وكمال عدوان الأندونسي، وشهداء الأقصى، وناصر، والأوروبي، إلى ذكريات مؤلمة، وأطباؤها إلى أسرى أو شهداء، أو حتى أسرى شهداء تحت التعذيب.
لاحقًا امتد القتل ليشمل مبدأ الحصول على الطعام. فمن بين أكثر من 59 ألف شهيد مطلع تموز (يوليو) من عام 2025، هناك أكثر من ألف شهيد قضوا نحبهم أثناء انتظار المساعدات أو البحث عن قليل من الأكل والماء.
على أن سجل الجنون الإسرائيلي لا يزال حافلاً بمزيد من قتل من يبحث عن مساعدات، وبمزيد من المقابر الجماعية.
الخلاصة أن إسرائيل هي نتاج هجين للاستعمار في كل أصنافه: القديم، والحديث، وما بعد الحديث.
وما جرى في غزة أولاً، والضفة المحتلة، وسائر مناطق فلسطين والدول العربية ثانيًا، ليس سوى تكثيف لأكثر من سبعة عقود من احتلال فلسطين، بل هو خلاصة لكل ما أبدع الاحتلال طوال تاريخ البشرية من صنوف العذاب والقتل بأحدث آلات اخترعتها البشرية.
حمدين صباحي: التجويع كسلاح إبادة يمارسه الكيان الصهيوني بمنتهى التحدي للقانون الدولي وللقيم الإنسانية.
الإبادة عبر التجويع كانت جزءًا من تقاليد الحرب طوال التاريخ، لأن كثيرًا من تجارب الحرب في التاريخ كانت قائمة على مفهوم الحصار: تحاصر مدينة ويُمنع عنها كل مدد، بما فيها طبعًا الغذاء، لكي تسقط وتستسلم.
من حصار يوليوس قيصر 52 قبل الميلاد، وما عبر بتجارب هذه البشرية من أشكال الحصار، يمكن أوجعها وأظهرها حصار النازي لينينغراد أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي استمر من سنة 1941 وحتى سنة 1944، وتتراوح التقديرات عن عدد الذين توفوا جراء الجوع فيه بين مليون إلى مليون ونصف، وخصوصًا أن البرد القارس رافق هذا التجويع المتعمد، لكن صمدت هذه المدينة العظيمة، وأصبحت أسطورة صمود، وهي بصمودها لهذا الحصار، رغم الضحايا، هي التي كانت السبب الرئيسي في انكسار النازي وهزيمته في الحرب العالمية الثانية. كما ستكون غزة بإذن الله بصمودها الأسطوري سببًا لانكسار وحشية الكيان الصهيوني الآن.
البشرية تنبهت، فأخذت تضع التجويع على مستوى القانون كجريمة حرب.
هذا بدأ يتضح ويأخذ أساسًا قانونيًا من اتفاقية جنيف 1949، إلى بروتوكولها الإضافي الأول سنة 1977، ثم نظام روما، وهو النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في 1998.
عندما أقامت جنوب إفريقيا دعواها ضد إسرائيل، والتي انتهت بحكم واضح باستجلاب نتنياهو ووزير دفاعه باعتبارهما مرتكبي جرائم حرب، أيضًا أشارت في دعواها لاستخدام التجويع كسلاح للإبادة.
لكن رغم هذه النصوص القانونية والحكم القاطع بالإدانة، لا يزال الكيان الصهيوني يخرج لسانه للشرعية الدولية وللعالم وللنظام الدولي.
الحقيقة حرب الإبادة التي نشهدها في غزة الآن تكاد تكون وثيقة دامغة على فقدان النظام الدولي لوظيفته ومؤسساته، ومنها الأمم المتحدة، وقدرتها على إنفاذ هذا القانون.
هو موقف يقود الشرعية الدولية، كما هو يجرف شرعية الأنظمة العربية ودول العالم الإسلامي، التي أعلنت أنها ستُفّض الحصار وتكسره، ثم عجزت تمامًا عن أن تفعل ما قررت.
وليس هناك إدانة أكثر لهذه الأنظمة من عجزها عن إنقاذ غزة من جريمة التجويع.
كما كل مجرم مدان يحاول أن يغطي جريمته ويدعي البراءة، الكيان الصهيوني في جريمة الإبادة بالتجويع يحاول أن يقوم بنفس الكلام.
هو الذي أغلق معبر رفح من الجانب الفلسطيني واحتله واعتدى عليه بالتدمير 4 مرات، أغلق كل المعابر، ووقف ضد الأونروا، المنظمة المعنية من قبل الأمم المتحدة، ومنعها من النشاط.
وحتى يداري جريمته، أفلح ما يُسمى "مؤسسة غزة الإنسانية".
سيد واتكوف، مبعوث ترامب، الذي أغلق المفاوضات مع حماس رغم المرونة الهائلة التي قدمتها حماس احترامًا لأوجاع شعبها ومسؤوليتها عنه، والتي وافقت على مقترحات الوساطة المصرية القطرية عدة مرات.
واتكوف هذا الذي أعلن أنه لا توجد إمكانية لاتفاق لأنه يجاري وينصاع لإرادة نتنياهو في إدارة هذا الاتفاق، هو نفسه، عندما أصبح غضب العالم واضحًا جدًا ضد جريمة الإبادة الجماعية واستخدام التجويع كسلاح رخيص فيها، جاء واتكوف وقام باستعراض الحقيقة، مبتذل ومكشوف، بأنه زار، في حماية الجنود، مقر توزيع للمساعدات لمؤسسة غزة هذه الإنسانية.
طبعًا، كلما يضعون كلمة "إنسانية"، تعرف من الكذب أنها ضد أي قيمة إنسانية.
هذه مؤسسة مشبوهة بكل معنى الكلمة، وراءها تصوّر استخباراتي أمني إسرائيلي أمريكي مشترك، تأسست سنة 2025، مسجلة نفسها في سويسرا، في جنيف، وديلاوير في الولايات المتحدة، وليس لها مقر في سويسرا على فكرة.
هذه المؤسسة تعمل على أربع نقاط توزيع، كلها في الجنوب، لماذا؟ لأنه المطلوب أن من يود أن يأكل من الجوع ينتقل في إطار تفريغ شمال غزة من سكانها إلى الجنوب سعيًا وراء لقمة يأكلها، وعندما يسعى للقمة يتم اغتياله بدم بارد.
450 فلسطيني استشهدوا، أكثر من 3500 جريح، وهم يقفون في طابور المساعدات أو الإغاثة الإنسانية في مؤسسة غزة، حتى وُصفت، عن حق، بأنها كمائن أو مصائد لقتل الفلسطينيين المجوعين.
15 منظمة حقوقية دولية، في رسالة للأمم المتحدة، أدانت مؤسسة غزة هذه، واعتبرت أن عملها غير إنساني وفتّاك بالفلسطينيين، والأمم المتحدة رفضت التعامل معها. مديرها نفسه قدم استقالته وقال: "لا أستطيع أن أطبق معايير الحيدة والنزاهة والإنسانية في ممارسة عملي".
نحن عندما نبقى أمام مثل هذه المؤسسة، التي ترتكب باسم الإغاثة جرائم، ويرعاها الأمريكان ويحركها الصهاينة، ويأتي واتكوف يقوم باستعراض، كما لو أنه وينشر أرقام ملايين الوجبات التي قدمها عن طريقها، هذا الخداع المكشوف للإنسان في كل مكان، للرأي العام العالمي، لا ينطلي على أحد.
جريمة الإبادة بالتجويع، كما بأسلحة الدمار الأخرى، ثابتة على الكيان الصهيوني، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية، الشريك الكامل في هذه الإبادة، رغم كل التصريحات الجميلة، لكن القتل هو حقيقة الموقف الصهيوني والأمريكي.
ناتاشا بيرك موزار – رئيسة سلوفينيا: سأتجرأ على قول هذا هنا واليوم في البرلمان الأوروبي، نحن نشهد إبادة جماعية في غزة، نحن نشهدها ونبقى صامتين،
حمدين صباحي: القتل، ثم القتل، ثم القتل.
الإبادة بالسلاح وبالتجويع، منهج الصهاينة، يتكشف من خطط واحدة منها التي تبلورت بعد طوفان الأقصى، التي تُسمى في الأوساط الإسرائيلية "نتساح يسرائيل"، ومعناها "اليهودي الأبدي المنتصر"، وتسميتها ذات طابع توراتي، لأن كلمة "يرا" تعني "يمين" في إسرائيل.
أن غزة هي جزء من إسرائيل الكبرى، يرى البعض أنها غلاف يهودا والسامرة، وهي بالتأكيد في المعتقد الصهيوني قلب إسرائيل، ومن ثم لا بد أن يسيطر على غزة.
"نتساح يسرائيل" هي خطة، هدفها الهيمنة الصهيونية على غزة، بتفريغها من السكان، والتجويع هنا لاعب رئيسي في هذا التفريغ، بتقسيمها بمحاور أمنية حتى تكون مفتتة، ليُيسّر تفريغ أجزاء منها، بالذات الشمال، بإنشاء مناطق عازلة ومناطق آمنة، أو تسميها إسرائيل آمنة، لتجميع الغزاويين، أهل فلسطين، فيها.
وجزء أيضًا من هذه الخطة أن تنتهي إلى ضم فعلي لغزة.
الضم القانوني يحدث آثارًا على الكيان الصهيوني، الضم الفعلي يجنبه الملامة الرسمية، لكن تبقى هي المهيمنة على قطاع غزة.
هذا هدف "نتساح يسرائيل"، جزء من تصوراتها أيضًا طريقة إدارة غزة، إدارة تسميها مدنية، يشترط فيها من الجور أن تكون منفذة لما يريد الكيان الصهيوني، يعني أداة إدارة غير صهيونية لتحقيق أهداف صهيونية.
شروط الصهاينة الواضحة في إخراج حماس والمقاومة من غزة، معلنة: من يدير غزة؟ السلطة الفلسطينية؟ لا.
طبعًا، التعبير الصهيوني واضح: "لا فتح استان ولا حماس استان".
حتى السلطة، التي يذهب جميع المنصفين إلى أنها تؤدي أدوارًا في خدمة الاحتلال الصهيوني بتنسيقها الأمني معه، إسرائيل لا تقبلها. لا تريد سلطة، ولا تريد حماس، لأن جوهر الفكرة أنها لا تريد أي تمكين سياسي فلسطيني. لا بد أن يبقى الشعب الفلسطيني بدون تمثيل سياسي: لا موحد، ولا موزع، ولا مختلف، ولا متفق. على الفلسطيني أن يبقى أفرادًا مشرذمين تحت الهيمنة والإدارة والدم الصهيوني، دون تمثيل سياسي لهم.
هذا فراغ سياسي مقصود في خطة "نتساح يسرائيل"، من أجل التفكيك، التهجير، الضم معلنًا، والأفضل أن يكون غير معلن.
هذه الخطة التي تعمل الآن، هذه الخطط لم تفلح الآن، رغم شراسة ورخص الإبادة، وبالذات سلاح التجويع.
الوقوف ضد جريمة الإبادة، وبالذات التجويع، هو الآن ليس أمرًا لأهل غزة وحق على كل الناس، لهم هذا أمر لكل إنسان، حتى يوقظ ضميره، حتى لا يؤدي شعوره بالتقصير إلى الانفجار.
هو أمر ضميري، حتى يبقى الإنسان إنسانًا، والعربي عربيًا، والمسلم مسلمًا، وصاحب الضمير صاحب ضمير. مطلوب إجراءات عملية، وليس مطلوب فرجة.
هذا وقت امتحان، وهو ملقى على الجميع، أولًا على الدول العربية والإسلامية، التي اجتمعت في نوفمبر 2023 في قمة في الرياض، واتخذ وزراء الخارجية قرارات: غير الإدانة، ودعوة مجلس الأمن، وغيرها مما هو دبلوماسي، كان لهم قرار واحد ذو قيمة عملية، قابل للاختبار: هو إدخال كل المساعدات إلى غزة، وفتح المعابر، وفك الحصار عليها. حتى الآن، لن تنجح هذه القمة في تنفيذ قرارها. 57 دولة، منهم 22 دولة عربية، قرار واحد ذو قيمة عملية، فشلوا في تطبيقه. هل معقول كل هذا العجز؟ وممكن أن يستمر ونحن نرى مشاهد هذه المقتلة، المخمصة، الزغبة، التجويع؟ لا بد من عمل، والعمل له أساليب كثيرة.
في إمكانية هذه الدول على الأقل كانوا فرضوا قطعًا تامًا لعلاقات التبادل التجاري مع الكيان الصهيوني.
تركيا فعلت هذا، كانت خامس دولة في التبادل التجاري مع إسرائيل، رغم أنها من الدول التي تطرح نفسها قيادة في العالم الإسلامي، لكن مطلوب دور.
انخفضت قيمة هذا التبادل 90 في المئة في سنة 2025 قياسًا بـ2024.
لكن كل دولة عربية وإسلامية لها علاقات مع الكيان الصهيوني، وحتى الآن تقبل على نفسها، مع هذا التجويع وهذه المقتلة، أن تصدر وتستورد، وتطعم إسرائيليين وتشربهم، وأهلنا في غزة جوعى، عطاشى. هذا لا يُقبل. مطلوب إجراء، إجراء واضح عملي. هذا فقط نموذج له.
والدول الـ57 التي تجمعها جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي، عليهم أن يتعلموا من مجموعة لاهاي، التي ليس فيها، عندما تأسست من 7 دول هذه السنة، ولا دولة عربية ولا إسلامية، لكنها تأسست بوعي إنساني أن مواجهة حرب الإبادة على غزة تحتاج لتحرك من أصحاب الضمائر في العالم، الذين يريدون الإبقاء على معنى لقيم القانون في هذا العالم، وعلى قيم الضمير الإنساني.
مجموعة لاهاي، التي عقدت لها قمة الشهر الماضي، تموز، في العاصمة الكولومبية بوغوتا، بقيادة مشتركة من جنوب إفريقيا، اللاعب الرئيسي في هذه المجموعة، وكولومبيا، لديها موقف قاطع ضد العدوان الإسرائيلي، تريد إخضاع الكيان للشرعية الدولية، تريد تنفيذ قرارات وأحكام محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدولية، موقفها واضح في أنها ضد تسليح العدو الصهيوني، ضد تسيير أي بواخر تحمل أسلحة لإسرائيل، تريد أن تطبق على إسرائيل، ككيان إبادة جماعية ومجرم حرب مدان، ودولة فصل عنصري، مقطوع بأنها دولة أبارتايد، معايير القانون الدولي.
ولأن قضية فلسطين وما نشهده في غزة تمس كل صاحب ضمير، بالذات لو لديه وازع ديني، مما تعطيه الأديان من قيمة روحية عظيمة، فأنا أعتقد أنه من الضروري أن نحن نخاطب أصحاب الضمائر، وهم كثيرون في العالم المسيحي، من أجل حملة دولية تقودها الكنائس من أجل إنقاذ غزة من التجويع.
لدينا رئيس الأساقفة المطران حنا عطالله، وهو صوت مسيحي من الروم الأرثوذكس، فلسطيني عظيم، عروبي عظيم، لديه صوت مسيحي معتبر، يرى في غزة ما يراه كل صاحب ضمير، وكل إنسان عربي مسلم أو مسيحي.
خطاب بابا الفاتيكان ليو الـ14 واضح وقاطع في وقوفه ضد الإبادة، ضد التجويع، مع غزة، دعوته لسلام حقيقي لإنهاء ما تعانيه غزة اليوم، هذا مدخل ملائم لحملة دولية للكنائس العالمية، لأنها تستطيع بحكم مكانتها وتأثيرها أن تلعب دورًا ربما تعجز عنه منظمات ودول أخرى.
لدينا دور لا بد أن يلعب بالقانون، تلعبه جمعيات حقوقية واتحادات، وعلى الأخص اتحاد المحامين العرب ونقابات المحامين العرب، لأن يكون القانون الدولي والمحاكم الدولية طرفًا في إحكام الحصار على الكيان الصهيوني وتعريته.
الكيان الصهيوني في أضعف حلقاته في تاريخه، ومنكشف ومفتضح أمام الضمير الإنساني، والشاهد على هذا هذه العظمة في الشعور الجماعي، المعبر عن مظاهرات شبه مليونية في العالم، آخرها ما شهدناه في أستراليا، هذا الحضور المبهر للجماهير تنتصر لفلسطين وتُدين إدانة قاطعة نظام الإبادة الجماعية في الكيان الصهيوني.
في ظل هذه البيئة العالمية، نحتاج دورًا للمنظمات الحقوقية، وهذه فرصة للمنظمات الحقوقية، بالذات العربية، التي ارتبطت سمعتها بأنها تدافع عن قيم ليبرالية وبعيدة عن قيم التحرر والاستقلال والقضايا الوطنية.
فلسطين الآن فرصة لتلعب هذه المنظمات الحقوقية دورًا من أجل حق الإنسان الأول: حقه في الحياة، في قضية ذات طابع وطني وقومي، فيها عدالة، وبحث عن الاستقلال وعن التحرر الوطني. هذا دور مطلوب.
ثم هناك دور رئيسي على مصر، بكل قيمة مصر، وبكل قدر مصر. مصر تعرضت في الآونة الأخيرة لحملة ظالمة تتهمها بأنها مسؤولة عن تجويع غزة وعن حصارها وعن إغلاق المعابر. مصر لم تغلق المعبر، إسرائيل من أغلقته، من الناحية الثانية، ولا هي تجوع، ولا ينبغي لها أن تجوع أهلها في غزة. الحقيقة مصر غير مسؤولة عن تجويع غزة، لكن مصر مسؤولة عن إشباع غزة. ليست مسؤولة عن حصار غزة، لكن مسؤولة عن فك حصار غزة. مسؤولية مصر هي أن تنهي هذا الحصار الظالم، لأنها بالجغرافيا، وبالتاريخ، وبما أعطته عبر هذا الصراع العربي الصهيوني الطويل، هي المسؤول الأول عن غزة إنسانيًا ودينيًا ووطنيًا وقوميًا.
خمسة حروب على غزة خاضها العدو الصهيوني، كانت مصر سندًا، وتمكنت، ليست فقط بالشعب الذي مشاعره أكيدة، بأجهزة الدولة، أن تمد غزة بإمكانيات الصمود في الخمس حروب الإسرائيلية، طوال الحصار، بالماء، والغذاء، والدواء، والسلاح، والخبرات، هذه موجودة عند الدولة المصرية، ونطلب الآن منها أن تستخدمها جميعًا، لأننا في لحظة امتحان، ستُكرَّم فيها هذه الأمة أو تُهان.
عصام الإسلامبولي – خبير قانوني ومحامي بالنقض: الجرائم الجنائية في مفهوم أو جرائم الحرب في مفهوم القانون الدولي لها تعبير واسع، يتسع لكل وسائل الإجرام.
يقول إن الانتهاكات الجسيمة على الأفراد أو على الكيانات يمكن أن تدخل في نطاق جرائم حرب: الإبادة، التجويع، التهجير القسري، ضرب المنشآت الطبية والصحية، والتجمعات، كل هذا يدخل في تعميق انتهاكات جسيمة، وبالتالي هي تشمل كل الإجراءات التي تتم.
نحن بصدد حالة فريدة في التاريخ الدولي. أنا أعتقد أن هيئة الأمم المتحدة فشلت أخطر بمراحل مما فشلت به عصبة الأمم.
لكن طالما هذا الكيان موجود، أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أصبحا دولًا مارقة، خارجة عن القانون الدولي، بل الولايات المتحدة تباشر دور البلطجة في العالم، وأيضًا إسرائيل، طبعًا، البلطجة الدولية، إلى درجة أن المحكمة الجنائية الدولية تدين رئيس حكومة الكيان الصهيوني وتدعو إلى القبض عليه وإيقافه، والولايات المتحدة تتحدى هذا القرار الصادر من محكمة الجنائيات الدولية وتحميه، وبعض الدول أيضًا التابعة للولايات المتحدة الأمريكية.
طالما منظومة الدول الدولية هي الموجودة وهي المعمول بها الآن، لن نستطيع أن نحقق شيء.
المحكمة الجنائية الدولية تصدر قرارًا بالتحقيق في هذه الوقائع، تقدم الأدلة وتسمع شهودًا، كل وسائل الأدلة التي تطرح على المدعي العام، عندما يتحقق من وجود هذه الأدلة وأنها سليمة وغير مشوبة بأي نوع من أنواع الانحراف، يطرح الأمر على المحكمة الجنائية، وتحتكم بشأنه حكمًا فيه ممكن إيقاف عضويتها في هيئة الأمم المتحدة، والعقوبة الأشد قد تصل إلى فصل عضويتها من هيئة الأمم المتحدة، وفصل عضويتها من هيئة الأمم المتحدة يجردها من أي حماية دولية.
حمدين صباحي: سجل أنا عربي، سُلبت كروم أجدادي وأرضًا كنت أفلحها، أنا وجميع أولادي، ولم تترك لنا ولكل أحفادي سوى هذه الصخور. فهل ستأخذها حكومتكم، كما قيل؟
إذًا سجل برأس الصفحة الأولى، أنا لا أكره الناس، ولا أصطنع على أحد، لكنني إذا ما جُعت، أكل لحم مغتصبي. حذاري، حذاري من جوعي ومن غضبي.